أدباء سعوديون: ترك بصماته في أعمال الروائيين وجيل الشباب اكتشفه بعد نوبل

TT

عبّر عدد من الأدباء السعوديين عن حزنهم لرحيل الأديب الكبير نجيب محفوظ، معتبرين أن مسيرة الروائي العربي الراحل كانت تسطيراً لتاريخ طويل مرت به مصر والعالم العربي الذي يعتبر انعكاساً لها، استطاع من خلالها الأديب الراحل أن يسجل أحداثها ويومياتها، ويواكب التطور الزمني والتاريخي والسياسي الذي مرّ به المجتمع العربي. وتحدث المثقفون السعوديون عن التأثير البارز لأعمال نجيب محفوظ على البنية الروائية السعودية، كونه ألهم جيلاً من الروائيين والمثقفين، كما ساهم في تطوير صورة وشكل وموضوع الرواية هناك.

فيما يلي أبرز آراء الأدباء السعوديين حول تجربة الأديب الراحل، وتأثيره على المحيط العربي والسعودي بنحو خاص. خال: وجدتُ نجيب محفوظ صدفة

* يجيب الروائي السعودي عبده خال على سؤال «الشرق الأوسط» عن تأثير أعمال نجيب محفوظ على الرواية السعودية، وتأثيره على رواياته شخصياً بقوله: «إن الإجابة على هذا السؤال تفترض أن نكون ملمين بنفسيات الكتاب السعوديين أنفسهم وليس اعمالهم فقط، ونحن هنا اذا اغفلنا هذا الالمام سنكون محتاجين لتوطئة، نوضح فيها وجهات المنتمين الى السرد في السعودية التي لم تكن في فترة الثمانينات وحتى قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل (1989) قبلتهم مصوبة باتجاه نجيب محفوظ باعتباره بنظرهم كاتباً تقليدياً لا يحقق لهم رغبة (التجاوز)، فقد كانت وجهتهم منصبة على اعمال ابراهيم اصلان وصنع الله ابراهيم وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبد الله، كنماذج أفرزتها مرحلة ما بعد تجربة نجيب محفوظ.

لكن هذه الادعاءات والمقولات انقلبت رأساً على عقب بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب لتنبه كثيرا من الشباب في تلك الفترة لأن يتخلوا عن يقينهم المسبق، فبدأت المراجعات لما أنتجه نجيب محفوظ من اعمال روائية وتحول بين عشية وضحاها إلى الكاتب النموذج. وكان هذا القول تكرارا لحالة ثقافية كانت سائدة في تلك الفترة بالنظر الى أدب نجيب محفوظ في السعودية تحديداً، وأثبتها لكوني أحد الحاضرين لتلك الآراء، وبالتالي فهذه التوطئة تجيب عن تأثير اعمال نجيب محفوظ في الرواية السعودية. أما فيما يخصني، فأقول إنني وجدتُ نجيب محفوظ في طريقي بالصدفة البحتة.. في زمن لم أكن أخطط فيه لأن أكون كاتباً وإنما مجرد صبي راغب في القراءة ووجد هدية ممثلة فيما يقارب من 200 كتاب كان معظمها أو كلها لكتاب مصريين وأغلبها لنجيب محفوظ، فقرأت في تلك الفترة من باب التسلية وتزجية الوقت فإذا بها تتحول الى مخزن لهذا الصبي عندما تحول الى كاتب رواية.

لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز تجربة نجيب محفوظ الضخمة (بعيداً عن سمعته العالمية) فلم يكن لي ان أتجاوز البصمات الأولى التي تركها في داخلي من خلال (عاشور الناجي) في (الحرافيش) و(سي السيد) في (الثلاثية) او (الجبلاوي) في (أولاد حارتنا) فكنت أجده قابعاً داخلي أثناء الكتابة.

