كتاب وشعراء ومثقفون مصريون لـ«الشرق الأوسط»: الراحل منح الرواية كل عمره

أجمعوا على تواضعه وقدرته على الإصغاء للآخرين

TT

اعتبر كتاب وشعراء ومثقفون مصريو رحيل نجيب محفوظ بالخسارة الفادحة للثقافة العربية، وقالوا في كلمات رثاء سريعة لـ«الشرق الأوسط» بالرغم من المكانة الرفيعة التي يتميز بها نجيب محفوظ باعتباره أبا الرواية المصرية والعربية أنه تميز بالروح الأبوية الخالصة، فكان شديد التواضع، في كبرياء، غير سافر ولا فج، ويصغي إلى الآخرين دون افتعال أو كذب، كما لا يمكن أن ننسى ضحكته المجلجلة والتي تنم عن نفس صافية مقبلة على الحياة.

يقول الكاتب السينارست محفوظ عبد الرحمن: عندما تكون في حضرته فأنت في حضور مهندس يحلق بخيال الفنان ويعرف حدود الواقع عكس معظم أبناء جيله مثلا، إحسان عبد القدوس كان في عالم آخر لا نعرفه وكذلك يوسف السباعي الرومانسي أما نجيب محفوظ المعجون بروح الحارة المصرية التي نشأ فيها بحي «الجمالية». وأستبطن هذا المكان العبقري فكانت رواياته من نفحة هذا الروح بداية من الثلاثية الشهيرة التي قرأتها عدة مرات أو بداية ونهاية، وأولاد حارتنا، أو رائعته الخالدة الحرافيش. هذا المهندس الواعي يعرف حدود الرواية وكيفية رسم الشخصيات ولذلك سيبقى من نجيب الفنان الكثير والكثير. إضافة إلى روح التعاطف والتواضع والمحبة وعشق الحياة.

ويقول الدكتور عبد المنعم تليمة: «وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد».

مآل الشخصية وادائها السلوكي تفسح عن بساطة فريدة في ظاهرها، بيد أنها تفصح لمن يعي، ويتأمل عن عمق فذ في باطنها، تتقدم منه فيقبل عليك بابتسامة طويلة ودودة ثم ضحكة صافية لها رنينها الخاص الصادق الجذاب، ويضيء عقلك ويشرح صدرك.

اذا ترى وراء الابتسام والضحك المباشرين كيانا تصب فيه البشرية جماع عذاباتها وهموم فضائها ومساعي طرقها، ومسالكها وأشواقها الرفيعة إلى العدالة والحق والحرية، تقرأ عباراته وتستدعي كل الموروث التشكيلي الذي عرفته البشرية بكل عصورها تشكيل النثرية الخالدة في العبارات القرآنية وطرائق الجاحظ والتوحيدي وابن عربي وجبران وتوفيق الحكيم، وتلتحم عباراته بالمدرج الشعري الرفيع إلى آفاق المتنبي وشوقي وتكشف العبارة المحفوظية عن الدلالات الروحية والفلسفية والتاريخية والاجتماعية، فتقع على قاعدة شديدة المحلية والحميمية لها أعمدة وسقوف من الموروث الديني والصوفي والأسطوري والملحمي مدار كل ذلك ثنائية الخير والشر، فمن الخير العدل والحرية ومن الشر الظلم والاستبداد. مجمل عمل نجيب محفوظ الخالد سعى البشر على كوكب الأرض إلى الحرية.

ويقول الشاعر حسن طلب: نجيب محفوظ هو سقراط العصر الحديث، ولكن الفرق بينه وبين سقراط الفيلسوف والإنسان أن الأخير كان شفاهيا أما نجيب محفوظ فكان كتابيا. وقد عرف نجيب محفوظ أن الإنسان لا يمكن أن يتفوق في كل شيء ولذلك جرب موهبته في الكتابة التاريخية وفشل فاتجه إلى الفلسفة ثم الترجمة، وعندما علم أن موهبته في كتابة الرواية ترك كل ذلك، وجعل الفلسفة تشع في عالمه القصصي. نجيب محفوظ يعتبر نموذجا ودرسا لفهم الواقع والإبداع وقبل كل شيء درسا في البساطة، فهو لا لم ينشغل بمنصب أو تقرب من سلطة، ولم يتخذها سلما للترقي الاجتماعي، ولكنه سخر نفسه للكتابة والإبداع باعتبار أن الإبداع الحقيقي يقتضي الإخلاص المتكامل لما يبدعه، كما أنه لم يلتفت للمكسب السريع أو لنيل جائزة من هنا أو هناك، ولا أقصد هنا بالجوائز جائزة نوبل، أبدا بل اقصد الجائزة الكبرى وهي محبة الناس واحترام القراء.

