«الشرق الأوسط» في بناية محفوظ: كان يسأل عن آخر نكتة وجيرانه يتحدثون عن تواضعه ويلقبونه بالأستاذ

جارته الفنانة برلنتي عبد الحميد: لم يخذلني كالآخرين بعد وفاة زوجي المشير

TT

في محاولة للتعرف على الوجه الآخر لصاحب نوبل الكاتب العالمي نجيب محفوظ زارت «الشرق الأوسط» البناية التي يسكن بها رقم 172 الكائنة على مقربة من نيل القاهرة بحي العجوزة، وتحدثت مع بعض جيرانه وأهل شارعه عن ذكرياتهم معه وصورته التي انطبعت في ذاكرتهم عنه كانسان تجمعه بهم حقوق الجيرة وقبل كل ذلك محبة خاصة له كأديب طالما أمتعهم بأعماله الخالدة.

الفنانة برلنتي عبد الحميد التي تسكن في نفس العمارة بالدور الرابع قالت لنا: من حظي أني سكنت في هذه العمارة التي يقيم بها كاتب بنفس قيمة نجيب محفوظ، وهنا لا أتحدث عن قيمته كمبدع وصاحب روايات خالدة وإنما أتحدث عن إنسان يعرف قيمة الكلمة وشهامة وجدعنة أولاد البلد التي أعرفها جدياً، فأنا تربيت في حي السيدة زينب وأعرف ما هي الشهامة وما هي الرجولة وقت الشدائد.

وأنا تعرضت لمحنة كبيرة عام 1967 بعد وفاة زوجي المشير عبد الحكيم عامر، وقتها تعرضت لمضايقات شديدة من الأمن وكنت مراقبة من المخبرين، في هذا الوقت كان كل الناس تخاف أن تسلم علي أو تزورني في شقتي ولكن هذا العملاق نجيب محفوظ الذي لم تكن بيننا وقتها أي علاقة غير السلام العابر ذهبت إليه وطرقت باب شقته وجدته يستقبلني بكل الترحاب والود والروح الجميلة برغم علمه أن مجرد مقابلته لي فيها تهديد لمستقبله، وانه سيتعرض لمضايقات شديدة من رجال الأمن، لكنه تناسى كل هذه الحسابات متذكرا أنه رجل شهم (جدع) وأنه لن يخذل جارته التي لجأت إليه في شدتها، في وقت تخاذل الكثيرون من المنافقين الذين كانوا يطاردونني في كل مكان قبل هذه المحنة، وهذا موقف لا أنساه أبداً لرجل عظيم شهم شجاع ابن بلد، وليس مثل من يرفعون الشعارات الكاذبة أثناء كتابتهم للمقالات ولكن عندما يلجأ إليهم أحد يصدونه ويحسبون ماذا سيستفيدون من هذه المواقف من الناحية المادية، وقتها احتضنني نجيب محفوظ ووقف معي في شدتي ضد الظلمة.

ولم تستطع برلنتي عبد الحميد أن تحبس الدموع في عينيها وقالت بشجن وألم: موقف آخر أتذكره لهذا الكاتب الكبير عندما فكرت في كتابة كتاب (الطريق إلى قدري) لكي أرصد فيه المستندات التي تبرئ المشير من تهمة الإهمال في الحرب وأرصد فيه أهم الأحداث التي عايشتها لأنني كنت قريبة من كل رجال الثورة، وعندما لجأت إليه لكي أستفيد من خبرته الطويلة في الكتابة على الفور أخذ ما كتبته عن هذه الفترة وقال هذا ممتاز، وعندما طالبته بإعادة الصياغة وترتيب الجمل حتى يظهر الكتاب في صورة جيدة، لم يبخل بالنصيحة وقال لي: يكفي الحقائق التي ذكرتها في الكتاب لنجاحه ولكني عندما أعيد كتابتها بأسلوبي ستتضح الحرفية في الكتابة ويفقد الكتاب المصداقية، وشدد علي في استكمال الكتاب حتى ظهر إلى النور وكأنه كتابه هو، هذا هو نجيب محفوظ أعرفه منذ عام 1962 الرجل المتواضع الذي يمشي على الرصيف بكل تواضع وبدون تكلف، هذا الصرح الذي لم يتعال يوماً علي جيرانه، وعلى غير جيرانه. أنا في غاية الحزن والأسى لوفاته فهو لي أبي والحضن الدافئ وقت المحن والشدائد في وقت ندرة الرجال وقت المصاعب الكبيرة.. رحمة الله على نجيب محفوظ المبدع الخلاق والإنسان القدوة.

