خطاب أولمرت «السلامي» في اختبار الواقع والتاريخ الإسرائيلي

TT

لا يزال خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ايهود أولمرت، أمام النصب التذكاري لرئيس الحكومة الأول، ديفيد بن غوريون، أول من أمس، يثير ردود فعل متباينة. فالكثيرون لا يصدقون انه يحتوي على مبادرة سياسية جديدة. ويعتقدون أنها مجرد محاولة لفرض نقاش آخر على المجتمع الإسرائيلي بدلا من النقاش الدائر حول إخفاقات الحرب على لبنان والفشل في وقف إطلاق صواريخ القسام. لكن هناك من يرى انه خطاب جاء ليلائم السياسة الإسرائيلية مع التغيير في السياسة الأميركية بعد هزيمة حزب الرئيس جورج بوش في الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشيوخ والنواب. غير ان مساعدي أولمرت يصرون على اعتباره خطابا تاريخيا يحتوي على مبادرة سلام حقيقية، مثل مبادرات سابقة لأسلافه رؤساء حكومات إسرائيل الآخرين، إذا ما تجاوب معها الفلسطينيون فإنها ستنتهي إلى اتفاق سلام دائم. وبين هؤلاء وهؤلاء، لا بأس من العودة في التاريخ إلى الوراء لقراءة المشاريع الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين.

من التجاهل التام إلى الاعتراف اتسم تاريخ السياسة الإسرائيلية، منذ اقامة الحركة الصهيونية وحتى سنة 1978، بالتجاهل التام للعنصر الفلسطيني في المعادلة. فقد بدأ ذلك بفكرة «اقامة وطن قومي لشعب بلا أرض (يقصدون اليهود) على أرض بلا شعب» (يقصدون فلسطين). واستمر في المساهمة الكبرى في إجهاض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين لعام 1947 وإقامة دولتين؛ واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين (الذي رفضه العرب بشكل قاطع فاستثمرته الصهيونية واحتلت مساحات شاسعة من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية)، وتواصل بشكل حثيث في زمن حكومات إسرائيل المتعاقبة، التي رفضت الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي ثبتها قرار التقسيم. وراحوا يقترحون أن تحل القضية الفلسطينية في اطار الدول العربية. وعندما سئلت رئيسة الحكومة الإسرائيلية، غولدا مئير (1969 ـ 1973) عن الشعب الفلسطيني تساءلت: «وأين هو هذا الشعب الفلسطيني؟».

وكانت مئير، مثل سابقيها قد رفضت العديد من المبادرات السلمية التي طرحت عليها من أطراف خارجية أو حتى من مؤسسات وأحزاب إسرائيلية. وأول مرة تعترف فيها إسرائيل رسميا بوجود شعب فلسطيني كانت عام 1978، وفعل ذلك زعيم اليمين (الليكود)، مناحم بيغن. وجاء الاعتراف شبه قسري، حيث أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، اشترط هذا الاعتراف للتوقيع على اتفاقات كامب ديفيد. وحظي بدعم الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، في هذا الموقف، فتضمنت الاتفاقات فقرة تتحدث عن الفلسطينيين كشعب له حقوق وطنية تترجم بواسطة «حكم ذاتي كامل». لكن إسحق شامير الذي خلف بيغن عام 1983، عمل كل ما في وسعه لمنع تطبيق هذا الحق. وبالمقابل فإن الفلسطينيين، ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية، والعرب عموما، باستثناء مصر، اتخذوا موقفا سلبيا من الفكرة. واستغل شامير ومن أعقبه هذا الرفض لملء المناطق الفلسطينية بالمستوطنات بهدف خلق أمر واقع يمنع ممارسة الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير في المستقبل. وظل الخطاب الإسرائيلي يتجاهل الفلسطينيين كشعب له قضية ويرفض العديد من المبادرات الدولية لإحقاق هذا الحق.

وجاءت انتفاضة عام 1987 لتدفع دول العالم الى زيادة الضغط من أجل تسوية هذه القضية، خصوصا بعد حرب العراق الأولى. وأثمرت الضغوط، مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، الذي تمثل فيه الفلسطينيون بوفد من منظمة التحرير الفلسطينية ضمن الوفد الأردني. وانبثقت عن مؤتمر مدريد مفاوضات إسرائيلية ـ فلسطينية مباشرة في واشنطن.

