حي «الجمالية».. التاريخ الذي تنفسه نجيب محفوظ بلا ملل

كان ملعب صباه ومسرحا لأهم أعماله

TT

يقول نجيب محفوظ عن حي الجمالية أحد أحياء منطقة الحسين بالعاصمة القاهرة والذي ولد وترعرع بين أحضانه «إن هذا الحي التاريخي حي الجمالية أو شياخة الجمالية ظل يأسرني داخله مدة طويلة من عمري، وحتى بعد أن سكنت خارجه، وحين استطعت أن أفك قيود أسره من حول عنقي لم يأت هذا ببساطة، إنك تخرج منه لترجع إليه، كأن هناك خيوطا غير مرئية تشدك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها من دون ملل».

استطاع محفوظ الذي ولد في كنف عائلة بسيطة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، أن يجسد هذا الحي الذي نشأ فيه بصورة مؤثرة تفيض بالحياة، وبدا الحي في أعماله وكأنه مرآة يختزل فيها صورة القاهرة كلها، أو كأنه بوصلة دقيقة للتنقيب عن هوية الحارة المصرية القديمة التي بدأت تضمحل وتغيب شخوصها، وتذوب ملامحها بفعل التمدن السريع. لقد استلهم منه محفوظ الروائي المبدع تفاصيل الحارة ونجح في تصويرها فوتوغرافيا، ولم يكتف بنقلها حرفيا حتى ليكاد القارئ لسرديات محفوظ يحس كأنه بالفعل يعيش في حي الجمالية، ويشعر كأنه فرد من أفراد الحارة المصرية يعرف أزقتها وحوانيتها ودكاكينها وشخصياتها وتفاصيل حياتها اليومية.

ومع أن ثقافة محفوظ استمدها من واقع الأحياء الشعبية، إلا أن بعض ثقافته التاريخية تشكلت أيضا من خلال رحلاته مع أمه لزيارة الآثار وهو طفل صغير، فقد كانت تلك هوايتها زيارة المتاحف والآثار الفرعونية والإسلامية وإلى ذلك يعزو محفوظ كتابته لبعض الروايات التاريخية مثل: عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة. ومن المؤثرات الثقافية التي اكتسبها محفوظ في رحلته في حي الجمالية حفظه القرآن الكريم وتعرفه على التراث الشعبي المصري في بيئته الطبيعية. يتذكر محفوظ انه كان يقف وهو طفل على شباك منزل العائلة في حي الجمالية يراقب الجنود البريطانيين وهم يحاولون ردع مظاهرات عام 1919 «وقد روي هذا المشهد في رواية بين القصرين»، رغم أن عائلته غادرت الجمالية عندما كان في الثانية عشرة من العمر، إلا أن أزقتها، بنسيجها الطبقي والاجتماعي، بقيت في مركز عالمه القصصي.

يصف محفوظ حي الجمالية في رواياته في المرحلة الواقعية، وخاصة في «زقاق المدق» عام 1947 وفي ثلاثية القاهرة عامي 1956، 1957، وصفا دقيقا، لكن مع حلول عام 1959 وفي «أولاد حارتنا» خفت دقته في وصف الواقع، وأخذت أزقة الحي بعض الصفات غير الواقعية، فيما لاحظ البعض أن روايات محفوظ الواقعية تركزت على أهل المدن، ولا وجود فيها للفلاحين أو للريف، كما لو يبدو أن سكان المدن في رواياته لا أقرباء لهم في الريف وقد يكون ذلك تأثرا بواقعه الشخصي، فالمدينة إن تعارضت مع شيء، فهي لا تتعارض مع القرية، بل مع نفسها في بداية نموها، ويركز محفوظ على ذوي الدخل المحدود الذين يحاولون مقاومة الغرق في الأيام الصعبة، ويفعلون ما في وسعهم للحفاظ على مستوى معيشة الطبقة الوسطى، ومظهرها وتصرفاتها.

