«الإسلام وتهذيب الحروب» الحلقة الأخيرة - الجماعة الإسلامية: فتوى الجماعة الجزائرية المسلحة بقتل زوجات وأمهات وبنات رجال الأمن تخالف إجماع العلماء

قالت إن النهي عن استهداف المدنيين من غير أهل المقاتلة والممانعة جاء ببيان نبوي ووحي إلهي

TT

عالجت الجماعة الإسلامية المصرية في كتابها الجديد «الإسلام وتهذيب الحروب» الذي انفردت «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه، فلسفة الإسلام وأخلاقياته في الحروب. وشددت الجماعة على أن الإسلام نظر إلى الحروب نظرة واقعية فاعترف بوجودها ولم يحاول إنكارها ولم يعارض دواعيها، لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع الإنساني كثيرًا ما تفضيان إلى التنازع والبغي، والتنكر للحق والاعتداء على الحريات والفتنة في الدين. وقالت إنه ما دام الأمر كذلك فمن الواجب أن يصبغ الإسلام هذه الحروب بصبغته المتميزة التي تتجاوب مع مقتضيات الواقع وتطلعات الفطر الإنسانية لدفع الظلم ورد العدوان، وفي نفس الوقت تضبط إيقاع هذه الحروب بما يجعلها ممزوجة بقيمه الأصيلة النبيلة المتمثلة في العدل والتسامح والرحمة.

وتتجلى روعة هذا النموذج الإسلامي في أخطر قضايا الحروب؛ وهي قضية منْ يُستَهدَف بالقتل أثناء اشتعال الحروب، وهذب الإسلام الحروب تهذيبًا جميلاً وظهر ذلك جليًا في رؤيته المنظمة لحركة جيوشه والضابطة لتصرفات جنوده في إطار فلسفة راقية وحكمة بليغة. وأبرز ملامح هذه الرؤية التهذيبية للحروب التي قدمها الإسلام للبشرية ذلك التفريق بين من يحارب ويقاتل ومن لا ينتصب للقتال أو يقاوم أو بعبارة أخرى التمييز بين المحاربين له والمدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في قتال جيوشه.

وانتقدت الجماعة الإسلامية الفتاوى التي صدرت باستهداف المدنيين أو تلك التي تكفِّر بعض فئات المسلمين. وقالت إنه «ترددت منذ سنوات مضت على الأسماع بعض الفتاوى المنسوبة لبعض العاملين للإسلام تنطوي على إباحة قتل المدنيين لجنسيات معينة أو إباحة قتل النساء والأطفال والسياح. ولعلَّ أشهر تلك الفتاوى الصادرة عن الجبهة العالمية لمحاربة الصليبيين واليهود بقيادة الشيخ أسامة بن لادن سنة 1998 والداعية إلى قتل الأميركيين، سواء من العسكريين أو المدنيين في أي مكان في العالم، ولا تقل عن هذه الفتوى شهرة وخطورة تلك التي جاءت لإسباغ الشرعية على ما قررته ونفذته الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر من قتل النساء والأطفال، بالإضافة إلى ما أثارته عمليات قتل السياح من قضايا وأحكام».

وأضافت الجماعة أنه «عندما نتأمل في موقف الإسلام من امتداد الحرب والقتال لغير المقاتلين سندرك عظمة هذا الدين وعمق فلسفته الإنسانية. فعندما يأتي النهي القاطع من رسول الله ( وخلفائه عن استهداف النساء والولدان والشيوخ والزمني والرهبان والفلاحين والأُجَرَاء نعلم عندئذ الموقف الحقيقي للإسلام من استهداف المدنيين بالتعبير المعاصر. وهذا النهي عن استهداف المدنيين من غير أهل المقاتلة والممانعة لم يأت نتيجة اختيار فقهي أو ترجيح مصلحي إنما جاء النص على المنع من استهداف أغلب هذه الأصناف ببيان نبوي ووحي إلهي، مما يرفع درجة هذا النهي في نفس كل مؤمن ومؤمنة إلى أعلى درجات الحذر من مخالفته.

