لبنان يودع أبا الرواية العربية الحديثة.. الذى أعاد كتابة التاريخ

TT

«انه أبو الرواية العربية» هذه العبارة تتردد اليوم على ألسن الروائيين والأدباء اللبنانيين وهم يتذكرون دور نجيب محفوظ في تكوينهم الأدبي والإبداعي. روائيون وشعراء ونقاد، الكل يريدون ان يتكلموا عن محفوظ، وتأثيره الكبير في تشكيلهم كأدباء. وهم حين يتحدثون عنه ليسوا بحاجة إلى تحضيرات ومسودات وتفكير وتقديم وتأخير في العبارات، كعادتهم، عند نعي الراحلين من الأدباء. «ومن لم يقرأ محفوظ مرات ومرات» هكذا يقولون، ويندفعون لوصف ما فعلته رواياته بهم: منهم من أقلع عن الكتابة بالفرنسية، وقد سحرته روايات محفوظ بعربيتها ومحليتها، ومنهم من عرف ان الأدب العالمي ليس مقياساً بغرائبيته وأسمائه الأجنبية بعد أن تعرف على محفوظ بأزقته وفتواته، وثمة من رآه مؤثراً في الضمير العربي، بما لا يمكن ان يقاس اليوم وعلى المدى القصير. محفوظ رحل جسداً لكن روحه قائمة ولمدى طويل وعميق في الأدب اللبناني، وهنا شهادات لأدباء لبنانيين في فقيد الأدب العربي. الناقد محمد يوسف نجم: عرفته طويلا وفرّق بيننا تأييده للسادات

* منذ 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948، بدأت صداقتي بنجيب محفوظ. كنا نحضر معاً ندوة الجمعة الأسبوعية في «كازينو بديعة» في ميدان الأوبرا، وبعد انتهاء الندوة اوصله بسيارتي إلى بيته في العباسية، وعلى الطريق نتحدث بشؤون حياتية وخصوصيات كثيرة، وبقيت علاقتي به متواصلة حتى أعلن تأييده للسادات، عندها كتبت له رسالة رقيقة، أخبره فيه ان التفاهم بيننا بات صعباً. ويوم حصل محفوظ على نوبل، تكلمت مع يوسف القعيد وطلبت منه ايصال تهاني له. وبعد سنين طويلة من العلاقة والقطيعة بنجيب محفوظ، أستطيع أن أقول بأنه كان شخصية عظيمة وفذة، لا أتصور ان لها من شبيه بين الكتاب العرب والمصريين الذين اعرف غالبيتهم. فهو مميز بين أبناء جيله، وتمايزه الأهم يكمن في إخلاصه لكل عمل يقوم به. كان مخلصاً لوظيفته، لا يتأخر عنها، ولا يتأفف منها، يواظب على جلسته الساهرة مع الحرافيش كل خميس، وقد حضرت معه تلك الجلسات عدة مرات، حيث كان يبقى ساكتاً غالبية الوقت وينصت بإمعان.

كان محفوظ يدخن بشراهة في فترة ما، ثم توقف، وبدأ يهتم بصحته اهتماماً شديداً بسبب معاناته من السكري، وبدا دائماً قنوعاً عفيف النفس، لا يطمع بثروة، ولا يبحث عن غنى. كان يقبل من ناشره سعيد السحار بقروش قليلة حين يطبع له كتبه. وحين بدأت معرفتنا لم يكن راتبه يتجاوز 35 جنيها.

الروائية أملي نصر الله: كتب من «نشارة» وقته فماذا لو كتب بوقته كله؟

* كلنا نهلنا من ينبوع عطائه، تليق به كل صفات التواضع والصدق والإخلاص. هو المؤسس وابو الرواية المعاصرة. ما يعجبني في هذا العملاق هو تواضعه رغم كل المجد الذي بلغه، في ذلك هو مدرسة «كل ما كتبته كان في نشارة وقتي» سمعته يقول، إذ كان الوقت الصلب عنده مكرساً للوظيفة. فماذا به لو استخدم وقته الحقيقي.

من وجوه إخلاصه، تعمقه في كتابة المكان «القاهرة»، هذا ما أعطى أدبه ميزته الخاصة إذ اصبحت تلك المحلية من خلال ما ترجم له وإلى معظم اللغات، أدبا عالمياً. نجيب محفوظ يجسد الشخصية القاهرية الحقيقية المنتمية إلى المكان بامتياز وحتى اعماق الجذور.

