رميش: قرية مسيحية في جنوب لبنان اختبرت بنجاح تجربة التعايش بين الطوائف وسط الحرب الإسرائيلية

TT

تجربة بلدة رميش في عمق الجنوب اللبناني تستوجب قراءة خاصة بعد صمت المدافع. فالبلدة المسيحية التي يبلغ عدد سكانها 5 آلاف نسمة استقبلت حوالي 20 ألف نازح من القرى المجاورة ذات الاكثرية الشيعية، ودبرت أمورهم رغم الحصار القاسي الذي فرض عليها. فهي ساقطة عسكريا، كما قال لنا رئيس بلديتها المحامي يوسف طانيوس الذي استقبلنا في إطار جولة جنوبية قامت بها «الشرق الاوسط» مع صندوق الامم المتحدة للسكان، حيث تولى المسؤولون فيه متابعة أحوال البلدة ابان الحرب وبعدها لمساعدة الجمعيات الاهلية المحلية والدولية الموجودة في البلدة وتأمين ما تحتاج من مواد صحية وطبية، كما أشارت المستشارة الاقليمية للاعلام والاتصال الدكتورة هنرييت اسود، موضحة «ان الصندوق يعمل بشكل مكثف مع الجمعيات الاهلية المختصة بهذا الامر لمعالجة الآثار النفسية التي نتجت عن هذه الحرب». البلدة الهادئة التي نجت من التدمير خلال العدوان الاسرائيلي على الجنوب عرفت مرحلة مأسوية جدا. والسبب كما يقول رئيس بلديتها انها «كانت مغلقة تماما ما أدى الى وضع متأزم ليلا نهارا طوال 33 يوما».

النازحون قصدوا البلدة من قرى عيتا الشعب وبنت جبيل وعيترون وعين إبل ودبل. والمواصلات كانت معدومة منذ اليوم الاول للحرب. ايضا غابت الكهرباء. والمياه كانت في الاصل شحيحة، لأن البلدة تعتمد على بئر ارتوازية واحدة. ادمون عون، أحد سكان رميش، يقول: «المدارس والاديرة والبيوت، كلها فتحت ابوابها لإيواء عشرين ألف نسمة. المواد الغذائية في المتاجر والمخازن فقدت مع تعاقب الايام، والمحروقات نفدت، وبئر الماء تعطلت عن العمل بسبب انقطاع الكهرباء، ليكتفي الاهالي بالآبار الصغيرة التي ساعدت قليلا. كذلك ساهمت مغادرة حوالي 400 عائلة البلدة عندما أعلنت هدنة جوية عقب مجزرة قانا وبقي حوالي 15 ألف نسمة يعانون أزمات معيشية حادة، إضافة الى وطأة القصف الكثيف الذي طاول مباشرة بعض المنازل». ويضيف: «أصبحت البلدة غابة بشر. كل بيت استقبل عددا من النازحين راوح بين 20 و50 شخصا حسب مساحته. عائلات كثيرة تخلت عن غرفها وأقام أفرادها عند أهلهم ليشعر النازحون ببعض الخصوصية. أحد الشبان نصب خيمة صغيرة على سطح بيته وأقام فيها ليتجنب ازعاج النازحات المحجبات. حرصت الصبايا على ارتداء ثياب محتشمة رغم ارتفاع درجة الحرارة مراعاة للنازحين الملتزمين. تركنا لجيراننا مهمة ذبح الدواجن لأنهم لا يحللون ذبحنا. ونحن لا نحرم ذبحهم». في ظل هذه المعطيات كيف نظمت فعاليات البلدة أمورها؟ يوضح احد اعضاء المجلس البلدي في رميش ميشال شوفاني أن البلدة زراعية «لذا استطاع أهلها الصمود وتدبير أمورهم وأمور النازحين. فكل المنازل تحضر مؤونتها بكميات وفيرة. وثقة الجيران (أي أهالي القرى المجاورة) بنا ليست جديدة وانما متوارثة أبا عن جد، نحن قرية مسالمة. لا أسلحة لدينا». لكن سكان بقية القرى الجنوبية ليسوا مقاتلين كلهم، فلماذا تم تحييد رميش؟

