فيلسوف القاهرة الروائي.. غربياً

TT

قبل منحه جائزة نوبل للآداب عام 1988، لم يكن نجيب محفوظ، كما هو معروف، اسماً متداولاً في الأوساط الأدبية والأكاديمية الغربية إلا على نطاق ضيق. واعترف كثير من الكتاب الغربيين، بعد منحه نوبل، أنهم لم يقرأوا شيئاً من رواياته الكثار، ومنهم غونتر غراس، الحائز نوبل عام 1999.

وبالطبع، ليس وراء هذا الجهل أو التجاهل حكماً قيماً، متصلاً بإبداع صاحب «الثلاثية»، و«أولاد حارتنا»، اللتين لا تقلان إبداعاً وصنعة روائية عن أمهات الروايات العالمية، بل الأمر مرتبط بمجمل الأدب العربي، الذي لم يأخذ طريقه إلى القارئ الغربي لأسباب ليست أدبية على الإطلاق، ماعدا أسماء معدودة جداً، ومنها طه حسين الذي رشحه اندريه جيد لجائزة نوبل في وقت مبكراً جداً. ولعل ذلك يعود، ضمن ما يعود، إلى دراسة طه حسين في فرنسا، وتعرفه شخصياً بعملاق الأدب الفرنسي أنذاك، وبالتالي وفر فرصة للإطلاع على أعمال عميد الأدب العربي، وترجمة بعضها إلى الفرنسية.

كيف وصل عميد الرواية العربية إلى الغرب، وبالتالي إلى جائزة نوبل؟ نعتقد إن وراء ذلك أسماء عربية بالدرجة الاولى عرفت به، وترجمت، أو نصحت بترجمة أعماله إلى الإنجليزية بشكل خاص. والكل يتذكر المعركة بين أديبة مترجمة وأستاذ أكاديمي حول من رشح نجيب محفوظ لجائزة نوبل، وكان وراء نيله الجائزة. وبالطبع، ليس ذلك مهماً، كما أن لجنة جائزة نوبل تتلقى مئات الترشيحات في كل سنة من المؤسسات الثقافية، والشخصيات الأكاديمية، والاتحادات الأدبية، ويبقى الاختيار اختيارها على ضوء الأسس التي وضعتها، والتي لا تؤخذ بها أحياناً.

وعلى أية حال، بدأ اسم نجيب محفوظ، الذي لا يجيد الترويج لنفسه، والذي لا يهمه إن ترجم أم لا، أو حصل على جائزة نوبل أم لم يحصل، كما عند كثيرين، يأخذ طريقه إلى القارئ الغربي عبر دور نشر صغيرة، أو عبر دور نشر مستقلة، كما يسمونها في الغرب، وهي دور النشر غير المرتبطة بكارتلات دور النشر الكبرى.

وشيئاً فشيئاً، اكتشف القراء الغربيون، أنهم أمام «بلزاك آخر»، كما سماه بعض النقاد، أو «ديكنز آخر، كما نعته آخرون. إنك لا تستطيع أن تعرف فرنسا حقاً، فرنسا القرن التاسع عشر، بدون بلزاك، ليس ثقافياً فقط، وإنما اجتماعياً وحتى اقتصادياً. ولم يكن فريدريك انجلز مخطئاً حين قال إنه يعود إلى روايات بلزاك حين يريد أن يعرف المزيد من واقع فرنسا الاقتصادي أكثر مما يعود إلى أساتذة الاقتصاد. وإنك لا تستطيع أن تعرف لندن، احياءها وشوارعها الخلفية، اغنياءها وفقراءها بدون تشارلز ديكنز. مثل نجيب محفوظ للقارئ الغربي مصدرمعرفة لم توفرها لا الحكومات، ولا المؤسسات الثقافية التابعة لها، ولا تستطيعان توفيرها: القراءة في واقع وتاريخ مدينة، وشخصيتها الفريدة التي امتزجت بالخيال في ذهن الغرب الاستشراقي، وصراعها مع نفسها، وانقساماتها، وناسها المتصارعين، ومع ذلك المندمجون مع بعضهم البعض. يقول الناقد مناحيم ويلسون، إن نجيب محفوظ، فبلسوف القاهرة الروائي، غطى مساحات أوسع حتى من الجغرافيا التي يعيش ضمن حدودها، مقارنة بكتاب روائيين عالميين أكثر شهرة منه. أما لويس بروكيت فيرى أن محفوظ، في أعماله الاولى على وجه الخصوص، قد عبر، كما فعل ديكنز وبلزاك، عن ناس القاهرة المسحوقين والمهمشين اجتماعياً واقتصادياً، هؤلاء الناس الذين عبرهم التاريخ، على حد تعبيره، وحذر، في الوقت نفسه، من زحف نمط الحضارة الغربية التي تهدد، أول ما تهدد، هؤلاء الناس.

كان محفوظ، بالنسبة لبلوكيت، مدافعاً عن العدالة الاجتماعية بالدرجة الاولى، وهذا هو صلب اهتمامه، بغض النظر عن الجهة السياسية التي يمكن أن تحقق مثل هذه العدالة، فالرجل لم يكن مغلقاً على فكر معين، أو فئة سياسية معينة. اليس ذلك هو شأن الكتاب الكبار حقاً؟