السيدة عبير عبد العزيز تسكن الدور الثالث في نفس عمارة محفوظ منذ عام 1985، تقول: أنا وزوجي وأولادي كنا على صلة دائمة بالأستاذ نجيب محفوظ رحمه الله وكنا نقوم بزيارته باستمرار في كل المناسبات فهو رجل محبوب ومقابلته لنا تشعرنا بأننا من أسرته وأنه أب حقيقي. وكان الأستاذ حينما يعرف في وقت ما أن عندنا حفل عيد ميلاد أو مناسبة سعيدة أو لا قدر الله أحد مريض على الفور يرسل زوجته لتقوم بواجب الجيرة، فزوجته وبناته فاطمة وأم كلثوم صديقاتي، والجميل في هذه العلاقة أننا لم نشعر في يوم من الأيام بأي تعال أو تكبر منه، فعندما كنا نطرح عليه مشكلة من مشاكلنا لا يتأخر في تقديم الحلول التي بها قدر كبير من الحكمة. وللعلم كل سكان العمارة يحبونه ويعشقونه ويعتبرونه أبا ولم يحدث طوال فترة تواجدنا في هذه العمارة بأن اختلف الأستاذ مع أحد من السكان بل دائماً يسأل ويتابع من تعرض لمحنة أو موقف حتى يقدم له يد المساعدة فهو صاحب واجب. في نفس العمارة يسكن محسن سعيد وهو يمني الجنسية يقيم بالعمارة منذ 5 سنوات يقول: أنا أقضي إجازة الصيف هنا بالقاهرة بصفة مستمرة وعندما علمت في بداية سكني لهذه الشقة بأن الأستاذ نجيب محفوظ يسكن في نفس العمارة شعرت بسعادة كبيرة وأصررت على أن أسلم عليه ولكن التواجد الأمني المكثف كان يشعرنا بالابتعاد، ولكن في أحد الأيام قابلته مصادفة أثناء خروجه من باب شقته بالدور الأول وأصررت أن أذهب لكي أسلم عليه بيدي فوجدته يقبل علي بكل ترحاب وكأنه يعرفني منذ سنوات وعندما عرف أنني غير مصري من لهجتي وعلم أني يمني أعيش في السعودية أخذ يتحدث معي عن كتاب وشعراء اليمن وعن السعودية ومواقفها، ولم أشعر لحظة أني اقف أمام هذا العملاق نجيب محفوظ إنما اقف أمام رجل متواضع محب للناس ودود لأكثر مما يتخيل أي إنسان.

ويضيف سعيد: خسارتنا في نجيب لن تعوض، فهو الذي أقام صرح الرواية العربية بمحبة واقتدار. رجل الأمن الذي يقف أمام العمارة واسمه رمضان قال وهو يبكي: لا أصدق أنني لن أراه بعد الان. الأستاذ نجيب رجل محترم بمعنى الكلمة عندما يخرج من شقته كان يصر على السلام على كل من يقابله بدون تردد ودائماً يسألنا عن صحتنا وما الشيء الذي ينقصنا، ولكن في السنوات الأخيرة كانت خروجه قليلا ولكن زواره كثيرون من الأدباء والشعراء والطلاب الجامعيين وكان دائماً لا يصد أحدا إذا كان في الإمكان تقديم المساعدة لمن يقصده.

