عاشق مصر

سمير عطاالله

TT

«إن أهم ما يشغل الانسان حين يصل الى المحطة الأخيرة من حياته، هو ان يطمئن على ذويه. والشيء الثاني هو حسن الختام. واقصد بذوي، الأهل والاصدقاء والبلد».

نجيب محفوظ، 1997

* في يوم من اكتوبر 1994، كان نجيب محفوظ، اهم روائي مصري، وحامل «نوبل» للاداب، ذاهبا لحضور الندوة الاسبوعية مع بعض اصدقائه. فجأة غاب عن الوعي وآفاق في مستشفى العجوزة. وقد سأله محمد سلماوي بعد سنوات عن محاولة الاغتيال التي تعرض لها، فقال: «لم ار وجه الشاب الذي اعتدى علي. الذي حدث هو انني وانا اهم بركوب السيارة وجدت شخصا يقفز بعيدا. وكنت قد شعرت قبل ثوان قليلة وكأن وحشا انشب اظافره في عنقي. ودهشت لكنني لم ادرك ماذا حدث بالضبط. لكنني عندما وجدت هذا الشخص يرمي خنجرا فهمت على الفور ما حدث، وبدأت اشعر بالدماء تنزف من عنقي فوضعت يدي على عنقي لأوقف النزيف، بينما انطلق صديقي الدكتور هاشم فتحي بالسيارة الى مستشفى الشرطة المقابلة لبيتي».

سئل نجيب محفوظ عن شعوره حيال المحاولة فأجاب: «ان شعوري مزدوج. فمن ناحية اشعر بالأسف لتكرار جرائم الرأي. فهناك الشيخ الذهبي والأستاذ مكرم احمد والسيد فرج فودة، واقول ان ليس هذا الطريق للتعامل مع الرأي. ومن ناحية اخرى اشعر بالأسف ايضا لأن شابا من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل، فيطارد ويقتل بدل ان يكون في خدمة الدين والعلم والوطن».

تعامل نجيب محفوظ مع الرجل الذي كاد ان يكون قاتله، مثل شخص من اشخاص رواياته. انه انسان يستحق العفو كما يستحق الدرس. فهو ليس مجرد فرد وانما هو جزء من ظاهرة تخرج من رداءة الانسان وميوله الوحشية، واستسهاله القتل كحل يرضي النفس ويرضي المجتمع ويرضي القضية، بل، فوق ذلك، حل يرضي العزة الالهية، بموجب الوكالة، او التوكيل، الذي اعطاه لنفسه.

لقد احكم نجيب محفوظ رسم صورة واحدة له على مدى الأيام. وعلق هذه الصورة على جدار الذاكرة العربية في كل مكان طوال سبعة عقود: البذلة الرياضية التي لا تحتاج الى ربطة عنق والقميص المقفول والمظهر البسيط. وكان يروي ان ثروت اباظة هو الذي اخذه الى الترزي الذي صنع بذلاته قائلا له: «لم يعد بينك وبين دليا سوى عشرة جنيهات، فلماذا لا تأتي معي ليفصل لك بدلة محترمة. انه ترزي الاكابر ولا يفصل لكل من هب ودب وسأكون انا واسطتك عنده. ولقد صار دليا بعد ذلك صديقا عزيزا. ومنذ بضع سنوات كان يجري عملية جراحية فذهبت لزيارته ودعوت له، فوضع رأسه على كتفي وبكى. ولم اره بعد ذلك. فقد توفي وامتنعت انا عن تفصيل البدل».