يجيب شوفاني: «لأننا اجتمعنا بالمسؤولين في بلديات القرى المجاورة، وطلبنا اليهم عدم دخول أي مسلحين الى البلدة حتى نتجنب المشاكل. ذات مرة دخل مسلحان وحاولا اطلاق صواريخ كاتيوشيا على إسرائيل. لحقت بهم الطائرات واستهدفت أماكن عبورهم بالقصف، فقتل ثلاثة من النازحين وجرح عدد من الاشخاص. نتيجة هذا الحادث قامت البلدة كلها. وقفنا موقفا واحدا وتجاوب الجيران معنا. هم يعرفون أن جغرافيّة رميش لا تسمح لها بأي عملية عسكرية. القوات الاسرائيلية تراقبنا وتعرف كل التحركات. وهكذا صار ممنوعا على المقاتلين دخول البلدة. ومن يريد أن يقاتل كان يغادرها. لكن هذه الاجراءات لم تحل من دون سقوط عدد من القذائف التي لم تنفجر وعدد لا يحصى من القنابل العنقودية التي استقرت في الحقول والبساتين بين اشجار الزيتون. وحاليا لا أحد يجرؤ على الاقتراب من حقله لجني المحصول».

ماذا عن الاوضاع الطبية والصحية للبلدة؟

يجيب الطبيب جورج ماضي من منظمة «كاريتاس» فيقول: «المستوصفات اقفلت بسبب نفاد الادوية. ناشدنا القوات الدولية التوسط لفتح طريق تسمح بإيصال الامدادات الطبية الى البلدة. لكن السلطات الإسرائيلية لم تتجاوب. الهيئة العليا للإغاثة أمنت لنا 14 طنا من الطحين الى مدينة صور، الا أن أحدا لم يستطع إحضارها الى البلدة. حتى عندما سُمح للسفارات الاجنبية بسحب حاملي جنسيتها لم يُسمح للقوات الدولية التي تولت اخراجهم احضار المواد الغذائية في سياراتها. وحتى سيارات الصليب الاحمر منعت من المرور... لذا ارتأينا عندما سنحت الفرصة أن يغادر البلدة مرضى القلب والسكري والكلى وما الى ذلك من أمراض مزمنة، والنساء الحوامل والأطفال. ارتفعت نسبة استهلاك الادوية المهدئة للأعصاب، حتى في صفوف الصبايا والشبان».

ومع ذلك يؤكد أهالي رميش أن أحدا لم يجع بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم يشرب الاهالي والنازحون مياها ملوثة. ويقول شوفاني: «الازمة الوحيدة كانت فقدان الخبز، لانه لا يخزن ويحضر يوميا وفق الاستهلاك المحلي. لذا عمدنا الى طحن الكميات المتوفرة من القمح بماكينات طحن البن وصنعنا خبزا بطريقة بدائية لإطعام الاطفال فقط، وليس الكبار. وإذا توفر الرغيف كنا نقسمه على أكبر عدد ممكن من الاطفال». المجهول شكل مصدر رعب لأهالي رميش. يقول رئيس البلدية يوسف طانيوس: «في ظل ظروفنا وامكاناتنا لم يكن ممكنا أن نصمد سوى أيام قليلة. لو لم تتوقف العمليات الحربية لشهدنا مأساة لا يستهان بها. الوضع النفسي للاهالي ساء كثيرا. فالضغط الذي تعرضوا له كان كبيرا. استوعبوا الامر بأعجوبة».

تعلق سهام علم: «لم يكن لدينا خيار آخر. كنا ننام جالسين. في الايام الاخيرة للحصار بدأنا نضيق ذرعا بوضعنا لأن التموين شح. لكن المصيبة جمعت الناس. راعينا عاداتهم وراعوا عاداتنا. في لحظة توحدت الصلوات. المصحف الشريف كان مفتوحا دائما على الطاولة في صحن الدار.