وقالت الجماعة إنه على الرغم من الموقف المتميز للإسلام من قضية استهداف المدنيين بالقتل، إلا أن الممارسة الجهادية في أكثر من قطر جاءت مجافية في بعض جوانبها لذلك الموقف. ومن بين أشهر هذه الممارسات ما حدث في الجزائر عندما أباحت الجماعة الإسلامية المسلحة قتل النساء والأطفال، استنادًا إلى فتوى صادرة من أحد النشطاء الإسلاميين المقيمين بلندن. وأشهر هذه الفتاوى على الإطلاق تلك التي أصدرها تنظيم القاعدة فيما عرفت بفتوى قتل المدنيين الأميركان في أي مكان وأي زمان.

وتناولت الجماعة الإسلامية المصرية فتوى الجماعة الإسلامية الجزائرية وفندتها قائلة إنه «على الرغم من إجماع العلماء على عدم جواز قصد النساء والأطفال بالقتل أثناء استعار القتال إلا أن الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية تبنت نظريًا وعمليًا القول بجواز قتل زوجات وأمهات وأخوات وبنات كل الذين يعملون بالجيش وقوات الدرك الجزائرية». وأشارت إلى أنه في 30 من ذي القعدة 1415هـ الموافق 30 أبريل (نيسان) 1995 أصدرت الجماعة الإسلامية المسلحة (الجزائرية) البيان التالي:

قال الله تعالى: «وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ* الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ». إن الجماعة الإسلامية المسلحة الراية المبصرة الشرعية والوحيدة للجهاد والمجاهدين في هذه الديار، أخذت العهد على نفسها أن تقاتل في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وستظل وفية لعهدها، ثابتة عليه بإذن الله، حتى يفتح الله عليها أو تهلك دون ذلك، ولا يردها عن غايتها كيد الكائدين ولا مكر الماكرين ولا تخذيل المخذلين. إن الجماعة تجدد أمرها إلى كل زوجة لا تزال تحت عصمة مرتد أن تخرج من تحت عصمته لأن زواجها منه قد انفسخ بالردة، ولا يحتاج إلى قضاء قاض. كما تعلم كل من يزوج كريمته (وهي كل امرأة تحت ولايته بنتًا أو أختًا أو أمًا) بعد هذا البيان بأنه قد والاهم، وألقى إليهم بالمودة، وعرض كريمته للقتل ونفسه للنكال. والله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ...»(1). ولا مودة مثل التزويج؛ لقوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...».

كما نُعِلم الطاغوت المرتد، وكل من له به علاقة ولاء: أن الجماعة ستوسع دائرة الانتصار لأعراض نسائها، بقتل زوجات المرتدين المحاربين حيثما كن، في الدوائر التي لم ينتهك فيها عرض أو تتابع فيها أخت أو تسجن فيها مسلمة، داخل البلاد وخارجها. كما توسع انتصارها لعرضها بقتل أم وأخت وبنت المرتد المحارب، المقيمة عنده أو المقيم عندها. إن الجماعة لن تتوقف عن تنفيذ بيانها حتى إطلاق سراح آخر أخت مسلمة أسيرة، وتوقف كل المتابعات والمطاردات والانتهاكات، ولا تغريها الإجراءات المهدئة المقتصرة على جزء قليل من أخواتنا. وتحدد الجماعة مدة ثلاثة أسابيع ابتداء من تاريخ صدور هذا البيان لتنفيذ ما جاء فيه».

ولقد فند صاحب كتاب حكم قتل المدنيين بعض ما جاء في هذه البيانات قائلاً: «فيا عجبًا»..أي فقه هذا.. الذي يجهل أصحابه بدهيات في الدين تقول: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...»، و«لا ضرر ولا ضرار»؟ أو ليس اعتقاد المسلم الملتزم بمنهج الله أن من عصى الله فينا أطعنا الله فيه، وأن القصاص لا يسري إلى غير القاتل، لقول الله تعالى: «وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً».