الروائية علوية صبح: إنه أبي الذي أعادني إلى بيتي

* نجيب محفوظ بالنسبة لي بمثابة الأب الذي علمني أن اتطلع إلى محليتي، ومجتمعي وبيئي وبيتي وأهلي. الأدب اللبناني الذي نشأنا عليه، له منطلقات مختلفة، ويقوم بشكل عام على رومانسة كبيرة، وجمله أدبية انيقة، لكنها لا تلتطق بالأرضي والحياتي المعاش، كما أدب نجيب محفوظ. قرأت محفوظ كثيراً، وتعلمت منه بعمق. ففي البداية حين كنت أقرأ الأدب العالمي، كنت أتصور ان الأدب يعتمد على الغرائبية، وكل ما هو غير مألوف، ويأتي من مكان آخر مختلف. وحين قرأت محفوظ، شعرت انه ردني إلى بيئتي، وبلدي وعائلتي. الناقد سامي سويدان: شخصياته الرجالية قوية والنسائية أقل لمعاناً

* محفوظ شخصية تأسيسية وريادية، جرب أنواعاً متعددة من الأنماط الروائية، جدد، وكتب بغزارة وكثافة، شخصياته تشكل مرجعيات. فقد كان من أوائل الذين كتبوا أعمالاً روائية متماسكة، بناء حديثا، وفق منطق مقنع ومسارات قوية. كل هذا لم يكن موجوداً بالرقي الذي عرفناه مع محفوظ. بمقدورنا أن نقرأ لجبران خليل جبران وهيكل رواياتهم التي تركوها لنا، ولكننا لن نقع على بناء للشخصيات، ومسارات للأحداث والقصص مشدودة ومتينة ومقنعة كما هي عند محفوظ. لقد صاغ الرواية صياغة خاصة، استفاد مما كان قبله، ولكنه خرج بإبداع فريد، مرتبط بشروط اجتماعية وتاريخية تفاعل معها.

بناؤه الروائي متماسك استطاع ان يتكئ عليه ليتجاوزه بالانتقال بين الانماط الأدبية على اختلافها. بقي هاجسه الفكري موجوداً، ونظرته للوجود والمجتمع واضحة، لكنها لم تأخذ صدارة الأعمال، ولم تطغ عليها أو تهيمن على كليتها. فقد كان لأبعاد المواضيع التي يطرحها المكان الأبرز، سواء حين يتكلم عن الموت أو الوجود أو العائلة، فهي مطروحة برهافة ولباقة.

وبالإضافة الى ذلك فقد استطاع أن يقدم للأدب العربي شخصيات مرجعية، واقصد بذلك، ان شخصية عبد الجواد مثلاً، أو شخصية الأب أو الابن الاكبر او الأصغر، كما صورها محفوظ، هي من المتانة والقوة بحيث تبقى حاضرة في الذهن وفي الوجدان. انها الشخصية المشوقة والجذابة التي لا يمكن أن تنسى. هناك الابن الأكبر، مثلاً، بسلوكه المنحرف الذي لا يتوافق والقيم الأخلاقية، وسعيد مهران في «اللص والكلاب»، الشخصية المضطربة التواقة للحرية والانتقام والشدة.

الروائي جبور دويهي: انتصر للرواية على الأيديولوجيا وهنا يكمن سره

* علمنا نجيب محفوظ أن للرواية العربية إمكانيات كبيرة، كنا نجهلها قبله، وشجعنا على الإقبال على الكتابة بالعربية. هو ليس الأول الذي كشف هذه الإمكانات الكامنة، لكنه الأبرز. انجازات نجيب محفوظ لم تأت من فراغ، وكان ثمة تواصل بينه وبين رواد الأدب العالمي، لكنه استطاع ان ينتج ادبا مدينيا مصريا بامتياز. انه ابن المدينة المطل على الحداثة، موظف الدولة، الذي تفاعل مع محيطه. ومن دون علاقته المدينية لم تكن لتخرج هذه الروايات في ذلك الوقت. الآن، ربما تغير الزمن، وباتت العولمة، تفرض شروطا مختلفة. ما هو أكيد ان نجيب محفوظ «الروائي» أنجب نتاجه من رحم «القاهرة»، بحيث لم يعد من مسافة بين الرواية والمدينة، فهو كما الف الرواية، فالرواية الفته وكتبته ايضاً والعكس صحيح.