الشتاء وموسم المدارس يزيدان معاناة متضرري الحرب في لبنان

سكان بعض القرى خارج بيوتهم وينتظرون التعويضات الموعودة

TT

يتعايش الأهالي في المناطق اللبنانية المتضررة من حرب يوليو (تموز) مع القنابل العنقودية والتشنجات السياسية والاضطرابات الأمنية، لكنهم لا يستطيعون تجاوز هاجسين رئيسيين، هما المأوى ومصدر الرزق. ويأتي فصل الشتاء وموسم المدارس ليزيدا من حدة معاناتهم، لاسيما في الجنوب اللبناني، كما تبين الجولة الميدانية التي قامت بها «الشرق الاوسط» في بعض القرى والبلدات الجنوبية. فاطمة سالم من بلدة القليلة في قضاء صور وهي تجفف المياه التي تسربت الى الغرفة التي تقيم فيها مع زوجها واولادها الاربعة بفعل المطر الغزير، تقول: «اجتاحنا الشتاء باكرا. وبقسوة زادت من إرباكنا».

فاطمة خسرت منزلها وأثاثه خلال حرب يوليو (تموز)، ولجأت الى الغرفة المتوفرة في منزل شقيق زوجها لتبقى في القرية قرب أهلها. هي لا تريد المغادرة الى مكان آخر وأرحب لأنها ستشعر بالغربة وكذلك أولادها. تفضل أن تقيم في هذا المكان وتتدبر أمورها بالاعتماد على التعويض الذي حصلت عليه العائلة من حزب الله، وقيمته 10 آلاف دولار، بانتظار تحقيق وعود الدولة اللبنانية لإعادة بناء منزلها المهدم.

وحالة فاطمة تنطبق على 500 عائلة في القرية التي نالت حصة كبيرة من الدمار، فهدم 300 منزل واصيب 200 بدمار جزئي. هذا الامر تسبب في أزمة سكن. تقول زينب عيسى: «لا بيوت في القرية تكفي لاستيعاب العائلات التي خسرت المأوى. والمشكلة الاكبر أن معظم الاهالي لا يستطيعون المغادرة لأن أولادهم مسجلون في مدرستها».

وتضيف: «الجميع يحاولون تدبير أمورهم قدر المستطاع. بالطبع الشكوى موجودة، فكل عائلة دفعت الكثير لبناء منزلها وتأسيسه. والمبالغ التي أعطيت لهم لا تكفي للتعويض». والاحوال في القليلة لا تختلف عن غيرها في القرى التي نالت حصة كبيرة من القصف الاسرائيلي وخسر أهلها منازلهم ليواجهوا فصل الشتاء وموسم المدارس وهم يفتقرون الى أدنى المقومات الحياتية وفي ظروف يكتنفها الغموض المسيطر على مستقبلهم.

يقول حسين طنانة من مدينة صور: «لا يتحرك المسؤولون بطريقة واضحة ليفهم الناس متى ستبدأ إعادة البناء». ويشير بيده الى ارض منبسطة قائلا: «المبنى الذي كان في هذا المكان دمر بالكامل وتم جرف ركامه ولم يقبض اصحابه شيئا. مؤسسة جهاد البناء في حزب الله دفعت بدل الترميم للمنازل المتضررة. ومن لم يعجبه المبلغ قدم اعتراضا لاعادة النظر في المبلغ المخصص له». ونفى أن يكون الحزب قد ميز بين المتضررين. وقال: «ربما ظلم شباب الحزب على حساب الآخرين».

لكن البعض لم يلمس الحياد في دفع التعويضات. ويقول أحمد: «ناس بسمنة وناس بزيت. نسمع عن التعويضات ولا نحصل إلا على الوعود. خسرت بيتي وسيارة الشحن التي ارتزق بواسطتها ولم أحصل على أي تعويض. وأنا الآن عاطل عن العمل لا أعرف كيف أدبر أمور عائلتي. لدي ابنة مشلولة وتحتاج الى فراش وأدوية لا تتوفر في المستوصفات. كما تحتاج الى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة. وعندما أراجع الجهات المسؤولة والاحزاب يكون الجواب دائما ان لديهم اولويات أهم من الاوضاع الخاصة».