ولك أن تتصور موقف تلك العجوز التي تصلي الفجر حاضرًا، ثم تبتهل لربها أن ينصر الإسلام والمسلمين، وتحذر ولدها من الظلم وتنكر عليه عمله، ولكنها وهي المُقعَدَةُ لا تملك أن تتحول عن بيتها ولا أن تطرد ولدها، فتقتل لأن القوات التي ينتمي إليها ولدها قتلت امرأة في دائرتها!! بل ما ذنب هذه البنت التي ربما لم يتوفر لها من يعلمها أحكام دينها، فضلاً عن أحكام الردة وحرمة نصرة الطواغيت، مما لم يتعلمه بعض الإسلاميين إلى يومنا هذا، فتُقتل لا لشيء إلا لأن أباها جندي مجند قهرًا، أو تطوعًا بجهل أو بتأويل!! ثم ما جريمة تلكم الشقية التي لا ولاية لها على أخيها ولا هي خاضعة له، وإنما تعيش معه في بيت الأسرة ولا تملك من ذلك فكاكًا، وإلا فهو العار الذي ينتظر أي فتاة تدع بيت أهلها وتهرب، كما تقضي بذلك تقاليد بلادنا حتى في أوساط غير الملتزمين؟

لقد اعتمدت الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية في تبرير تبنيها لهذه الأعمال على فتوى «قتل الذرية والنسوان» المنسوبة إلى الناشط الإسلامي أبي قتادة الفلسطيني والمقيم بلندن.

ولقد حاول صاحب الفتوى إثبات جواز ما فعلته الجماعة المسلحة من قتل الذرية والنسوان بالجزائر مستندًا إلى بعض الأدلة نذكرها مجملة، ثم نبين خطأ استدلاله بها:

1- استدل بحديثين شريفين هما:

أ‌) ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن الصعب بن جثامة قال: سئل النبي ( عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ قال: «هم منهم» أ.هـ ب‌) ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قصة الجاسوس الخزاعي الذي أرسله ليكتشف له شأن قريش، وهو قادم للعمرة، وذلك في قصة الحديبية فأخبره الجاسوس أن قريشا جمعت له حلفاءها من المقيمين حول مكة لقتاله هو وصحبه إن أصـر علـى دخـول مكة لزيارة البيت، فاستشار رسول الله ( أصحابه قائلاً: أشيروا علي أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وَإنْ لم يجيئوا تكن عنقًا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه، انتهى، هذا لفظ عبد الرازق في مصنفه، وقد رواه البخاري في صحيحه بألفاظ مقاربة. ففي الحديث جواز اتخاذ الذرية والنساء وسيلة ضغط على المشركين لتوهين أمرهم وتفريق جمعهم، فإن النبي ( أراد الهجوم على النساء والذرية حتى يفرق الحلفاء من حول قريش.

2- القياس على جواز قتل الذرية والنساء للتوصل لقتل الرجال المقاتلة إذا ما تترسوا بهن فمن باب أولى جواز قتل النساء والأطفال توصلاً لمنع قتل المسلمين المجاهدين وهتك أعراض المسلمات.

3- جواز قتل نساء العاملين بالجيش والدرك لمنع قتل وهتك عرض نساء المجاهدين وهو من باب درء المفاسد، كما أن الحفاظ على أعراض المسلمات من المقاصد الشرعية الواجب الحفاظ عليها، وهو ما جوزه الفقهاء من جواز قتل النساء والذرية لمقاصد شرعية.

4- إن زوجات هؤلاء العاملين بالجيش والدرك يجب عليهن مفارقة أزواجهن؛ لأنهم ارتدوا بقتالهم للمجاهدين وإذا لم يفعلن ذلك وبقين مع أزواجهن صار حكمهن كحكم أزواجهن في الردة سواء بسواء.

