رحل صانع مجد الرواية العربية

بعد 95 عاما من الكدح الجميل

TT

خمسة وتسعون عاما تفصل نجيب محفوظ عن خطواته الأولى في حي الجمالية بعبقه الشعبي والتاريخي الفريد، وبين تنهيدته الأخيرة في الغرفة 612 بمستشفى الشرطة بحي العجوزة بالقاهرة «نفسي أروح الحسين». ما بين هذين القوسين تشكلت صورة حياة محفوظ الصانع الأمهر وتفتح وعيه على الحياة، وتعلم من نقائضها ومفارقاتها أن الصراع مهما كانت درجة توتره واشتعاله ليس سوى وجه من أوجه الحقيقة التي يصنعها البشر ويخفونها أحيانا ربما ليؤكدوا وجودهم فيها، أو يقفون على حافتها بدلا من السقوط. في ظلال هذه الصورة ولد نجيب محفوظ عبد العزيز احمد إبراهيم الباشا يوم الاثنين الموافق 11 ديسمبر (كانون الأول) العام 1911 بميدان بيت القاضي في حي الجمالية بالقاهرة وكان أصغر أخواته الأربعة في أسرة من الطبقة المتوسطة، تمتد جذورها إلى مدينة رشيد بساحل المتوسط وكان جده قد نزح إلى القاهرة ولقب «بالسبيلجى» لانه يملك سبيلا يشرب منه عابرو السبيل. في بداية حياته العملية وعقب تخرجه في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في العام 1934 عمل محفوظ كاتبا بإدارة الجامعة ثم سكرتيرا برلمانيا لوزير الأوقاف في عام 1939 ثم مدير مكتب بمصلحة الفنون العام 1955 ثم مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية العام 1959. وتولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة السينما العام 1966 ثم عمل مستشارا لوزير الثقافة العام 1968. ولم يعرف عن نجيب محفوظ خلال شغله كل هذه الوظائف أي إنجاز إداري بل ظل محتفظا بسمة الموظف البيروقراطي الصغير مخفيا تحت جلده قناع الفنان المبدع، لكنه مع ذلك اكتسب من هذا المناخ قيمة الانضباط والنظام، وهو ما انعكس على منهجه وطقوسه في الكتابة وما اتسمت به من الصرامة والحديدية.

هذا السمة انعكست أيضا على حياة محفوظ الأسرية فعاشها بهدوء، محافظا على الأعراف والتقاليد الاجتماعية. عينه دائما على كينونته الخاصة كبدع، حتى بعد أن تزوج في عام 1954 وهو في سن الثالثة والأربعين وأنجب ابنتيه أم كلثوم وفاطمة كانت لم تنفلت علاقته بهما من هذا الإطار فكانتا نادرا ما تقرآن أعماله أو تناقشانه فيها. حصل نجيب محفوظ على جائزة قوت القلوب في الرواية، وجائزة وزارة التربية والتعليم وجائزة مجمع اللغة العربية عن قصة خان الخليلي وجائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1968 ووسام الجمهورية من الدرجة الأولى عام 1972، ثم قلادة النيل عام 1988 أرفع الأوسمة المصرية في حفل أقامته له الرئيس المصري حسني مبارك عقب حصوله على جائزة نوبل في العام نفسه. وشكلت حياته وأعماله مسرحا خصبا لعشرات الرسائل الجامعية لنيل رسالتي الماجستير والدكتوراه في مصر والعالم العربي، وكتب عنه العديد من الكتب، وسجلت أعماله في مكتبة الكونجرس الأميركي باعتباره أحد الكتاب البارزين في العالم، وصدرت عن حياته وأعماله الأدبية مع تحليل لأدبه الروائي موسوعة باللغة الألمانية بعنوان «نجيب محفوظ حياته وأدبه» العام 1978. وخصصت الجامعة الأميركية بالقاهرة جائزة سنوية تمنح باسمه في مجال الرواية، وقد حصل عليها عدد من الكتاب المصريين والعرب. وبين قوس الجمالية ومستشفى العجوزة في ترك نجيب محفوظ 50 عملا روائيا وقصصيا وقدم للسينما اكثر من مائة فيلم و30 سهرة و12 مسلسلا بدأها العام 1945 بكتابة السيناريو لفيلم «مغامرات عنتر وعبلة»، وقد اختار النقاد 17 فيلما من أعماله ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. اهتم نجيب محفوظ في أعماله بتسجيل تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة حتى العصر الحديث وجسد حياة الناس البسطاء بالأحياء الشعبية الشهيرة وربط همومهم ومشاعرهم بالأحداث السياسية، كما عكست رواياته بمهارة أدبية فائقة التاريخ السياسي لمصر خلال القرن العشرين وتجسدت في أفلام «خان الخليلي»، «الحب تحت المطر»، «الكرنك»، «بين القصرين»، «والسكرية» وغيرها.