أحمد تحفظ عن ذكر كنيته. قال: «لا اريد أن أحقد على أي طرف أو حزب فيعاقبني ويستثنيني من مساعدة قد تفيد أولادي. لكني لا أنتظر أي خير. فالحرب التي يربحها الكبار يدفع ثمنها الصغار».

واذا كان المأوى هو الهاجس الأول على اجندة أهالي الجنوب اللبناني، فمصدر الرزق هو الهاجس الذاتي. العمال المياومون واصحاب المتاجر والمعامل الصغيرة التي تهدمت ينتظرون الفرج ويتحايلون على التعويضات والمساعدات الغذائية. معاناة الناس كبيرة. معظمهم خارج بيوتهم وهم صابرون على أمل أن يقبضوا ما وعدهم به المسؤولون. والمساعدات لا تلبي متطلباتهم بحدها الادنى.

يقول علي بلحص من قرية صديقين: «نحن نأكل بثمن اثاث منزلنا ونعيش عند أقاربنا. الدولة تقول انها ستدفع وكذلك شباب الحزب. لا يسعنا الا الانتظار والاتكال على الله». علي كان يملك دكانا صغيرا للسمانة، دمره القصف واحترقت محتوياته. يقول: «خسارتي تتجاوز العشرين ألف دولار. لكن أكثر ما يحز في نفسي اني كنت ابيع السلع الغذائية التي تقدمها لنا حاليا الجمعيات الخيرية». مزين رمضان من القليلة حلت مشكلتها فأقامت في منزل ابنها الذي يعمل ويسكن في بيروت، لكنها لا تستطيع منع نفسها من البكاء، وهي تقول: «كانت مساحة بيتي 200 متر. أصيب مرتين خلال الاعتداءات الاسرائيلية السابقة على الجنوب. لكنه دمر كليا في المرة الثالثة. كنت قد جددته واضفت اليه غرفة نوم وصالة كبيرة وجددت الاثاث. نمت فيه ليلة واحدة قبل أن يتحول الى كومة من الاحجار. عدنا إلى الصفر. ماذا ينتظرون ليباشروا لتعويض الناس؟».

ماجدة أبو خليل تسأل بدورها: «لماذا لا يقدمون لنا مالا بدل المعلبات التي تكاد تنتهي صلاحيتها؟ نحن نصرف من المبالغ القليلة التي وفرناها للايام الصعبة. ولا نعرف كيف سنتدبر أمورنا بعد حين».

ماجدة رفضت نقل اولادها الى مدرسة رسمية. قالت: «ألا يكفي اننا هجرنا وعانى اولادي الخوف وعدم الاستقرار؟ لم استطع حرمانهم من مدرستهم الخاصة على رغم التكاليف المرتفعة. استدنت وسددت الاقساط لأخفف معاناتهم وامنحهم الاحساس بالامان».

قرية حداثا التي تغيرت معالمها بفعل القصف لم تستعد نسبة كبيرة من أهاليها. أما الذين أصروا على العودة فواجهوا تحديات كبيرة، أهمها الألغام والقنابل العنقودية. وقد تولت مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين مساعدتهم. كما هي حال مصطفى ناصر الذي يقيم في ما تبقى من منزله. ومصطفى متزوج وأب لعشرة أولاد. خرج من القرية بعد 23 يوما من القصف المجنون، في حين رفض والده المسن المغادرة. يقول: «كان والدي شديد التعلق بمنزله وأرضه. أردت حمله ونقله. لكنه قال لي انه يفضل الموت هنا». عندما عادت عائلة ناصر الى القرية بعد وقف العمليات الحربية في 12 اوغسطس (آب) الماضي، وجدت الوالد جثة هامدة تحت ركام من منزله.