وقالت الجماعة الإسلامية المصرية في تفنيدها لهذه الفتوى «بالتمعن في نص فتوى جواز قتل الذرية والنساء والاستدلالات الواردة فيها نجد أنها اعتمدت على مقدمات خاطئة ووظفت الأحاديث النبوية في غير موضعها؛ ومن ثم جاءت الفتوى مخالفة لإجماع علماء المسلمين الذين منعوا من قصد النساء والأطفال بالقتل، وبيان ذلك كالآتي:

أولاً: اعتمدت هذه الفتوى على مقدمة خاطئة؛ مفادها أن كل العاملين بالجيش الجزائري والدرك قد ارتدوا، لأنهم أنصار الطواغيت الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وهذا الحكم غير مسلم به لأن هؤلاء الأفراد لا يصح إطلاق الكفر عليهم بالتعيين لمجرد انتسابهم لهذه الطوائف، وإن القول الصحيح فيهم عدم الحكم بردتهم لذلك إلا إذا قام بأحدهم سبب يوجب تكفيره بعد إقامة الحجة عليه واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع.

ثانيًا: أنه لو فرض صحة ردة أحد هؤلاء العاملين بالجيش والدرك فهذا لا يوجب الحكم على الزوجة والأم والأخت والبنت بالردة، والقول بردتهم لمجرد تلك القرابة أو قتلهم لمجرد هذه الصلة قول مبتدع في دين الله لا يصح أن يصدر ممن له أدنى إلمام بالشريعة وأحكامها وعدلها.

فكفر الزوج أو الأب أو الأم لا يرتب بحال تلك النتيجة حتى لو بقـيت الأم أو الأب أو البـنت مـع هـذا المرتـد في منزل واحد، فنوح ( مات ابنه كافرًا وكان يعيش معه.

وإذا قيل إن بقاء الزوجة مع زوجها المرتد يجعلها تأخذ حكمه نقول: وهل علمت هذه الزوجة بردة زوجها وهل حكم قاض بذلك؟ ولا يصح مطالبتها بفعل ذلك لمجرد تحذير صدر ببيان من بيانات الجماعة المسلحة والتي لا تحظى بمنزلة الحجة لديها أو لدى أكثر الناس.

وإذا كان هذا حكم الزوجة، فما حكم الأخوات والأمهات والبنات هل يكفرن لمجرد قرابتهن بهؤلاء رغم أنهن مسلمات بالغات راشدات، وهل يقتلن لمجرد تلك الصلة؟ فإن قال لا يكفرن بذلك فنقول فبأي حجة في دين الله استبيحت دماؤهم في تلك الفتوى؟

ثالثًا: إن الأحاديث النبوية التي استدل بها خارج محل النزاع، فالنزاع بيننا والجماعة المسلحة وصاحب الفتوى يدور حول جواز قصد قتل النساء والأطفال بينما يسوق الأحاديث التي تبين جواز الهجوم ليلاً أو على حين غرة على المشركين ـ ما يسمى بالبيات اصطلاحًا ـ دون قدرة على تمييز الرجال من النساء والأطفال حيث يقتلون تبعًا لوجودهم بهذا المكان مع الرجال المقاتلين، بينما ما فعلته الجماعة المسلحة أنها قررت قتل النساء قصدًا حتى لو أمكن التمييز بينهن والرجال المقاتلين بل إنهم توعدوا هؤلاء النساء باستهدافهن في أي مكان بالجزائر ابتداء وفي أي وقت من الأوقات.

ولنذكر الآن ما يؤكد ما قلناه من شرح العلماء لحديث الصعب بن جثامة وحديث المسور بن مخرمة: أ) بيان أن حديث الصعب بن جثامة لا يدل على جواز قصد النساء بالقتل: المتأمل في روايات(1) حديث الصعب بن جثامة ينتهي إلى نتيجة محددة، وهي أن هذا الحديث يخص حكم تبييت المشركين بالقتال ولو أدى ذلك إلى قتل النساء والأطفـال تبـعًا لا قصـدًا، بل إن الرواية التي ذكرها صاحب الفتوى في فتواه تدل على ذلك حيث أورد "سئل النبي ( عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: «هم منهم»، «فسئل عن أهل الدار يبيتون»، فالحديث يتعلق بجواز التبييت للمشركين إن استتبع ذلك قتل النساء والأطفال دون قصدٍ وتعمد.