عاش فترة في عوامة. وحضر كثيرا وطويلا جلسات السمر والحوار على العوامة التي كان يسكنها الكاتب الساخر محمد عفيفي. وفي ليالي تلك العوامة او فجرها، كان يتطلع حوله فلا يرى سوى الاشياء الأعظم بكثير من هذا المخلوق الصغير الاعزل، المسمى الانسان: كان يرى القمر يغيب ثم يعود. وكان يرى النجوم في السماء الصافية تتلألأ بلا عناء، وتكثر بلا نهاية، وتلمع بكل جماليات الكون. وكان يرى النيل (قبل السد العالي) يرغي ويزيد ويمد ويجزر، ويمتد بلا نهاية ويأتي من لا مكان ليذهب الى كل مكان، ويحول كل ما حوله الى خضرة وجمال وحياة وخيرات وحداء. سوف يحمل معه صورة ذلك المناخ وروائحه الطرية والنجوم المنعكسة صورتها في صفاء النيل وغنائه. وسوف يحمل ايضا رجرجة العوامة والشعور الدائم بعدم الاستقرار. ومن هذا المشهد الكوني الابعاد سوف تولد «ثرثرة فوق النيل» بكل تساؤلاتها البعيدة. وبالشعور بعدم الاستقرار السياسي في مصر ومدارها القريب.

كذلك هو تدفق التساؤلات. فلا حقائق مطلقة ولا خواتم نهائية في اعماله. وقد بدأ عمله الأدبي بالرواية التاريخية «عبث الاقدار» (1939)، ولم يتوقف عن استجواب التاريخ واستنطاقه. وفي روايته «رحلة ابي فطومة» (1983) يحاول ان يرسم صورة علمية مناقضة لابن بطوطة ورحلته. فهو مثله يتزوج في كل بلد يصل اليه لكنه بعكسه لا يقبل العطايا. وهو لا يتقبل الاجوبة طوعا بل يطرح خلفه الاسئلة من زمن الى زمن. لأن «ابي فطومة» لا يجول في الامم والدول والولايات، وانما في ممالك الزمان والتحولات البشرية وغموض هذا الكائن الانساني الذي يزيد الأرض غموضا وابهاما.

في واقع حياته لم ينتم نجيب محفوظ الى الرأسمالية ولا الى الاشتراكية العلمية. وقال في «مصر وطني» ان «ما سقط في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية منذ عهد قريب سقط عندنا قبل ذلك بعقدين من الزمان، وهو لم يكن مجرد سقوط احدى النظريات السياسية، لكنه كان في الحقيقة سقوطا «للدوغما». فليس هناك اشتراكية جيدة ورأسمالية سيئة لكن هناك اهدافا سامية ولا اختلاف عليها، كل من استطاع تحقيقها فهو جيد».

هل كان نجيب محفوظ اذن ضد ثورة 23 يوليو؟ «لا. ابدا. ولا اعتبر نفسي من خصومها. لكنني لم اكن ايضا معها تماما. لقد كنت دائما بين امرين. وكنت اسأل رجال الثورة: لقد حققتم استقلال البلاد، فلماذا لم تمنحوا الشعب ايضا استقلاله؟ لماذا لم تشجعوا الشعب على المشاركة السياسية؟ حين تتأمل ثورة يوليو تجد ان السمة الديكتاتورية لحكم الثورة كانت هي السبب وراء كل النكسات التي لحقت بنا. ولو كانت هناك ديمقراطية لما حدثت هزيمة حرب 67 ولوفرنا الملايين التي انفقت في اليمن بلا مبرر، لأنه كان يمكن ان يكون هناك رأي معارض يبصر بالمخاطر».

جمع نجيب محفوظ، في سهولة، تناقضين متضاربين، انه اعظم كتاب الرواية المصرية وانه اكثر الناس بساطة. وبسبب صورة البساطة هذه، صورة مقهى الفيشاوي واستكانة الشاي واشخاصه في خان الخليلي و«العوالم» اللاتي يدافع عن وقوعهن في البؤس، بسبب هذه الصورة الشعبية الفائقة البساطة، يغيب عنا مدى البحث والاعداد والدرس والقراءة والكد في سيرته الادبية. وبرغم انه وضع رواياته وقصصه القصيرة ومقالاته على مدى 65 عاما (مع سنوات التوقف) فما زلت غير قادر على ان اتخيل كيف تمكن من وضع اكثر من 30 رواية، بعضها من اجمل ما وقع للادب العربي والادب الشرقي والادب الاسلامي.

