مجلسا الشيوخ والنواب.. وآلية اتخاذ القرار السياسي

TT

هناك على الدوام سؤال يطرح حول أهمية كل من مجلسي الكونغرس في آلية اتخاذ القرارين التشريعي والرقابي في الولايات المتحدة. والواقع أن هذين المجلسين يكمل أحدهما الآخر ليكفلا معاً توازناً حيوياً مع سلطات الهيئة التنفيذية. وهنا من المفيد القول إن الحكم في الولايات المتحدة يستند إلى ثلاث سلطات هي: السلطة التنفيذية الممثلة بالرئيس وإدارته (الحكومة) ويرمز إليها عموماً بمقرها أي «البيت الأبيض»، والسلطة التشريعية الممثلة بالكونغرس في مجلسي مجلس الشيوخ ومجلس النواب وأيضاً يرمز إليه أحياناً بمقره فيقال «تلة الكابيتول» ـ ذلك ان مبنى الكابيتول هو مقر الكونغرس ـ، وأخيراً السلطة القضائية الممثلة بالمحكمة العليا التي يعين الرئيس والكونغرس قضاتها مدى الحياة.

مجلسا الكونغرس

* بالنظر إلى الطبيعة الاتحادية ـ أي الفيدرالية ـ للولايات المتحدة، كان لا بد لممثلي الشعب أن يعبروا ليس فقط عن التمثيل الشعبي المباشر، بل عن الاستقلالية الداخلية والتفرد السيادي لكل ولاية. فالولايات الأميركية هي عملياً «دول» وهنا المعنى الحرفي الحقيقي لكلمة State، التي تعني «دولة» أو «حالة». وهذه الولايات كانت في البداية «مستعمرات» Colonies طوّرت كل منها مجتمعها وقوانينها وأعرافها الخاصة، ناهيك من بعض التميز مكوناتها العرقية والمذهبية. وبالتالي رسمت هذه الاختلافات ملامح كل ولاية في السنوات الأولى من عمر المستعمرات الأصلية الـ13، وليس أدل على ذلك الحدود التي رسمت بين ولايات متلاصقة يفترض أنها متماثلة كماساتشوستس ورود آيلاند ونيوهامبشير، أو ولايات مثل نيويورك ونيو جيرزي. وانطلاقاً من اعتباري «الديمقراطية» المترجمة باحترام التمثيل العددي، و«الوحدة الوطنية» المنعكسة في احترام التفرد والتميز داخل الأمة الواحدة، قرّر «الآباء المؤسسون»، كما يعرف قادة البلاد الأوائل، أن يضم الكونغرس (الجمعية الوطنية) مجلسين هما: مجلس النواب الذي تتمثل فيه الولايات وفق تعداد سكانها وبذا يؤمّن اعتبار «الديمقراطية» العددية وينتخب كل أعضائه لمدة سنتين. ومجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه كل من الولايات بشيخين (سناتورين) بصرف النظر عن التعداد السكاني، وهكذا تتساوى الولايات في اعتبار «الوحدة الوطنية» القائمة على تفهم التفرد والشخصية المميزة لكل منها، وينتخب كل أعضائه لمدة ست سنوات.

ميزات وخصائص

* وهنا ينبغي الإشارة إلى أن التفاوت الكبير في الحجم السكاني للولايات من ولاية ضخمة مثل كاليفورنيا (35 مليون نسمة) وولاية قليلة السكان مثل وايومينغ (أقل من نصف مليون نسمة) يعني أن النائب في كاليفورنيا ينتخب على مستوى الناحية أو المدينة أو حتى الحي (في مدينة بحجم لوس أنجليس) في حين تنتخب وايومينغ كلها على مستوى الولاية النائب الوحيد الذي خصص لها في مجلس النواب. أما الشيخان في الولايات الخمسين فينتخبان على مستوى الولاية كلها ولا يصار إلى انتخابهما معاً على الإطلاق. ومما يستحق الذكر أنه في الحقبة المبكرة من عمر البلاد كان الشيخ ينتخب من قبل البرلمان المحلي لكل ولاية.

الاختلاف في الفترتين الدستوريتين لشغل مقاعد كل من المجلسين يكمل الدور المنوط بكل منهما المجلسين. ففترة الست سنوات تتيح للشيخ (السناتور) حيزاً زمنياً أطول للتداول والتشاور والتوافق مع زملائه وخصومه من منظور أشمل، مما يكسب قراراته أبعاداً «وطنية» أكثر... وسياسية ـ حزبية أقل. ثم أن مدة الشيخ أطول حتى من الفترة الرئاسية لرئيس الجمهورية، بل ويحق للشيخ الترشح عدة مرات بينما لا يحق للرئيس التجديد إلا مرة واحدة. كذلك ليس لمجلس الشيوخ رئيس حزبي منتخب بل يدير جلساته نائب رئيس الجمهورية الذي يحق له كسر التعادل في التصويت، لكنه من دون التعادل لا يقدم ولا يؤخر. ومن أهم أفضليات مجلس الشيوخ على مجلس النواب من حيث الصلاحيات أنه لا يحق لرئيس الجمهورية إبرام معاهدات أو إقرار تعيينات في المناصب العليا من دون التشاور مع مجلس الشيوخ والحصول على موافقته. في المقابل، ارتأى «الآباء المؤسسون» في سياق مبدأ «الضبط الرقابي والتوازن» أن يكفل مجلس النواب المنتخب مباشرة توازناً ضامناً لصلاحيات مجلس الشيوخ وسلطاته. ولقد جاء تحديد مدة النائب بسنتين فقط ورهنها بحجم معين للكتلة السكانية المقترعة يعكس التواصل المستمر مع القاعدة الشعبية. وبما أن مجلس النواب يضم عدداً من ممثلي الشعب أكبر مما في مجلس الشيوخ (435 نائباً مقابل 100 شيخ)، أكثر عرضة للمساءلة الشعبية، اكتسب هذا المجلس هوية حزبية ومطلبية قوية جداً تعبر باستمرار عن نبض الشارع السياسي. وفي حين اعفي مجلس النواب من صلاحيات الشورى والموافقة على إبرام المعاهدات والتعيينات للمناصب العليا، فقد منح هو الآخر سلطات وصلاحيات ينفرد بها منها طرح مشاريع قوانين المالية (المخصصات والميزانيات) وتوجيه الاتهام لكبار المسؤولين، وانتخاب رئيس الجمهورية في حال التعادل حصول تعادل بين المرشحين للمنصب في المجمع الانتخابي.