ومعنى البيات هو: أن يُغارَ على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم وفقًا لما ذكره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.

ولذلك جاءت أقوال العلماء متفقة على شرح هذا الحديث ونثبت هنا طرفًا من أقوالهم:

قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شارحًا الحديث: «قوله «هم منهم»، أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم». أ.هـ وقال الإمام النووي: «والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة».

وقال أيضًا: «وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بياتهم وقتل النساء والصبيان في البيات، هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومعنى البيات ويبيتون: أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي». أ.هـ قال بن قدامة المقدسي الحنبلي: «فإن قيل: قد نهى النبي ( عن قتل النساء والذرية؛ قلنا: هذا محمول على التعمد لقتلهم، قال أحمد: أما أن يتعمد إلى قتلهم.. فلا، قال: وحديث الصعب بعد نهيه ( عن قتل النساء، لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق، وعلى أن الجمع بينهما ممكن بحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه» أ.هـ فالحديث يدور حول حالة اختلاط الرجال بالنساء والأطفال دون قدرة على التمييز بينهم فكيف يسوقه صاحب الفتوى لإباحة قصد قتل النساء في حالة القدرة على تمييز الرجال من النساء وعدم اختلاطهم بهن.

ب) أما استدلاله بحديث المسور بن مخرمة على جواز قتل النساء والأطفال قصدًا فإننا نثبت هنا مناقشة صاحب كتاب حكم قتل المدنيين له حيث أجاد وأفاد جزاه الله خيرًا:

قال الشيخ محمد مصطفى المقرئ: «وأما استدلاله بحديث إصابة الذراري فقد قال أبو قتادة في فتواه: روى الإمام البخاري في صحيحه في قصة الجاسوس الخزاعي الذي أرسله ليكتشف له شأن قريش، وهو قادم للعمرة، وذلك في قصة الحديبية، فأخبره الجاسوس أن قريشًا جمعت له حلفاءها من المقيمين حول مكة لقتاله هو وصحبه إن أصر على دخول مكة لزيارة البيت. فاستشار رسول الله ( أصحابه قائلاً: أشيروا عليَّ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن لم يجيئوا تكن عنقًا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ انتهى. هذا لفظ عبد الرزاق في مصنفه، وقد رواه البخاري في صحيحه بألفاظ مقاربة، ففي الحديث جواز اتخاذ الذرية والنساء وسيلة ضغط على المشركين لتوهين أمرهم وتفريق جمعهم، فإن النبي ( أراد الهجوم على النساء والذرية حتى يفرق الحلفاء من حول قريش». أ.هـ ولفظ البخاري: عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ـ يزيد أحدهما على صاحبه ـ قالا: خرج النبي ( عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدى وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة. وسار النبي ( حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس عليَّ أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله ( قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين. قال أبوبكر: يا رسول الله خرجت عامرًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا باسم الله. (فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني: 7/518).

وقالت الجماعة الإسلامية المصرية «أورد صاحب الفتوى رواية عبد الرزاق في مصنفه، على ما عليها من اختلاف حديثي، مع وجود ما هو صحيح أو على الأقل ما هو أصح منها، مثل ما عند البخاري مما أوردناه وغيره، ولعله تعمد هذا لما في لفظ عبد الرزاق من قوله (: «فنصيبهم»، ظنًا منه أنها تفيد مسلكه في فهم الحديث. واشارت إلى أن الحديث ورد في البخاري وعند الإمام أحمد وفي مصنف عبد الرزاق وغيرهم، ولم يستدل به واحد من الشراح على ما ذهب إليه صاحب «الفتوى» ونتحداه أن يأتينا بقول لفقيه أو محدث من الأولين أو الآخرين يؤيد ما استنبطه من الحديث معرضًا عن أقوالهم فيه.