لقد قرأت لأدباء آخرين وتأثرت بهم، لكن ثمة فرق مهول في البناء الروائي بالنسبة لنجيب محفوظ، حيث تحولت الرواية على يديه إلى هندسة عمرانية نادراً ما تجد اعوجاجاً في هذا المعمار، كما أن الدأب المستمر لنجيب في استكمال مشروعه الروائي حقق من خلاله التراكم وخلق تعددية أنماط وأشكال روائية نادراً ما ينفك الروائي التالي له من أجوائها. الرجل عاش زمناً طويلاً سخره لأن يكون شاهداً حقيقياً على الواقع الذي مرّ به في تسجيل جملة الأفكار الفلسفية والثورية ورفض الاضطهاد والقمع، وهنا فقط أريد ان أقول أن نجيب محفوظ رجل مسالم لم يدخل السجن قط، لكنه كان يتفجر داخل الرواية ويصل إلى حدود غير معروفة في المشاكسة والرفض وهذه ميزة تميّز بها نجيب محفوظ بأمضى أثر فهو لا يثور في الواقع ولكنه يثير داخل الرواية.

الأنصاري: الثلاثية كانت كافية لريادة محفوظ

* الدكتور عبد القدوس الأنصاري، رئيس رابطة الأدب الإسلامي، يعتبر نجيب محفوظ سيدّ الرواية العربية دون منازع، «فقد بلغت هذه الرواية المستوى الرفيع الذي قارب العالمية بفضل الجهد الأدبي والعمل الروائي الذي انتجه نجيب محفوظ، الذي أثبتَ جدارة الرواية العربية بنيلها جائزة نوبل». ويضيف الأنصاري: «لكني أقول إن الرواية التي تستحق الجائزة هي ثلاثية نجيب محفوظ (السكرية ـ قصر الشوق ـ بين القصرين) التي تعتبر بحق رواية الأجيال، لأنها أعلى ما كتبه محفوظ. أما روايته (أولاد حارتنا) التي نوه بها حين حصوله على جائزة نوبل فإني أرى ـ وبكل تجرد ـ أنها وبغض النظر عن توجهها الذي لا أوافق عليه، والذي أدى إلى حجبها في مصر، ليست بحجم الثلاثية التي كتبها محفوظ، وهي من الناحية الفنية لا تقارن بهذه الثلاثية، التي أجزم أنها بزّت أعمال نجيب محفوظ جميعها. وهناك قول في الشاعر العربي (ذو الرمة) حين كتب بائيته الشهيرة، أن نقاد عصره اجمعوا على أنه لو سكت بعدها لكفته للتدليل على شاعريته، فكذلك هو حال الثلاثية التي تكفي نجيب محفوظ ريادة للأدب والرواية.

بالنسبة للاتجاه الفني في روايات محفوظ فقد انتقل هذا الأديب العربي الراحل في عدة أطوار ادبية، فقد بدأ بالرواية التاريخية، ثم دخل على أنواع الواقعية، حتى وصل إلى ما يشبه العبثية، بيد أن الأثر الأدبي الذي خلفه نجيب محفوظ ينبغي تقديره والاعتزاز به، على أني أسف لما تعرض له هذا الروائي الكبير من محاولة اعتداء بعد نيله نوبل، وبرأيي أن الفكر لا يجابه الا بالفكر وليس بالتطرف».

العريض: ضحية التفسيرات المتعسفة

* وتقول الشاعرة ثريا العريّض «فقدت الساحة الثقافية العربية علماً من أعلامها، فالراحل الكبير ليس نجماً في سماء العرب فقط لكنه بزغ على الصعيد العالمي وكان من القلة الذين يعدون على الأصابع، كما انه وضع البصمة الثقافية العربية في الساحة العالمية وترك أثراً سيبقى للأجيال لتذكر فيه الآثار الثقافية العربية. لقد كان نيله جائزة نوبل للآداب، رغم التساؤلات التي اثارتها وبعض هذه التساؤلات كان ظالماً، دليلاً على ريادته العرب وسبقه لمجايليه العرب وغير العرب.