وقد عبر هو عن شيء من هذه الخاصية او الامتياز، دون الخروج عن تواضعه الجم، في الخطاب الذي كتبه لقبول جائزة نوبل عندما قال: «قد تعجبون في نفوسكم، كيف لهذا الرجل القادم من العالم الثالث، ان يجد هدوء البال لكي يكتب القصص. وانتم على حق. فأنا من عالم يشقى تحت عبء الديون التي يعرضه تسديدها الى المجاعة او ما هو قريب جدا منها. وبعض شعوبه تهلك في آسيا في الفيضانات، واخرى تهلك في افريقيا من الجوع. وفي الضفة الغربية وغزة هناك اناس تائهون مع انهم يعيشون فوق ارضهم. ارض آبائهم واجدادهم وأجداد أجدادهم. لقد انتفضوا للمطالبة بالحق الاول الذي ضمنه الانسان البدائي، اي ان يكون لهم الموطن الذي يعترف به الآخرون». ثم يعود فيقول: «اجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث، هدوء البال لكتابة القصص؟ لحسن الحظ ان الفن رحب وذو حنو».

ومصر تعطي، كما قلت غير مرة، لابنائها حجما لا يقدر على اتخاذه مواطن عربي آخر. فمن اين لأي روائي لبناني، برغم فينيقيا، رمسيس الثاني وكليوباترة وسعد زغلول وجمال عبد الناصر، ثم درامية انور السادات؟ ومن اين، لأي عربي آخر، النيل؟ هل يمكن ان نتصور رواية عنوانها «ثرثرة على الليطاني» او على الوزاني او على الاولي، الذي هو للمناسبة نهر طفولتي؟

تاريخ مصر ورواية مصر وحكاية مصر وحتى قصيدة مصر، هي قصيدة وحكاية ورواية المدينة، هي حكاية الملايين من الناس، هي الخديوية والملكية و23 يوليو. الاهرام والنيل والاقصر ووادي الملوك وصعاليك «خان الخليلي» وعبد الناصر القادم من حرب فلسطين وانور السادات الذاهب الى الصلح في القدس. الاول خسر سيناء والثاني استعادها. لكن الاول ذهب مقاتلا الى القدس والثاني ذهب اليها متعرقا يمسح جبينه بمنديله كل دقيقة.

هل مصر تصنع رجالها ام هم يصنعونها؟ لقد اتهم نجيب محفوظ بأنه معاد للعروبة، فرعوني الهوى. ومن الصعب تصنيفه في خانة سياسية واضحة او ضيقة. لقد كانت النفس البشرية همه وان كانت مصر هواه. بل هي هاجسه. لقد رآها مختلفا عن كل شيء وعن الجميع: «بقدر اختلاف الماء عن الغاز كان اختلاف مصر الحالية عن كل هذه الهويات الحضارية، فالمعمار الاسلامي في مصر مثلا ليس هو المعمار الاسلامي في تركيا او في المغرب، والكنيسة القبطية ليست هي الكنيسة المسيحية الاوروبية. ان للشخصية المصرية جوانب متعددة لكنها كلها مصر ولا شيء اخر. واقربها الى قلبي مصر الاسلامية».