ومضت الجماعة الاسلامية المصرية قائلة:

1- لو كان في الحديث دلالة أو شيه دلالة على ما زعمه؛ لتعرض الأئمة لها، لما يكون فيها عندئذ من تعارض مع الأحاديث المصرحة بالمنع من قتل الذراري، أو لبينوا وجه الجمع بين هذه وتلك.

2- قوله (: «فنصيبهم» لا يقتضي بالضرورة أن يكون المراد منه القتل، ولو فرض أن المراد به القتل؛ فليس فيه ما يفيد القصد إليه، ولكن بمعنى إصابتهم بما يقع عادة في التبييت أو الإغارة، وعمومًا: ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

3- قوله (: «فنصيبهم» بفرض عدم وضوحه، فهو من قبيل المجمل الذي تفسره الأحاديث الصريحة في حرمة قتل الذراري وجواز استرقاقهم، فيكون معنى (نصيبهم) أي: نسترقهم، وبهذا يتم الجمع وهو واضح لا إشكال فيه.

4- تفسير العلماء لقوله (: «فنصيبهم» هو نفس ما بيناه، فقد جاء في «فتح الباري» من كلام ابن حجر في شرحه للحديث قوله: والمراد أنه ( استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشًا إلى مواضعهم فيسبى أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم وانفرد هو وأصحابه بقريش، وذلك المراد بقوله: «تكن عنقًا قطعها الله» فأشار عليه أبو بكر الصديق ( بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأيه» (الفتح: 5/393، 394).

5- ويؤيده أن مقصوده ( من سبى ذراريهم هو إشغالهم بهم كي ينفرد هو وأصحابه بقريش، كما أشار إلى ذلك ابن حجر، وهذا غير متحقق فيما لو قتلوهم.

6- قول صاحب «الفتوى»: ففي الحديث جواز اتخاذ الذرية والنساء وسيلة ضغط على المشركين لتوهين أمرهم وتفريق جمعهم، فإن النبي ( أراد الهجوم على النساء والذرية حتى يفرق الحلفاء من حول قريش. قال مؤلفه: فأين إباحة القتل قصدًا التي أفتى بها صاحب «الفتوى» من جواز الضغط على المشركين باتخاذ ذراريهم أسارى، وهو إن كان يقصد بهذا الوجه الاستدلال على استباحة قتل الذراري تعمدًا فقد تعمد التدليس والإيهام، وإن لم يقصد هذا فما بقي من أدلة «فتواه» شيء، وقد تقدم إبطال الاستدلال بها على مراده واحدة واحدة..

7- هذا الأمر وقع بمحضر من الصحابة ( فلو كان فيه دلالة على مراد صاحب «الفتوى» لا ستوضح الصحابة عنه عندما كان يوصيهم عند كل خروج ألا يقتلوا وليدًا ولا امرأة.

8- هذا الحديث متقدم، وآخر أمره ( النهي عن قتل الذراري، وهو عمل الخلفاء الراشدين من بعده، بل وإجماع الأمة قاطبة. أ.هـ رابعًا: إن هذه الفتوى تخالف إجماع العلماء حيث منعوا من قصد قتل النساء والأطفال بينما صاحب الفتوى يجيز قصدهم بالقتل رغم أنهن غير مقاتلات حقيقة أو معنى ومتميزات عن أقاربهن من رجال الجيش والدرك.

قال الإمام النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النسـاء والصبيان إذا لم يقاتلوا، ويقصد بالحديث ما رواه مسلم عن نهي النبي ( عن قتل النساء والصبيان.

وقال ابن حجر العسقلاني: واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن وأما الولدان فلقصرهن عن فعل الكفر. أ.هـ