نتوقف في مناسبة رحيل نجيب محفوظ لما تعرضت له بعض اعماله من الحجب والمنع والمصادرة، لنسلط الضوء على عقلية التفسير المتعسف التي احاطت بالإنتاج الأدبي في بعض بلداننا، تلك التفسيرات التي لا تنطلق من العمل الأدبي نفسه وإنما من هواجس مختلفة يجري طرحها حول الموضوع، وقد واجهتُ هذا الموقف كثيراً حينما جرى تفسير بعض النصوص التي كتبتها بتأويلات لم تطرأ على بال الشاعر والأديب.

المعيقل: رجل المراحل بكل جدارة

* أما الدكتور عبد الله المعيقل، الناقد الأستاذ بكلية الاداب جامعة الرياض، فيرى أنه: «ليس هناك روائي عربي وربما شرق اوسطي استطاع ان يكون هذه المكانة التي كونها نجيب محفوظ، فالرجل الذي امتد به العمر طويلاً كان خلاله منتجاً وثريا حتى أن الفترة الزمنية الطويلة التي عاشها جعلت انتاجه ينقسم الى مراحل: مرحلة استلهام التاريخ الفرعوني في الاربعينات حيث قدم اعمالاً كـ(رادوبيس) و(كفاح طيبة) و(عبث الاقدار)، ثم جاءت مرحلة الواقعية وكان بعضها في الاربعينات وما بعدها قدم خلالها (خان الخليلي) و(زقاق المدق) و(البداية والنهاية) ومن ضمنها الثلاثية المشهورة.. ونعرف انه توقف بعد الثورة وكان يقول ان الثورة كفته مؤونة الكتابة، لكنه لم يلبث ان عاد مرة اخرى وهذه المرة كانت رواياته غنية بالرمزية كرواية (اللص والكلاب) و(ثرثرة فوق النيل) اللتين تحتويان على النقد الاجتماعي والسياسي غير المباشر ويتكلم فيهما عن بوليسية الحكومة والاثراء غير الشرعي باستغلال المنصب.. ونرى أن روائياً مثل محفوظ نستطيع ان نتمثل به المراحل المختلفة فهو روائي المراحل المختلفة بجدارة وهذا ترك اثره على الروائيين العرب، فلا يوجد روائي عربي لم يتأثر به، فقد كتب في كل مرحلة كأنه واكب التغير الاجتماعي والسياسي في مصر التي كانت صورة لما هو عليه الواقع العربي.

وعن تأثر الروائيين السعوديين بأعمال محفوظ يرى المعيقل ان إثبات ذلك بحاجة فعلية الى عملية استقصاء لكن من الواضح أن تأثيره كان واضحاً خاصة في الفترة التي كتب فيها اعماله الواقعية، ويمكن الاشارة الى رواية (ثمن التضحية) لحامد الدمنهوري التي تتشابه مع ثلاثية محفوظ بما تحتويه من صراع الاجيال والصراع بين القيم القديمة والجديدة.

السبع: محفوظ.. الإنسان الذي التصق بالأرض

* ويقول الشاعر حسن السبع: «يأسرني في نجيب محفوظ جماله الروحي قبل جماله الفني كما يأسرني تواضعه وبساطته وقربه من الناس، فهو تواضع الكبار الذين يشبهون الاشجار المثمرة المثقلة بالثمار الى درجة الانحناء والقرب من الأرض ومن العابرين. ولقربه من الأرض والإنسان انطلق من الحارات والازقة المصرية المتربة حتى وصل الى العالمية، ومن اراد ان يعرف المجتمع المصري جيداً من الناس البسطاء والفقراء الى البهوات والباشوات والى المثقفين والعيارين والشطار فما عليه الا ان يقرأ نجيب محفوظ، فهو روائي يحمل مجتمعاً بأسره في رأسه.

