أيام في غوانتانامو (الأخيرة) - غوانتانامو: بوابة تشهد على حربين

أسلاك شائكة وألغام على الجانبين ولافتات تحذر من تصوير أبراج المراقبة * ترفض كوبا منذ 1960 تلقي 4 آلاف دولار بدل الإيجار السنوي الذي تدفعه الولايات المتحدة مطالبة باسترداد غوانتانامو

TT

اكتسبت منطقة غوانتانامو بكوبا شهرة عريضة بعد أن ذاع صيت القاعدة العسكرية الأميركية هناك بعد احتجاز المشتبه فيهم في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وكثيرا ما وصفها الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بأنها «خنجر في جسم كوبا». وعدد المنشآت السياحية في غوانتانامو قليل فلا أحد يرغب في أن يقضي عطلته إلى جوار هذا المعتقل، وهناك شواطئ رملية ساحرة تطل على مياه البحر الكاريبي، يذهب اليها الضباط والجنود اثناء العطلات، وعلى بعد عشرات الياردات يشم السجناء داخل زنازينهم رائحة الهواء المنعش القادم من البحر ليلا. ولكن الاغنية الشهيرة «غوانتاناميرا» التي تخاطب فتاة جميلة من غوانتانامو سمعها الكثيرون، وهي أغنية معروفة في العالم، ترددت في القارات الخمس، قبل ان يصل اول سجناء «القاعدة» الى كوبا عام 2002.

وتحتل القاعدة الأميركية مساحة 6117 كيلومترا مربعا وهي مكان محدود من مقاطعة غوانتانامو الكوبية، وترد في ذهن الكثيرين فور سماع اسم غوانتانامو صور بثتها أجهزة الاعلام عن المتهمين المكبلين بالأصفاد والأسوار الشائكة العالية والجنود الأميركيين، ولكن غوانتانامو بها أكثر من هذا بكثير. ومن أكثر المناطق شهرة في غوانتانامو، الجزيرة التي يحتجز فيها سجناء «القاعدة» وطالبان في معسكر دلتا، وهناك متحف غوانتانامو، بالقرب من بوابة نورث ايست غيت، التي تربط غوانتانامو بكوبا البلد الأم، وهي في الوقت ذاته شاهد على سنوات الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وحاليا شاهد على حرب الارهاب بوجود المعتقلين فيها.

تعتبر غوانتانامو البحرية آخر قاعدة عسكرية أميركية في أميركا اللاتينية، وهي تقع على الساحل الجنوبي الشرقي لكوبا. ورغم بقاء هذه القاعدة نقطة خلاف أساسية بين الدولتين، إلا إنها تمثل أيضا بشكل لا يخلو من المفارقة موضع لقاء بين العسكريين الأميركيين والكوبيين.

وتطالب حكومة فيدل كاسترو منذ قيام الثورة الكوبية باستعادة الجيب الأميركي الذي تعتبره من آثار الاستعمار الإسباني. وكان البعض يخشى أن يثور غضب الحكومة الكوبية بعد إعلان وصول المعتقلين من مقاتلي طالبان إلى «القاعدة»، خاصة أن فيدل كاسترو كان قد انتقد الحرب في أفغانستان، على الرغم من إدانته لهجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة.

وتبدأ قصة غوانتانامو قبل نحو مائة عام وبالتحديد في عام 1903 حينما قبلت كوبا التخلي عن هذه المنطقة، الواقعة في أقصى جنوبي شرق البلاد وعلى مسافة حوالي ألف كيلومتر من هافانا، لجارتها الصديقة آنذاك الولايات المتحدة، كبادرة امتنان من الكوبيين، للدعم الذي قدمه الأميركيون لهم أثناء المقاومة الكوبية للاحتلال الإسباني وذلك في مقابل إيجار سنوي قدره أربعة آلاف دولار. ومن اللافت للنظر أن الحكومات الكوبية المتعاقبة لم تقم بصرف أي شيك من الشيكات التي ما زالت الولايات المتحدة تقدمها لها حتى الآن، وذلك في إشارة إلى اعتراضها على الوضع الراهن. ويقول الكابتن دان بيار المسؤول الاعلامي للقاعدة البحرية الاميركية ان مبلغ الايجار الذي ترفض هافانا تسلمه ربما وصل الى الملايين في البنوك الاميركية. وغوانتانامو على مقربة من أراضي الولايات المتحدة فهي تبعد حوالي 90 ميلا فقط عن ولاية فلوريدا. كما يمتلك الجيش الكوبي قاعدة عسكرية مجاورة لها على مساحة تبلغ حوالي 20 ميلا يحظر الكوبيون دخولها، وكما كانت مسرحا لإظهار الكراهية بين الكوبيين والأميركيين حين اعتاد الجنود الموجودون في القاعدتين المتجاورتين التراشق بالحجارة وتبادل الشتائم في ما بينهم لفترات طويلة.

