رحيل فريدمان صاحب ثورة الخصخصة وتقليص دور الدولة في العالم

ثاتشر وريغان أبرز تلامذته الأوفياء.. واعتبر أن أميركا تحولت اشتراكية بدون أن تدري

TT

كانت البارونة مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة الملقبة بالليدي الحديدية، اول شخصية سياسية عامة هرع الصحافيون اليها فور اعلان نبأ وفاة الاقتصادي ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد مساء الخميس.

وقالت البارونة ثاتشر امس عندما سمعت بخبر وفاته «ان ميلتون فريدمان اعاد إحياء اقتصادات عصور الحرية بعد ان طواها النسيان» ووصفته بانه كان «مثقفا مقاتلا من اجل حرية الفرد»، وانها ستفتقد صديقها الوفيّ القديم، وصاحب الحكمة الصافية وروح الدعابة الحديث. كان فريدمان مصدر إلهام لثورتها الاقتصادية التي ركزت على الخصخصة وتخفيض الضرائب وقطع أغلال البيروقراطية التي كبلت بها الدولة رجال الأعمال والمستثمرين صغارا وكبارا، نتيجة تراكم سنوات من سياسة المدرسة الكينيزية الاقتصادية. لكن جنوح ثاتشر بشكل اعتبره التقليديون متطرفا نحو اقتصادات السوق الحر ـ والتي واكبت ايضا لجوء حليفها السياسي والآيديولوجي الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغان الى الاستراتيجية الاقتصادية نفسها ـ لاتزال تثير الجدل حتى اليوم ـ بعد قرابة عقدين على بلوغ الثورة الاقتصادية الثاتشرية أوْجَهَا. يعتبر الاقتصاديون، ليبراليين او يساريين، وجماعات حقوق الإنسان والمساوة، المدرسة الفريدمانية ، موسعا للفروق الطبقية التي يعاني منها المجتمع. أما المحافظون، فيعتبرون ان مدرسة شيكاغو الاقتصادية ـ الفريدمانية التي اسسها كبروفيسور في جامعة شيكاغو التي حصل منها على الماجستير وبدأ يدرس فيها منذ 1946 لعبت الدور الأساسي في خلق الثروات وتوسيع التجارة التي ادت الى انتصار المعسكر الرأسمالي والعالم الحر على المعسكر الشيوعي. وفريدمان، الذي مات بسكتة قلبية الخميس في مستشفى سان فرانسيسكو عن عمر يناهز الـ94، كان ايضا مستشارا اقتصاديا للرئيس ريغان، الى جانب عمله مستشارا لحكومة ثاتشر في فترة قيادة أقوى زعيمين للتحالف الإنجلو ـ أميركي على جانبي الأطلسي منذ الحرب الثانية أثناء زعامة ونستون تشرشل والرئيس فرانكلين روزفلت لنصرة العالم الحر على النازية. ولذا يعتبر المؤرخون ـ الذين يقيسون حياته وأعماله بمسطرة ايجابية ـ فريدمان بمثابة الروح القيادية ونبراس طريق الاقتصاديين من المدرسة المحافظة حول العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما اسس فريدمان اولى نظرياته عن علاقة التناسب بين دورة المال القابل للإنفاق في السوق، وكمية السلع المتوفرة كسبب لارتفاع معدلات التضخم، التي عانى منها اقتصاد الديمقراطيات الغربية في السبعينات الثمانينات، كان قد عكس النظرية الكينيزية تماما. فبينما دعا جون مينارد كينيز ـ الذي تعتبره اغلبية مؤرخي الاقتصاد، اعظم اقتصادي القرن العشرين ـ على ضرورة تنظيم الحكومة للاقتصاد بموازنة الضرائب بالإنفاق العام على الخدمات والقطاع العام، وهو اساس سياسة الإنفاق العام التي بدأها روزفلت والمعروفة باNew Deal فإن فريدمان رأى ان تدخل الدولة او الحكومة هو معرقل للاقتصاد، وسخر من تهافت مليونيرات الصناعة على الإنفاق على أعمال الخير والخدمات ـ كما يفعل بيل غيتس وتيد تيرنر اليوم ـ، مناديا أن دور قادة الصناعة والمستثمرين هو الاستثمار وتحقيق الارباح والتوسع الصناعي والتجاري والذي يخلق بدوره الوظائف ويدير عجلة الاقتصاد، اما التعليم والصحة والخدمات العامة فهي من شأن الحكومة عن طريق الضرائب التي ستزيد بازدياد ارباح الصناعة. تلخصت نظرية فريدمان في ان ارتفاع ما يعرف بالدخل القابل للإنفاق لدى الأفراد وDisposable Income في المجتمع بشكل لا يتناسب مع كمية البضائع او المقتنيات المتوفرة سيؤدي الى رفع معدلات التضخم. ولم ينتبه اقتصاديو العالم الى التحذيرات التي اطلقها منذ صياغة النظرية في الستينات، حتى تحققت نبوءته في العقد التالي، فبدأت شهرته في الذيوع.. وكان فريدمان قد حذر في الستينات، بأن إسراف الحكومات في الإنفاق على الخدمات والمرافق والقطاع العام (كالإنفاق على الحرب الفيتنامية)، وعدم كبح جماح زعماء النقابات والاتحادات العمالية، وبالتالي ارتفاع الأجور عن الحد المعقول المتناسب مع انتاجية العامل، او تكلفة انتاج السلع نفسها في الاقتصادات المنافسة الأجنبية، سيؤدي يوما الى تسميم جو الاستثمار، وبالتالي يُصاب النمو بالركود ـ مهما ارتفعت معدلاته ـ بسبب ارتفاع معدلات التضخم، وبالتالي ارتفاع نسبة البطالة بشكل مخيف، وهو ما حدث في المجتمعات الصناعية في اوروبا واميركا في نهاية السبعينات والثمانينات. والبطالة في مناطق الصناعات التقليدية القديمة كانت لها آثار تراكمية مخيفة، فإغلاق اكبر مصنع او منجم او ميناء في بلدة صغيرة، سيؤدي الى افلاس الصناعات والتجارة المرتبطة التي توفر قطع الغيار والمواصلات والاستهلاك والخدمات للعاملين. أما اذا قلت كمية المال المتداول مع زيادة كمية البضائع، فيضطر المنتج لخفض السعر. وهي النظرية التي آمن بها واتبعها عدد من مديري البنوك المركزية في الغرب، واصبحت اساسا للسياسة الاقتصادية لريغان وثاتشر. لكن ثاتشر، العصامية التي شبت تساعد أباها في محل البقالة الذي يمتلكه في غرب انجلترا، ونبغت في الدراسة ثم السياسة، اعتمادا على نفسها، استخدمت قبضتها الحديدة في تطبيق النظرية، اذ بادرت بافتعال المواجهات مع اقوى الاتحادات النقابية، اتحاد عمال المناجم، الذي حطمته تماما، لتبدأ سلسلة تحطيم سطوة الاتحادات العمالية، ومنع عجلة الأجور من الدوران بسرعة غير واقعية، اول «فرامل» لكبح اندفاع معدلات التضخم التي وصلت إلى 17% في الثمانينات، وانخفضت الى اقل من 2% في نهاية حكم المحافظين عام 1997.