بدأ مصطفى مع اولاده بإعادة بناء منزلهم. يحاول أن يجهز غرفتين على الاقل. وهو لا يخفي قلقه وتذمره إزاء الوضع. قال لمسؤولي المفوضية: «لم يبق في القرية التي تضم 900 شخص عادة سوى 170 شخصا. ذهب السكان جميعهم الى بيروت. ماذا سيفعلون هناك؟ هل تستطيع بيروت استيعاب جميع النازحين؟ لا شك انهم سيواجهون مشاكل جمة». وأضاف: «خلال الحرب، فقدت حصاني وسيارتي ومحاصيلي الزراعية ومصدر دخلي ومنزلي. لكن كل ذلك يمكن تعويضه».

لكن الجنوبيين الذين فقدوا منازلهم ومصادر دخلهم لا يملكون القدرة على التفاؤل مثل ناصر، لاسيما في القرى والبلدات التي تشهد تجاذبا بين القوى السياسية. يقول علي سعد من قرية في قضاء النبطية: «مشكلتنا أن المحسوبين على فريق معين محرومون من المساعدات التي يقدمها الفريق الآخر. نحن ندفع ثمن التجاذب السياسي غير المعلن والطاغي على القرى. والسبب ان الاعتبارات العائلية والمحسوبيات تتحكم في العلاقات. فرئيس البلدية يحرص على ارضاء ناخبيه على حساب من لا يؤيده. وما نسمعه ونراه في وسائل الاعلام عن الجهود المبذولة لمساعدتنا لم يصل الينا. يبدو ان الاهتمام انصبّ بنسبة كبيرة على الضاحية الجنوبية لبيروت. فهي مركز الثقل. أما نحن فكبش الفداء».

لكن أهالي الضاحية الذين تضرروا خلال حرب يوليو (تموز) لا يشعرون بهذا الامتياز. غموض مستقبلهم يقلقهم. غسان حمادة الذي يعمل موظفا في شركة محاسبة يقول: «خسرت الشقة التي لم أسدد الا جزءا قليلا من اقساطها. صحيح اني قبضت مبلغ 12 الف دولار لكن دفعت أكثر منه لأتمكن من استئجار منزل بعيد عن الضاحية وأؤثثه بالحد الادنى. ولا أعرف كيف ستتم اعادة اعمار المبنى حيث كنت اقيم. ففي البداية قيل لنا ان الحزب سيعيد بناء ما تهدم بعد سنة. واليوم غيروا اقوالهم ورموا الحمل على الدولة. وجميعنا نعرف اداء الادارات الرسمية. لم نعد نفهم شيئا وأكاد افقد الامل بأي تعويض فعلي. ناهيك من مصير الاقساط لتسديد ثمن الشقة التي غابت عن الوجود». حمادة بدأ يبحث عن عمل في دول الخليج. يقول إنه يائس من البقاء في لبنان بصرف النظر عن التفاصيل. ويضيف: «الخسارة الاكبر التي أصابتنا بعد هذه الحرب هي الشرخ الذي يجعل جيران المبنى الواحد غرباء عن بعضهم بعضا، كأن كل منهم جاء من كوكب مختلف». وداد طقش التي كانت تعيش مع عائلتها في شقة في منطقة بئر العبد، لا تجد الوضع مأساويا الى هذه الدرجة. تقول: «ذهب المنزل. وعوضنا الحزب لنستطيع تأمين المأوى. تصرفنا بالمبلغ لتدبير أمورنا. وعندما ينفد المال سيجد الحزب حلا لنا ولغيرنا. هكذا وعدونا وعليهم أن يفوا بوعودهم. نحن لا ننتظر شيئا من الدولة إلا عن طريق الحزب فهو المسؤول عما أصابنا وهو لا يتخلى عادة عن مسؤولياته، فلماذا أشغل بالي بالتفكير؟».