ومحفوظ لم يترك شيئا لم يكتب عنه في رواية او في قصة قصيرة. الحب والخداع، الاخلاص والخيانة. الحياة والموت. الشر والخير. الجريمة والعقاب. الثأر والعفو. الفقر والقصر. ودخل الى جميع البيوت. والبيت الذي لم يدخله كروائي دخله من بوابة السينما. فقد تحول ابطاله واشخاصه الى اسماء علم في بيوت مصر. وتسمرت الناس في العالم العربي تصغي الى ثلاثيته. وبقي «ابن بلد» من طراز اول. يقطع الطرقات مشيا ويوافي الرفاق الى المقهى ويستوقف الناس وينكت معهم. واذ ذهب لاجراء عملية جراحية في القلب في لندن شعر بغربة كبرى. وامتنع عن الطعام. وحار طبيبه في امره. فقد كان المستشفى يقدم له افضل المشهيات لديه. وقلقت ادارة المستشفى على حامل نوبل. واخيرا جاءه طبيبه وقال له: هل هو الاكتئاب الذي يعقب مثل هذه العمليات. انك لا تأكل شيئا، وترد الطعام كما هو. هل من سبب؟ ورد صاحب نوبل بأدب واعتذار: «ما فيش كده. شوية فول مدمس. او حبة طعمية وطرشي. يعني عارف سيادتك».

وعلى جناح السرعة وصلت الى المستشفى عربة تحمل طعمية ومدمس. وشوية زيت زيادة من فضلك. لقد كان جزءا من شارع مصر. ومن القرية المصرية. ولم يستطع الخروج منهما فيما العالم اجمع يتهلف لاخبار حاله الصحية. مسيرة طويلة في شارع مصر. في الاسكندرية وفي اسوان وفي القاهرة وفي الجمالية وفي العباسية وفي خان الخليلي وفي عوامات النيل وفي المكاتب البيروقراطية وفي احياء الفقر وفي مخادع الخيانة وفي مسرح الجريمة. في كل مكان من مصر. في كل زاوية وكل حتة. وفي كل سنة وكل عقد وكل قرن. من ايام مينا الى ايام انور السادات. وكان يخاف الخروج من مصر حتى في المخيلة. حتى الى السويد لم يسافر من اجل نوبل، كأنه كان مؤتمنا على ابناء تلك الحارة الذين ابتدعهم او الذين نقلهم او الذين رافقوه ورافقهم في كل ليلة وفي كل سطر وفي كل خاتمة.

اعمق الخواتم التي صاغها نجيب محفوظ كانت في «الجرس يرن». قصة قصيرة يخاطب فيها، على عجل، تأملاته في الموت والحياة. وكعادته يلجأ الى الرمز من اجل ان يبحث به عن الحقيقة: رجل عجوز يهيئ نفسه للخروج من البيت من اجل زيارة ابنته المتزوجة (عائلته مؤلفة من ابنتين، فاطمة وام كلثوم) لكنه يفاجأ قبل ان يفتح الباب بطارق. فيعود ويتصل بابنته يخبرها بالامر، فتحثه على المجيء سريعا. الا انه يرى الطارق امامه، يصر عليه ان يصطحبه. وليس الطارق سوى ملاك الموت، كما نفهم من الحوار. ويطلب الطارق من العجوز ان يعدل في مظهره وان يغير ربطة عنقه بأفضل منها. ويعقدها له بنفسه. وفرد ياقة القميص وطوقه به، ثم راح يعقد بمهارة ورشاقة، وثنى الياقة وتفحصها، وقال: غاية في الاناقة، تأبط ذراعه ومضى به.

بهدوء مضى نجيب محفوظ. غاية في الاناقة والبساطة ومن دون ربطة العنق التي تخلى عنها منذ زمن. وكان من حظ اصدقائه انه كلما تلقى هدايا منها حولها اليهم. وخصوصا الى يوسف ادريس الذي كان حريصا على اناقته. سئل يوما ماذا يعني بحسن الختام، فأجاب: «اقصد ان تكون سهلة. فالناس يتركون هذه الدنيا على احوال، في بعض الاحيان يتركونها وكأنهم في نزهة، ودون ان يدروا يجدون انفسهم، قد تركوها. وفي احيان اخرى يخرجون بتعب شديد. ان لي شقيقين، احدهما اصيب بالسرطان وكان الاسبوعان الاخيران من حياته غاية في الصعوبة، والآخر مات وهو يشرب الشاي مع ابنه، والتفت اليه الابن يحدثه فلم يرد. لقد مات».