وفى روايات مختلفة أشكالها تنوعت بين الطويلة والقصيرة، يظهر ولع محفوظ بالمكان ويبلغ أوج قوته في المرحلة الطبيعية الواقعية من حياته الأدبية، مستندا إلى مفردات الحارة المصرية على وجه الخصوص، ففي الثلاثية الشهيرة، يزرع جذور ملحمته التي تصور حياة ثلاثة أجيال لأسرة مسلمة في تلافيف شوارع منطقة الجمالية وخان الخليلي، مستخدما إياها كرحم واقعي للأحداث، وأيضا كمجاز أدبي للتعبير عن آمال وإحباطات شعب يحاول الخروج من اختناقات الماضي إلى آفاق عالم الحاضر المتغير الأكثر رحابة.

ويصور نجيب محفوظ حواري الجمالية وخان الخليلي كعالم قائم بذاته، تتصادم فيه التجارة بالأشغال الحكومية، المدارس بالمقاهي، سكان المدينة بجنود الاحتلال، الرجال بالنساء، العوام بالأدباء، الحلم بالحقيقة، الشباب بالعجائز.

وفي رواياته اللاحقة لم يغفل نجيب محفوظ عن مناطق الجمالية وخان الخليلي القديمة، ففي «حضرة المحترم التي صدرت للمرة الأولى عام 1975، على سبيل المثال، نرى البطل ابن صاحب العربة الكارو الذي يعمل موظفاً بالأرشيف في أحد المكاتب الحكومية، يعود بعد انتهاء العمل في مكتب الحكومة إلى بيته في منطقة الحسين التي يعتبرها امتدادا لجسده وروحه».

لقد وحد محفوظ ما بين شوارع منطقة الجمالية والحسين القديمة بحاراتها وطرقها الضيقة المسدودة وبين الكثير من أبطال أعماله فأقدارهم ومصائرهم دائما تسير في طريق مسدود، وهي الفكرة التي تناولها على نحو أكثر تفصيلا في «زقاق المدق»، التي صدرت للمرة الأولى عام 1947، فقد تقلص مكان الأحداث فيها على زقاق بعينه برغم اتساع وتشابك خطوط الزمن في الرواية.

وقد عرف زقاق المدق بهذا الاسم حيث كانت تطحن فيه التوابل قبل نقلها إلى سورية، وفي القرن الثامن عشر كان الزقاق، بالإضافة إلى ذلك سوقا لبيع الرقيق، وفي رواية نجيب محفوظ تثور البطلة، برغم انها ليست أمه، على عيش حياة لا تكاد تختلف في قيودها عن حياة الرقيق. ثم وجدنا زقاق المدق على نفس الوصف تقريبا الذي جاء في الرواية وان كان أقل زحاما مما وصفه نجيب محفوظ، وكان واسعا إلى حد ما ولكنه أقصر بلا شك مما وصف في الرواية، وجدنا مقهى كرشة الشهير قائما حتى الآن بالفعل لكنه مغلق، ومن بين الأماكن التي جرت فيها الأحداث، لم يزل يعمل سوى الفرن، حيث يجلس بعض الشبان على أرضه ينخلون القمح لإعداده لصنع الخبز، في نهاية الزقاق رأينا بيت حميدة بنافذته التي كانت تطل منها على الزقاق، لكن تكعيبة العنب الشهيرة المحيطة به قد قطعت منذ عدة سنوات.

لقد استطاع نجيب محفوظ مثلما فعل أسلافه من الروائيين العظام: ديكنز في مدينة لندن وجوبس في دبلن واديث وارتون في نيويورك، أن يستوطن القاهرة الثرية العريقة بشوارعها وحواريها التي عرفها عن كثب واستطاع أيضا أن يزيدها ثراء في رواياته، أن الزمن سوف يحمل لاشك، لحظة تختفي فيها البيوت والآثار والأماكن التي اختارها نجيب محفوظ لتتضمنها أعماله، ولكن هذه اللحظة ـ كما يقول الأديب جمال الغيطاني ـ لن تستطيع، بحال من الأحوال، التسلل إلى صفحات رواياته ولعل الحظ كان كريما حين احتفظ لنا ببعض تلك الأماكن حتى نستطيع أن نراها كما رآها نجيب محفوظ.