الحميدان: رائد الواقعية ومحتضن الشباب

* واعتبر الروائي ابراهيم الناصر الحميدان أن «وفاة استاذنا الكبير نجيب محفوظ خسارة أدبية كبيرة في الوطن العربي لأنه يمثل واجهة ثقافية كبيرة، خاصة بعد حصوله على جائزة نوبل للأدب (1989) التي تعتبر اعترافاً دولياً بمكانته لما قدمه للساحة الأدبية في مجال الرواية، وهي دليل على مكانته وقوة الأعمال التي قدمها في الساحة الفكرية فهو يمثل مدرسة اعترف بها عالمياً، ويمثل مكانة متخصصة في الرواية الواقعية التي كان رائدها في العالم العربي حيث ظهر ذلك في اعماله الأولى، وبالرغم من انه توقف قبل عشرين عاماً، عن الإنتاج الأدبي إلا أن مكانته لم تتغير فهو من الأعلام البارزين في العمل الروائي وكان يحتفي بالشباب كرائد ثقافي وكان يجتمع بهم اسبوعياً رغم اعتلال صحته كما كان يوجه الكثير من الأعمال التي ظهرت مؤخراً، ولذلك فقد كانت خسارة العالم العربي بفقده فادحة.

الحرز: سلطة محفوظ

* عن تأثير اعمال نجيب محفوظ على جيل الشباب من الأدباء السعوديين، يقول الناقد محمد الحرز: «أعمال نجيب محفوظ وما تمثله من سلطة أخذت مكانها لدى جيل الستينات والسبعينات، لكن هذه السلطة لم تكن واضحة المعالم تماماً لدى جيلنا لأسباب عديدة من اهمها: تشظي الأدب الروائي العالمي إلى عدة زوايا وشظايا متعددة، بمعنى لم يكن العمل العالمي الروائي تحديداً يسير على نمطية واحدة في التأثر والتأثير، فتسارع النظريات التقدمية والأفكار المستجدة حول الرواية فتحت المجال كبيراً لتطور أشكال الرواية وأجناسها وأشكالها المختلفة سواء على الصعيد الفني أو الموضوعي، لذلك وجدنا أن الرواية لم تختزل في قوالب جاهزة من خلالها يحدث ما يمكن تسميته بالتأصيل السردي الروائي كخطاب يؤثر في الآخر. من هذه الملاحظة بالتحديد خرجت الرواية العربية ومن أساساتها روايات نجيب محفوظ متعاكسة مع هذا التوجه بسبب بسيط على اعتبار أن السرد الروائي عند نجيب محفوظ كان وبالأساس ينتمي إلى الواقعية السردية بدءاً من بلزاك الى تشارلز ديكنز كأشهر الروائيين تأثيراً في أدب نجيب محفوظ، فهذا النمط من السرد تم تجاوزه على الجيل الحالي، لأن هذا التجاوز هو طبيعة حدثت في مسيرة الرواية العالمية، وفنياً أصبح السرد الروائي أكثر تغلغلاً في التفاصيل الحياتية وأكثر تجانساً مع ما يمكن تسميته بشخصنة السرد حول الذات ولذلك أصبحت هذه الهوية سمة غالبة على جيل لا يتأثر بنجيب محفوظ قدر تأثره من خلال الزاوية الفنية التي يمكن النظر اليها بوصفها احدى المشتركات الأساسية التي أصّل لها أدب نجيب محفوظ. ويمكن اعتبار هذه الرؤية لنجيب محفوظ السردية أنها اعادت صياغة التاريخ روائياً وهي سمة لدى هذا الروائي الكبير، ولعل رواية (اولاد حارتنا) هي أكبر دليل على ما تمثله هذه الفكرة. فهذه الرواية هي التي ثبتت مكانة نجيب محفوظ وأثرت كثيراً على روايات ادباء عرب جاءوا بعده، ورغم التباين في التجارب إلا أنهم يصبون عند رؤية واحدة من العمق، يبدو لي أميل معلوف واحداً منهم. لذلك ينبغي علينا كباحثين ومهتمين بالأدب الروائي العربي أن نضع هذه الاشكاليات في مدارها الحقيقي لنبحث عن مكانة هذا الأدب ليس من خلال أدب الآخر في تأثيره الواضح على الادب العربي ولكن من خلال الشخصيات التي تركها نجيب محفوظ كتراث حي يمكن من خلاله كتابة تاريخنا العربي بوعي حاد.