مليشيا موالية لحكومة الخرطوم «باعت» الصحافي الأميركي بول سالوبك في دارفور لقاء حزمة ملابس عسكرية

كتب عن ظروف اعتقاله في أحد «بيوت الأشباح» وعن مباراة شطرنج مع جلاد السكارى

TT

كشف الصحافي الاميركي بول سالوبك الذي كان معتقلا في اقليم دارفور المضطرب في غرب السودان بتهمة «التجسس ونشر انباء زائفة» النقاب عن ان مسلحين تابعين لمليشيا يقودها مني اركوي مناوي الذي وقع اتفاق سلام مع حكومة الخرطوم في مايو (آيار) الماضي، هم الذين اعتقلوه في دارفور الذي عبر اليه من تشاد، وسلموه بعد ذلك مع اثنين من مرافقيه التشاديين (مترجم وسائق) الى الجيش السوداني حيث وضع في أحد «بيوت الاشباح» في مدينة الفاشر. وتعبير «بيوت الاشباح» يطلقه المعارضون في السودان على معتقلات سرية تشرف عليها أجهزة الأمن حيث يجري استنطاق وتعذيب المعتقلين. وقال سالوبك، الذي افرج عنه في سبتمبر (ايلول) الماضي بعد «عفو» من الرئيس السوداني عمر البشير، إنه تعرض للضرب عند اعتقاله من طرف مليشيا مناوي الذي يشغل حالياً منصب مساعد رئيس الجمهورية.

وروى سالوبك في مقال مطول نشره في صحيفة «شيكاغو تربيون» بعنوان «ايامي في دارفور ..34 يوماً في السجن». ما جرى له وقال في هذا الصدد «في يوم أحد وكانت السماء صافية عندما كنا مسافرين في طريق صحراوي في اقليم دارفور اوقف شاب مسلح، بشعر مسدل على شكل ضفائر يحمل بندقية آلية، السيارة التي كانت تقلنا. قدم المترجم سليمان أبكر موسى الى الشاب المسلح سيجارة وهو التعبير الرائج عن المجاملة في الاقليم، لكن المترجم سرعان ما عاد الى السيارة متجهماً..عندها ادركت بأننا فقدنا حريتنا».

صادرت الدورية التي يقودها الشاب المسلح، سيارة سالوبك وجميع الاغراض الشخصية التي كانت معهم وضربوا الصحافي والمترجم والسائق ادريس عبد الرحمن آنو ضرباً مبرحاً. ثم اقتيد الثلاثة الى حيث سلموا الى وحدة تابعة للجيش السوداني، ووجهت حكومة الخرطوم لهم ثلاث تهم هي «التجسس ونشر أنباء زائفة عن البلاد ودخول السودان بدون تأشيرة».

يقول سالوبك إن التهمة الحقيقية والتي تمثلت في«نشره تقارير عن الكارثة الانسانية التي يجهل عنها العالم الخارجي الكثير» لم تكن بين التهم. وزاد موضحاً «إن القرى التي احرقت تبدو من الجو مثل حروق سجائر في جسد أحد الاشخاص الذين تعرضوا للتعذيب» ويشير الى انه كان عند اعتقاله يعمل في الواقع على انجاز تحقيق عن منطقة الساحل والسافنا في شمال افريقيا وطرق عيش حوالي 90 مليون شخص يكافحون من أجل العيش في المنطقة وذلك لصالح مجلة «ناشونال جيوغرافي».

وأشار سالوبك إلى ان عدداً من المراسلين يدخلون دارفور عبر المناطق التي تسيطر عليها المليشيات في المنطقة الحدودية بين تشاد ودارفور، ذلك ان حكومة الخرطوم «بخيلة جداً» في منح تأشيرات دخول للصحافيين.

وقال إن وقف إطلاق النار الهش الذي نصت عليه «اتفاقية ابوجا» أدى في واقع الامر الى انقسام المليشيات الى عصابات صغيرة تتوزع ولاءاتها في حين اصبح التباس المواقف والغدر والخيانة أمراً عادياً ... اعتقلنا من طرف مليشيا يقودها مني اركو مناوي الذي زار البيت الابيض وصافح الرئيس جورج بوش قبل اسبوعين فقط من اعتقالنا بتهمة التجسس».