قبل أن نغادر العمارة قابلت ولدا وبنتا عمرهما لا يتعدى خمس سنوات عرفت انهما من أولاد السيدة عبير جارة الاديب نجيب محفوظ قبل أن أحدثهما بادراني بالقول «يا رب اشف جدو نجيب» ويبدو أنهما لم يعرفا خبر وفاته.

بجانب العمارة يوجد كشك لبيع المياه الغازية والسجائر يملكه شاب في الثلاثينات من العمر اسمه مصطفي عاشور عندما سألناه عن معاملاته مع الأستاذ نجيب قال أنا أقف في هذا الكشك وأنا عمري 10 سنوات مع أبي في فترة الثمانينات وكان الأستاذ نجيب يتعامل معنا باستمرار وكل الناس تتحدث معه بكل سهولة ودائماً ما يحب أن يستمع إلا آخر النكت ودائماً الضحكة لا تفارقه، وكنت دائماً احب أن أستغل طلبه لشراء مياه معدنية وأسأله عن الأفلام التي قام بكتابتها وعن الفنانين وكان يتحدث معي وكأنه صديقي، ولكن بعد حادث محاولة الاغتيال الذي تعرض له أصبحنا لا نراه كثيراً لتواجد ضباط الأمن معه باستمرار، وكان قبل دخوله المستشفى يرسل لنا في طلب المياه المعدنية، وعندما أقوم بتوصيلها بنفسي كانت تفتح لي الباب زوجته ولكني كنت دائماً أصر على توصيل سلامي للأستاذ الذي كنت أشاهده كل يوم يمر من أمامي ولكن «منه لله الإرهابي» الذي حاول قتله فبعد تلك الحادثة الجبانة لم أستطع أن أتناول مع الاستاذ أحاديث طويلة مثلما كان يحدث من قبل. لكن في هذه اللحظة المريرة أدعو الله أن يشمله برحمته ويدخله فسيح جناته. محمود وأحمد شابان في الثلاثينات من العمر صاحبا سوبر ماركت بجوار منزل الأستاذ نجيب يقولان نحن نتولى إدارة المحل بالنيابة عن والدنا لتقدمه في العمر ولكننا كنا نتعامل مع الأستاذ نجيب في أوائل الثمانينات ونشاهده وهو يتحدث مع أبي عن الجمالية وحرب العراق وإيران وأحاديث كثيرة فهو إنسان لا يصد أحدا في الكلام، حتى عندما يتدخل الزبائن وهولا يعرفهم يقف يتحدث معهم لفترة طويلة. وهناك من ينتقد أعماله السينمائية خاصة الثلاثية، وكان يرد بهدوء وبدون انفعال وظل حتى بعد تقدمه في العمر كل متطلبات منزله من تموينات ومواد غذائية بأنواعها يأخذها من محلنا فهو رجل يحافظ على العشرة القديمة، ولكن غيابه ورحيله يشعرنا بالحزن والألم فهذا رجل لن يعوض.

خلف مستشفى الشرطة الذي كان يعالج فيه نجيب محفوظ يجلس العم محمد بائع الجرائد وهو رجل تعدى السبعين من العمر يقول: منذ منتصف الخمسينات والأستاذ نجيب يشتري مني الجرائد في الصباح ولكن في السنوات الأخيرة أصبحت لا أشاهده كثيرا، فالأستاذ كان دائماً في الصباح يتحدث معي ومع من يشترون الجرائد في أمور دنياهم وكنت أشعر بالسعادة بأن نجيب محفوظ الذي يقرأ له كل المثقفين في كل الدنيا زبوني، وأصبحنا فيما بعد أحباء، فهو إنسان ـ رحمه الله ـ قلبه كبير متواضع يشعر بآلام أولاد البلد ودائماً مهموم بالفقراء وأولاد البلد الشعبيين، إنه إنسان ليس له مثيل في أخلاقه وطباعه فهو عمله نادرة.