وفي كتاباته، بخاصة في «أحلام فترة النقاهة»، كشف محفوظ عن علاقة خاصة وحميمة بوالدته، فوصفها بالنافذة التي أطل منها على العالم منذ بداية حياته، مشيرا إلى أنه ظل بعد أن تزوج وظل ملازما لها حتى وفاتها كما ظل يعيش معها في منزلها بالعباسية حتى يوم زفافه. ولذلك يقول عنها: «أمي سيدة أمية ومع ذلك كنت اعتبرها مخزنا للثقافة المصرية. كانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار حتى وصلت إلى حدود التسعين من عمرها. وفي الفترة التي عشنا فيها في الحلمية كانت تصحبنى معها في زيارتها اليومية. وعندما انتقلنا الى العباسية كانت تذهب بمفردها فقد كبرت ولم أعد ذلك الطفل المطيع، وفى كل المرات التي رافقتها فيها الى سيدنا الحسين كانت تطلب منى قراءة الفاتحة عندما ندخل المسجد». وذكر محفوظ أن والدته كانت تتردد على المتحف المصري وتحب أن تقضى اغلب الوقت في حجرة المومياوات دون أن يعرف السبب في ذلك ولا يجد تفسيرا له. لكن ربما دفعه هذا المشهد أو كان سببا خفيا في عشقه الحضارة الفرعونية التي سعى إلى تجسيد تجليانها المجيدة في كتاباته الروائية الأولى. وقد ورث محفوظ عن والدته غرامها بسماع الأغاني وخاصة أغاني سيد درويش رغم أن والدها الشيخ إبراهيم مصطفى كان شيخا أزهريا وله كتاب في النحو. وبرغم هذا الولع بالأم لم يذكر محفوظ في أحلام فترة النقاهة شيئا عن والده الذي انخرط بالعمل الحكومي ثم التجارة، وهو ما يفسره البعض بسطوة عارمة ربما اتسم بها الأب، أو أن محفوظ نفسه كان طفل الأم المدلل بخاصة بعد أن أنجبت قبل أربع أخوات. عرف نجيب محفوظ بحبه للضحك وكان «ابن نكتة» يعشق «القفشات» والمرح والموسيقى والطرب وكان صديقا للناس يخاطبهم ببساطة حين يزور المقاهي ويلتقي بالأصحاب والأصدقاء وكان يرتاد مقهى عرابي في حي الجمالية عل مدى أكثر من عشرين سنة، كما كان من أماكنه المحببة كازينو الأوبرا ومقهى الفيشاوي بحي الحسين ومقهى ريش بوسط القاهرة. وفي الفترة الأخيرة كان مسرح لقاءاته بكازينو «قصر النيل» أو فندق «شبرد». تعتبر ثلاثية نجيب محفوظ «بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية» من أعظم الأعمال التي أبدعها، وصنفت كأعظم عمل روائي عرفه الأدب العربي المعاصر، كما ترجمت إلى أكثر من 25 لغة وجسدت هموم ثلاثة أجيال عاشتها مصر وهى جيل ثورة 1919 وجيل ثورة 1952 وجيل ما بعد الثورة، وكانت بمثابة ملحمة صورت الواقع الاجتماعي والتجربة الإنسانية في الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة. ومن المفارقات المهمة في حياة محفوظ نفوره من السياسة، ورفض طيلة حياته أن يعمل بها رغم أن الكثير من كتابات شاكست السياسة وانتقدت الكثير من قادتها وصناعها وكان من أبرزهم الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر وأنور السادات اللذان هادنهما وتصالح معهما طيلة حياتهما، ثم انقلب عليهما بشدة بعد رحيلهما، كما رفض محفوظ العمل بالصحافة واختار الأدب حرفته الوحيدة وملاذه الخاص، ولهذا عندما ارتبط محفوظ بجريدة الأهرام في عام 1959 كان هذا الارتباط أدبيا وليس صحافيا.

لقد استطاع محفوظ بفضل هذه التوازنات، وبفضل التعايش في ظلال الأضداد أن يعطي لأدبه في حياته مكانا ثابتا ويخصص له جهدا دائما منتظما ، كما عصمته هذه التوازنات ـ إلى حد كبير ـ من الوقوع في براثن الكثير من العواصف السياسية التي أثرت في حياة الكثيرين من المثقفين من جيل نجيب محفوظ والأجيال التالية وألقت بالبعض منهم في غياهب السجن لفترات طويلة.