وكانت الولايات المتحدة قد استشعرت خطرا شديدا من كوبا أربع مرات على الأقل، دفعها إلى فرض حالة الاستعداد القصوى في القاعدة التي شعر الأميركيون أنها ستكون هدفا رئيسيا للكوبيين أو من يساعدونهم.

وكانت المرة الأولى أثناء الثورة الكوبية عام 1906، ثم الثورة الثانية التي قادها الرئيس الحالي لكوبا فيدل كاسترو ورفيق كفاحه تشيه غيفارا عام 1959 ثم أثناء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 وأخيرا في عام 1964 بعدما أمر الرئيس كاسترو بقطع إمدادات المياه عن القاعدة مما دفع الأميركيين فيما بعد إلى إنشاء محطة لتحلية المياه وفرت الاكتفاء الذاتي من مياه الشرب لقاعدة غوانتانامو. وما زال انبوب المياه المكسور الذي كان يجلب المياه من كوبا موجودا على الارض. وكان الجنرال جون باكلي قد أمر بقطع المياه عن المعسكر عام 1964 بسبب مزاعم كوبية للاميركيين بسرقة المياه من الاراضي الكوبية وطالب سلاح المهندسين التابع للجيش بالاعتماد على النفس وانشاء محطة لتحلية المياه داخل القاعدة البحرية الاميركية. وحين اندلعت أزمة الصواريخ السوفياتية في أكتوبر (تشرين الاول) عام 1962 دافعة بالعالم إلى شفير حرب نووية، قامت فرقة من 18 ألف جندي كوبي بحراسة غوانتانامو وتم زرع المنطقة المحيطة بها بالألغام. ومع انتهاء الحرب الباردة، فقدت القاعدة أهميتها الاستراتيجية وباتت تستخدم بصورة أساسية كمعسكر تدريب.

وعلى الرغم من تقلص أهمية قاعدة غوانتانامو البحرية مع أفول نجم الاتحاد السوفياتي السابق ومن ثم انفراد الولايات المتحدة بالعالم وتحولها إلى القطب الأوحد، عادت هذه البقعة إلى دائرة الضوء مجددا بعد نقل أسرى القاعدة وطالبان إليها.

«الشرق الأوسط» زارت بوابة نورث ايست غيت، التي تربط ما بين كوبا الارض «الام» وجزيرة غوانتانامو. الاسلاك الشائكة وابراج المراقبة العالية من على الجانبين و8 الغام باقية في الجانب الاميركي آلاف الالغام في الجانب الكوبي في البر والبحر شاهدا حيا على سنوات الحرب التي ما زالت باقية في الاذهان. واعادت الكوربوال ماليسا، 19 عاما، عقارب الزمن الى الوراء وهي تقص على «الشرق الأوسط» سنوات التوتر بين الجانبين، ودلالة رسم رمز البحرية الاميركية على الارض، واختطاف راؤول كاسترو شقيق الزعيم الكوبي لـ 23 من افراد البحرية الاميركية لمدة 23 يوما، وتهديد اميركا بطرد 3 الاف عامل كوبي يعملون في كوبا. وعلى مدخل بوابة نورث ايست غيت هناك سيارتان قديمتان لعجوزين كوبيين ما زالا يأتيان كل صباح الى غوانتانامو، حيث يعمل احدهما في مطعم كوبا كلوب والآخر في متجر للثياب. وهناك تعليمات مشددة للصحافيين بمنع تصوير ابراج المراقبة على الجانبين، بل ان افرادا من مكتب الامن التابع للقاعدة البحرية، رافق الوفد الصحافي للتاكد من عدم مخالفة التعليمات الامنية المتعلقة بتصوير ابراج الحراسة واختراق الاسلاك الشائكة. وفي الجانب الكوبي يمكن رؤية زراعات الموز والسكر والذرة بالاضافة إلى الغابات الكثيفة التي يصل طول النخيل فيها إلى 40 مترا في بعض الاحيان.