ويقول الروائي يوسف أبو رية: في بداية مشوار نجيب محفوظ الأدبي، وكان اسمه بدأ يتردد في الأوساط الأدبية باعتباره كاتبا موهوبا، وأراد الشاعر كامل الشناوي أن يتعرف على هذا الشاب، وقد كان يسهر مع ثلة محدودة على قهوة في شارع سليمان باشا، وقد ذكرت هذه الواقعة للأستاذ نجيب فأكد صحتها. أراد كامل أن يتعرف على هذا الشاب فذكر له واحد من أصدقائه أنه يمر من هنا يوميا، وقد كان نجيب ينزل من الترام في شارع فؤاد ثم يسير في شارع سليمان متجها إلى مكتبه في وزارة الأوقاف قسم الرهونات موظف تقليدي جدا، حلة نظيفة، حقيبة سوداء تحت إبطه، حزام لامع، نظارة داكنة اللون وحين اقترب من المقهى الذي يجلس فيه كامل الشناوى الشاعر، تعرف عليه حتى قال الشناوي بعد أن حدق إلى محفوظ طويلا، قال «هذا الشخص لا يمكن إلا أن يكون فنانا». هكذا هو نجيب محفوظ، حتى عندما تستحضره على المستوى الشخصي الحياتي، تجده هادئا روتينيا، مستقرا، لا يأتي بأي فعل غير تقليدي، ولكن حين يكتب فهو الفنان من الطراز الأول، داخله فوضى ولكن يمارسها بفن، فهو يمتص من الخبرات الحياتية ما شاء، ويصف هذه الخبرات، فيدهش البشر بإبداعه الخالد، نجيب محفوظ متعته الحقيقية هي الكتابة ولا شيء آخر يدانيه في هذه المتعة. أما الروائي فتحي أمبابي فيقول: نجيب محفوظ هو عميد الرواية العربية، وستظل أعماله، الثلاثية والحرافيش، وأولاد حارتنا، وبداية ونهاية، روايات حية وإبداعا صاغه بتميز وقدرة عقلية فذة، قادرة على التحليل الاجتماعي والسيكولوجى لوقائع الحياة العامة وفهم سلوك البشر. انه إبداع قادر على خلق الشخصيات ضمن نسيج اجتماعي داخل النص الروائي لواقع متخيل، مما سيجعل أعماله صورا حية للحياة المصرية خلال القرن العشرين.

يضيف أمبابي: لقد صاغ محفوظ أعماله بناء على الأساس العصري للرواية الواقعية النقدية وانطلق منه إلى تخوم الاتجاهات الأدبية المتنوعة بأشكالها الحداثية وما بعد الحداثية، ودونما أدنى درجة من التهافت، وقدم في هذا السياق لاستثناء الرصين والأمين للاحتياجات الداخلية لواقع الشخصيات والبنى الاجتماعية التي تنطلق منها. لقد ساند محفوظ في كل أعماله الإنسان وجسد معاناته ضد قوى القهر والظلم والتعسف، وفي هذا يكمن جوهر عبقريته. ويقول الروائي الشاب مصطفى ذكري: تتفتق أسطورة نجيب محفوظ من دأبه ونظامه، وأعماله التي تغطي التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر. وهو يشبه ـ إلى حد كبير ـ نيتشه، وتولستوى، واناتول فرانس، وشكسبير، وديكنز، وبر وست فهؤلاء الأدباء بأعمالهم الخالدة العظام أضافوا قيما جديد للبشرية، وكانوا مرآة حقيقية لعصرهم. مصاف هؤلاء الأدباء. وأنا أتصور أن أعمال محفوظ تجعله يقف بشموخ في مصاف هؤلاء الأدباء.