ويتحدث سالوبك عن القائد الميداني لفصيل مناوي ورجاله قائلا «كان شخصاً نحيلاً لا يبدو انه يتقيد بأي رسميات يدعى ابراهيم غارزيل هدد أكثر من مرة بقتلنا، ومن حسن الحظ ان رجاله الذين يعانون من انخفاض روحهم المعنوية لم يأبهوا لتلك الاوامر..كانوا في غالب الاحيان يخفون رشاشاتهم قرب اشجار شوكية ويتسللون نحو المدينة، بعضهم كان يحتسي نبيذاً مصنوعاً من التمر في الامسيات (يطلق عليه السودانيون العرقي) في حين كان آخرون يخرجون بالسيارة التي سرقوها منا لاصطياد طائر اللقلق عن طريق طلقات عشوائية من رشاشاتهم». وشرح سالوبك إن غارزيل «باعهم» للجيش السوداني لقاء صندوق كبير من الملابس العسكرية الجديدة لأفراد مليشياته.

بعد ثلاثة ايام في قبضة مليشيات منى مناوي نقل سالوبك ومترجمه، الذي زعمت الخرطوم بأنه ملازم ثان في الجيش التشادي، وسائقهما بطائرة هليكوبتر إلى مدينة الفاشر، مما اتاح له ان يشاهد القرى المحروقة التي قصفها سلاح الطيران الحكومي، لكن كانت هناك مفاجأة ليست في الحسبان حيث تعرضت الطائرة الى إطلاق نار فوق مدينة «كتم» واخترق الرصاص المكان المخصص للركاب، هنا يقول سالوبك «كانت يداي مقيدتان الى ظهري وعندما اطلق الرصاص شعرت بأنني لا استطيع تلقي اية مساعدة ... وظن الضابط السوداني الذي كان في مواجهتي انه اصيب لكنه راح يقهقه عندما اكتشف انه اصيب فقط بكدمات».

نقل سالوبك مع مرافقيه التشاديين الى «منزل أشباح» في الفاشر (اكبر مدن دارفور) وظلوا لمدة عشرة ايام يعيشون في عزلة عن العالم الخارجي.

يقول سالوبك عن تلك الايام «عشت أوقاتي في عزلة تامة داخل غرفة موحشة فوق سرير سفري مع اضاءة نيون تحدث طنينا..خلال فسحة المشي وكانت في حدود خمس دقائق كنت اسجل مناشداتي فوق اعقاب السجائر وارميها خلف الجدار الذي يعزل الساحة المتربة امام الغرفة حيث كنت معتقلا عسى ان يستجيب جنود الحكومة لهذه النداءات حيث ادركت لاحقاً بان معتقلنا يوجد وسط قاعدة عسكرية للجيش، كنا نتبادل احياناً حديثاً هامساً مع حراسنا ابلغونا ان اتفاقية السلام تحولت الى شيء هلامي والحكومة السودانية شرعت في هجوم للقضاء على «فلول المتمردين» لكن القوات الحكومية فقدت عشرات الشاحنات ومئات الجنود لذلك كانت الطائرات العسكرية تزمجر فوق معتقلنا في مدينة الفاشر ويتوقع ان يتسع نطاق الهجوم بعد فصل الخريف». وخلال فترة اعتقاله في احد «بيوت الاشباح» في الفاشر اضرب بول سالوبك عن الأكل لمدة اسبوع احتجاجاً على فصله عن مرافقيه التشاديين، المترجم والسائق. يقول سالوبك عن تلك الواقعة «كان الاضراب عن الأكل هو السلاح الوحيد الذي يمكنني استعماله لكن الضابط المشرف هز كتفيه استهجاناً مشيراً الى معتقل غوانتانامو حيث يعتقل عدد من السودانيين بتهمة الارهاب...في اليوم الثامن توقفت عن الاضراب واستأنفت الأكل، كنت على يقين ان اعتقالنا بمثابة تحذير للصحافيين الاجانب، بعد ان ضاقت الخرطوم ذرعاً بقرع الطبول الذي تثيره تقاريرهم السلبية من دارفور، وأظن ان «المعتدلين» داخل النظام تغلبوا اخيراً بشأن قضيتنا حيث نقلنا في 19 اغسطس (آب) الى سجن مدني على الرغم من اعتبارنا «جواسيس» لذلك فان حكماً بالسجن لمدة 20 سنة كان ما يزال في انتظارنا لكن اصبح بامكاننا الآن الاتصال مع محامين سودانيين للدفاع عنا، كما انني التقيت مجدداً مع موسى وآنو (المترجم والسائق) في عنبر ضيق كان يوجد به ايضاً نشالون ولصوص ومتهمون بالاتجار في السلاح، وفي هذا السجن بعت ساعة يدي لقاء مكالمة هاتفية مع زوجتي من هاتف جوال، كما ان رجال الشرطة الذين كانوا يتولون حراستنا كانوا يتصرفون كبشر».