وأعلى بوابة نورث ايست غيت عبارة كتبت بالاسبانية وتعني «جمهورية كوبا أرض لم تطأها اميركا» بحسب السرجنت جافي ويلي الذي رافق «الشرق الأوسط» في اخر يوم زيارة الى معسكر غوانتانامو. ومع مرور الوقت بدأ بعض الكوبيين بفقدان الأمل في استعادة القاعدة مرة أخرى حتى أن أحد كبار العسكريين في كوبا الجنرال خوسي سولار هيرنانديز شكك في وجود أي نيات عدوانية أو هجومية لدى الأميركيين حاليا معربا عن أمله في إنهاء النزاع بالطرق السلمية.

والغريب في الامر ان مسؤولي القاعدة الاميركية يشيرون الى ان أول صور تسربت لمعسكر اشعة اكس كانت من الجانب الكوبي، إذ استطاع عدد من الصحافيين الاميركيين على احد التلال العالية المطلة على الحدود وبفضل الكاميرات المزودة بعدسات لاقطة مقربة نقل للعالم اول صور للسجناء وهم في طريقهم الى غرف الاستجواب الشهيرة على التلة القريبة من بوابة المعسكر.

واليوم يشعر الكوبيون أن التعايش حضاري عند مدخل القاعدة الشمالي الشرقي، المعبر الوحيد إلى غوانتانامو، مشيرين الى الشريط الأبيض العازل الذي يلتقي فيه العسكريون الكوبيون والأميركيون، كل طرف برفقة مترجميه مرة كل شهر». ويخرج ضابط كبير بالبحرية الاميركية من الاسطول الأميركي مرة واحدة شهريا من احد البوابات بالقاعدة البحرية المعزولة التي يقودها بخليج غوانتانامو مقابلة نظيره الكوبي على الجانب الآخر من السياج الذي تعلوه أسلاك شائكة معقدة من الصعب اختراقها.

ويتبادل الرجلان التحية قبل أن يبدآ مناقشاتهما في مبني صغير تابع لاحدى المنشآت الأميركية أو في منشأة كوبية بحسب من يحل عليه دور المضيف.

وتتيح مثل هذه المقابلات للجانبين فرصة إثارة قضايا تتعلق بالعلاقات الحساسة في هذا الركن من تلك الجزيرة الشيوعية وهو وجود قائم في هذا المكان قبل عقود من اعتلاء عدو الولايات المتحدة اللدود الزعيم الكوبي فيدل كاسترو السلطة عام 1959.

ويبقى هذا التاريخ أحد الموروثات النادرة لتراث الحرب الباردة بقي هو في حين انهار سور برلين وانهارت الشيوعية في أوروبا الشرقية.

وتحولت غوانتانامو من احدى النقاط الساخنة للحرب الباردة إلى جبهة علاقات عامة في أحدث الصراعات العالمية وهي الحرب على الارهاب. ولان أكثر من 400 من المشتبه فيهم في هذه الحرب محتجزون في الجانب الأميركي من السياج فان غوانتانامو أصبحت المحور الرئيسي للانتقادات الدولية ومزاعم بانتهاك حقوق الانسان.

وليس هناك ثمة شك في أن القاعدة ستجذب المزيد من الضوء والانتقاد بعد انتحار ثلاثة من النزلاء وهي أول حالات وفاة تقع في غوانتانامو منذ وصول السجناء إليها قادمين من أفغانستان أوائل عام 2001.

وعلى الرغم من ذلك فان ثمة إيقاع يومي للحياة في القاعدة الأميركية ليس له علاقة بالجدل الدائر بشان هذا المعتقل، حيث تجري لقاءات بين ضباط كوبيين واميركيين من هذا النوع منذ 10 سنوات وتستهدف حل كافة أنواع سوء الفهم أولا بأول وقبل أن تتحول إلى عداوات. ويقول السرجنت ويلي لـ«الشرق الأوسط» هذا بالضبط ما نحاول ان نتلافاه». فإذا ما أراد الأميركيون أن يقوموا بعمليات إصلاح في السياج الذي يمتد بطول 28 كيلومترا فإنهم ربما يحبذون إخطار الكوبيين بالامر.