وقول الأديب عبد السلام العمري: أعمال نجيب محفوظ ستظل تفاجئنا بأسرارها، ومغامراتها. ومن الصعب أن نختزل هذه العبقرية في سياق رؤية أو مضمون محدد، إنه عالم كلما فهمته يفاجئك بأفكار وأسرار جديدة ، طازجة وحية مثل طزاجة ونضارة الحياة نفسها. ولا أنسى موقفه الشجاع معي حين صودرت روايتي «الجميلات» وتعرضت للمحاكمة بسببها: لقد داعبني وقتها قائلا: «أنت عاوز تكتب الرواية دي ولا يهاجمك أحد «وربت على كتفي هامسا: «لا تخف وتشدد وثق أنك أنت المنتصر». وبنبرة أسى يقول الشاعر محمد سليمان: أحدهم يذكرني بالآخر تمثال الكاتب المصري الذي تراه على واجهة الهيئة المصرية العامة للكتاب والذي يطل علينا من اغلفة مطبوعاتها والذي اخترق الأزمنة لكي يعيش معنا ونجيب محفوظ الذي ظل منذ ثلاثينيات القرن الماضي يرصد ويكتب بلا كلل. انه نجيب محفوظ شيخ الرواية ومؤسسها، قبله كان الكتاب يكتبون رواية واحدة أو اثنتين ثم يتوقفون أو يتوجهون إلى أشكال كتابية أخرى لكن نجيب محفوظ ظل بدأبه ومثابرته يمنح الرواية كل عمره وكأنه اعتبر نفسه موظفا، الكتابة هي وظيفته وعمله كتب كثيرا من الأعمال والقصص والى آخر لحظات ظل وجه التمثال الكائن للكاتب المصري يتسم بكثير من الصلابة والتماسك، لقد كان نجيب يحلم بكتابة كل التاريخ المصري في شكل روائي، كتب روايته التاريخية في الثلاثينيات، أحيانا يذكرني محفوظ بذلك الفلاح المصري الذي يحتضن أرضه ويتشبث بها لكي تذوب فيه أو ينصهر فيها، لقد خسرنا قيمة كبيرة وعظيمة. ويقول إبراهيم المعلم، رئيس اتحاد الناشرين العرب: لقد رحل نجيب محفوظ عن دنيانا ولكنه رحل بعد حياة حافلة بالعطاء والموهبة والعمل الدؤوب الذي أثرى الرواية العربية والحياة الثقافية في مصر والعالم العربي بروايات ومواقف متميزة، فقد تمتع نجيب محفوظ بدرجة من الإنسانية والبصيرة الأدبية جعلته واحدا من أعظم الأدباء والمثقفين في العالم، ما لم يكن أعظمهم، لأني قابلت الكثيرين من كتاب العالم الذين كانوا يقولون بلا خجل إنهم تعلموا من كتابات هذا الرجل، فهو الذي استطاع وضع الرواية العربية في مكانتها التي هي عليها الآن، وقد كانت حياته مزيجا بين الأيمان والعمل وحب الحياة وحب الموت أيضا، وهذه الفلسفة التي نبعت من إنسانيته واجتهاده منذ أن كان فتى صغيرا حتى قبيل وفاته جعلت كتبه تحقق نجاحا كبيرا في حياته، وسيستمر هذا النجاح رغم رحيله عنا، وإذا كنا نريد تكريم نجيب محفوظ فقد تم تكريمه في حيا ته بحصوله على جائزة نوبل في الآداب وحصوله على قلادة الجمهورية، بالإضافة للتكريم الأهم من محبيه وقرائه، والدليل الأهم على حب الناس له في مصر والعالم هو زيارة وزراء ورؤساء دول له وزيارة ناشرين عالميين وكتاب مثل الكاتب الفرنسي شميت والكاتب البرازيلي باولو كويلهو. ويقول الروائي إبراهيم عبد المجيد: لم يكن نجيب محفوظ مجرد شخص ولكنه كان أمة كاملة لأن ما أبدعه في مجال الأدب إبداع أمة، فهو الكاتب الذي كتب الرواية التاريخية والرواية الواقعية وما بعد الواقعية والرواية الحداثية، كما استحدث أشكالا جديدة للكتابة، ويتضح ذلك في آخر إبداعاته «أحلام فترة النقاهة». وعلى المستوى الشخصي اعتبر نجيب محفوظ السبب الرئيسي وراء حبي لفن كتابة الرواية، وهو السبب أيضا في حبي للقاهرة التي تراها وتشم رائحة حواريها الضيقة وشوارعها الرحبة بين صفحات روايات نجيب محفوظ. ورغم حصوله على جائزة نوبل فأنا أرى أنه كان يستحقها منذ فترة طويلة لأنه أبدع أشكالا روائية جديدة، والشكل الروائي أهم من المضمون، وقد قدم محفوظ شكلا جديدا ومضمونا يعبر عن هويتنا في كثير من أعماله. وعزائي الوحيد هو ما تركه لي من أعمال مثل «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» و«زقاق المدق» وغيرها من الأعمال التي أعود اليها دائما.

وبحزن يقول عماد العبودي أحد المتبقين من شلة الحرافيش: نجيب محفوظ أعظم شخصية أنجبتها مصر والبشرية بأكملها، فمن لم يعرفه فقد الكثير، فهو كان مثالا للبساطة وحب الناس وحب الجمال ووفاته خسارة للعالم كله بما كان يحمل من فكر وثقافة وفلسفة ومعرفة. أما عن كتاباته فأنا واحد من أشد المعجبين بها فأنا أقرؤها من صغري ودائما ما أجد معاني جديدة ورؤى مختلفة عند إعادة قراءة عمل لنجيب محفوظ، فهو بجانب كونه ممتعا فأعماله تدفعك للتفكير.