ولذا يمكن القول ان فريدمان، الذي ناصر حرية السوق، كره دس الحكومات أنفها في شؤون الفرد، سواء كان دافع ضرائب ومستهلكا، او رجل اعمال منتجا يخلق الثروة، كان وزوجته الاقتصادية روز ديركتور ـ روز فريدمان منذ عام 1938 ـ بمثابة محرك التيار الاقتصادي المحافظ الحديث الذي انتهجه ساسة واقتصاديو الغرب خلال العقدين الماضيين. لكنه في الوقت نفسه كان هدف غضب جماعات حقوق الانسان بسبب حياديته التامة التي جعلته لا يفرق أخلاقيا او سياسيا بين المتلقين عند نشره لمبادئه الاقتصادية، خاصة عندما قبل بتقديم النصح والمشورة لديكتاتور تشيلي السابق أوغستو بينوشيه، وايضا تلقى النقد من اليمين المحافظ بعد سلسلة محاضرات ألقاها على تلاميذ الاقتصاد في الاتحاد السوفياتي والصين اثناء الحرب الباردة. آمن فريدمان وشركاؤه في جامعة شيكاغو كزوجته رزو، والاقتصادي فريدريك فون هايك، الذي انتقل من مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية عام 1950 ليلتحق بفريدمان في شيكاغو، بحرية الفرد السياسية والاقتصادية، والتي تطلق ابداعاته الانتاجية والاقتصادية كلما قل تدخل الدولة في شؤونه. ومن اشهر عبارات فريدمان «صيانة حرية الفرد تتطلب تقليص دور الحكومة والتركيز على اهمية الملكية الخاصة وحرية السوق والاتفاقات التطوعية بالتراضي وليس بفرض القوانين». وراى ان الإنفاق الحكومي من المصادر الضريبية يجب ان يقتصر فقط على خدمات تتعلق بالصالح العام كالدفاع القومي عن مصالح الأمة. وذكر كيف انه قبل عام 1914 كانت الدولة تحصل على اقل من ثلاثة في المائة من الدخل القومي الاميركي، بينما بلغت هذه النسبة 44% في عيد ميلاده الثمانين لينتقد اميركا التي اصبحت «نصف اشتراكية» بدون ان تدري. ولد فريدمان في 31 يوليو (تموز) عام 1912 في نيويورك لأبوين هاجرا من النمسا والمجر، ودرس الابتدائية والثانوية في مدرسة راهوي في نيوجرسي، حيث كانت الرياضيات والأرقام غرامه الأول. وحصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة راتجيرس عام 1932، وبرع في الإحصاءات مما ساعده على دراسة الماجستير في جامعة شيكاغو وموضوع الرسالة «العوامل المؤثرة في اسعار اسهم شركات السكة الحديد». وقال فريدمان انه اثناء كساد الثلاثينات، وبالتحديد عام 1932، قرر ان يصبح اقتصاديا ليتعامل مع المشاكل الحالية، بدلا من احصائي في مجال الأرقام والرياضيات. وعمل فريدمان بعد التخرج وأثناء الحرب الثانية في عدد من الوكالات الفيدرالية والحكومية في واشنطن، والتدريس بعض الوقت في جامعة كولومبيا، رغم نظريته بإبعاد الحكومة عن الفرد وانتقاده لوكالاتNew Deal بينما وصف الوظيفة بانها «أنقذت حياته»، وهو التناقض الذي ميز حياته، وحتى نظرياته عند التطبيق. ولا يفوت المؤرخون مثلا ان ريغان وثاتشر، من تلاميذ مدرسته الأوفياء من الساسة، لجآ الى اساليب كينيزية تقليدية بزيادة الإنفاق الحكومي مع انقاص الضرائب لإنقاذ الاقتصاد من الركود.