كما أنهم يتصلون ببعضهم البعض للحوار بشأن المهاجرين الكوبيين الذين يفرون إلى القاعدة وبشأن تدريبات مكافحة الحريق المشتركة أو الملاحة التجارية التي تتدفق عبر الميناء الذي يسيطر عليه الأميركيون إلى الميناء الكوبي. وثمة خط ساخن بين الطرفين يمكنهما استخدامه في حالات الطوارئ العاجلة.

* غوانتانامو: اكتفاء ذاتي بـ10 آلاف عسكري و450 معتقلا

* قاعدة غوانتانامو البحرية الاميركية تقع، داخل جيب اميركي تبلغ مساحته 117 كيلومترا مربعا في جزيرة كوبا. وتقع هذه القاعدة في جنوب شرقي كوبا على بعد نحو الف كيلومتر من العاصمة الكوبية هافانا وكانت لا تضم سوى 500 عسكري قبل اقامة معسكر الاعتقال فيها في كانون الثاني (يناير) 2002. اما اليوم فهي تضم نحو عشرة الاف من العسكريين والموظفين.

وقد مر على قاعدة غوانتانامو نحو 760 معتقلا لا يزال منهم حاليا 450 في السجون، ولم توجه التهم رسميا سوى الى عشرة منهم، في حين لم تجر محاكمة احد.

وفي 1934 تم التوقيع على اتفاقية بين البلدين تؤجر فيها كوبا القاعدة للولايات المتحدة مقابل اربعة الاف دولار سنويا، على الا يستطيع اي طرف بمفرده نقض الاتفاقية.

ومنذ 1960 ترفض كوبا تلقي بدل الايجار السنوي الذي تدفعه الولايات المتحدة وهي تطالب باسترداد هذا الجيب الاميركي في أراضيها.

واستقبلت غوانتانامو بين 1994 و1996 عشرات الالاف من لاجئي القوارب من كوبا ومن هايتي التي تبعد نحو 350 كلم. ولا تعتبر اجهزة الهجرة الاميركية غوانتانامو أراضي اميركية.

وافتتح المعتقل في الحادي عشر من يناير 2002. وينتمي المعتقلون فيه الى نحو ثلاثين بلدا غالبيتهم اعتقلوا في افغانستان في خريف العام 2001 وهم متهمون بالانتماء إما الى حركة طالبان او تنظيم القاعدة.

وهم لا يخضعون لأي قوانين ولا يتمتعون باي ضمانات قضائية. وتصاعدت الحملات خلال الفترة الاخيرة في كافة انحاء العالم مطالبة باغلاق هذا المعتقل.

وقبل عمليات الانتحار الثلاث الاخيرة جرت محاولات انتحار فاشلة عديدة كما حصلت اضرابات عن الطعام كان اولها في ربيع العام 2002 واخرها في مطلع يونيو الجاري والتزم به عشرات المعتقلين.

وتعيش هذه القاعدة في شبه اكتفاء ذاتي فهي تولد الكهرباء الخاصة بها وتملك محطة لتحلية مياه البحر، ويتم تزويدها بالمؤن عن طريق البحر من جاكسون فيل في ولاية فلوريدا جنوب شرقي الولايات المتحدة.

وقد تراجع التوتر على طول السياج المحيط بالقاعدة منذ انتهاء الحرب الباردة وبرغم انتقادات كاسترو الدائمة للولايات المتحدة فان الجيشين يعيشان جنب إلى جنب في سلام.

ويعتبر كاسترو القاعدة غير شرعية. بيد انه بموجب اتفاق تمت آخر مراجعة له عام 1934 فان عقد إيجار القاعدة لا يمكن نقضه إلا بموافقة الطرفين.

ويرفض الرئيس الكوبي صرف الشيكات الأميركية بقيمة إيجار القاعدة والذي يبلغ 4085 دولارا سنويا بل يلقي بها في أحد أدراج مكتبه.

وحتى الان فان الولايات المتحدة لم تبد نية في التخلي عن موطئ القدم هذا والذي يدعم عمليات البحرية الأميركية في الجزء الغربي من الكرة الارضية فضلا عن الحرب على المخدرات في كافة أنحاء أميركا اللاتينية.