في تلك الفترة شكلت في إسرائيل حكومة ائتلافية برئاسة شامير الذي اقترح على الفلسطينيين دولة في إطار الأردن، قائلا إنه «لا مكان لدولة ثالثة ما بين النهر (نهر الأردن) والبحر» (الأبيض المتوسط). ودأب على اجهاض المفاوضات السلمية، ونقل على لسانه في حينه انه وافق على المفاوضات تحت الضغط الدولي وانه يتبع تكتيكا يتيح استمرار هذه المفاوضات مائة سنة.

وفي سنة 1992 فاز حزب العمل بالحكم وشكل اسحق رابين، حكومة أقلية (58 مقعدا من مجموع 120)، مدعومة من حزبين عربيين هما الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة برئاسة الراحل توفيق زياد، والحزب الديمقراطي العربي برئاسة عبد الوهاب دراوشة. وتعهد بالسعي الجدي لإقامة السلام، مشترطا على الفلسطينيين أن يتخلوا عن «الإرهاب» (يقصد الانتفاضة التي بدأت تتخذ طابعا عسكريا وعمليات تفجيرية. ودارت يومها مفاوضات سلام سرية في أوسلو لمدة تزيد عن السنة أسفرت عن اتفاقات أوسلو الشهيرة في عام 1993، ونصت على الاعتراف لأول مرة بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وقيام السلطة الفلسطينية تمهيدا لاقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعد خمس سنوات).

رابين لم يضع أسس السلام فحسب بل وضع أسس المماطلة فيها حين أعلن أن «التواريخ غير مقدسة». وازاء استمرار العمليات التفجيرية تراجع عن الجدول الزمني لتطبيق الاتفاقات. وعندما ألقى رابين خطابه الشهير في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، الذي قال فيه انه سيواصل السلام كما لو انه لا يوجد إرهاب وسيواصل مكافحة الإرهاب كما لو انه لا توجد مفاوضات سلام، قتل برصاص يهودي يميني متطرف. وتولى الحكم من بعده شيمعون بيريس، الذي اشترط التقدم في المفاوضات بوقف العمليات. وهزم بيريس في الانتخابات على يد بنيامين نتنياهو زعيم الليكود، الذي تشدد في خطابه السياسي وسعى للتفاوض مع سورية ليخيف الفلسطينيين. لكن نتنتياهو، تحت ضغط من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وقع مع الفلسطينيين على اتفاقيتين: احدهما تخص مدينة الخليل (1997) والثانية واي ريفر (1998)، وإثر تشدده وإحجامه عن التقدم سقط في الانتخابات لصالح زعيم حزب العمل ايهود باراك (1999).

باراك من جهته راح يعتمد خطاب سلام صريحا مع الفلسطينيين ويدعوهم للتجاوب معه وإحداث انعطاف في العلاقات. وكان أول رئيس حكومة إسرائيلي يقترح على الفلسطينيين اتفاق سلام شامل يعتمد على الانسحاب من غالبية الضفة الغربية والقدس وجميع أنحاء قطاع غزة، مقابل وقف العنف والقبول بحلول وسط في موضوعي القدس واللاجئين. لكن اقتراحاته لم تلق قبولا في إسرائيل وسقطت حكومته قبل أن تتم ترجمة ما اتفق عليه مع الفلسطينيين في كامب ديفيد (2000) وفي طابا (2001). وعرف عن باراك انه كرس مفهوما إسرائيليا جديدا في الصراع هو «لا يوجد في الطرف الفلسطيني شريك لإسرائيل في عملية سلام». وجاء من بعده أرييل شارون، الذي بنى خطابه في بداية حكمه على تهديد الفلسطينيين «فأنا أعرفهم أكثر من غيري وأعرف أنهم لا يفهمون إلا لغة القوة». بيد أن شارون توصل الى قناعات أخرى خلال حكمه بضرورة إحداث انعطاف في الساحة. وعندما طرح الأميركيون «خريطة الطريق» (2003)، أعلن قبولها لكنه أضاف عليها 14 تحفظا تتعلق في المواضيع الأمنية وفي قضيتي القدس واللاجئين.

وبعد إجهاض تطبيق «خريطة الطريق»، أقنع الأميركيين بضرورة التوجه إلى خطة أخرى، هي الانسحاب من قطاع غزة ومن بعض مناطق الضفة الغربية من طرف واحد باعتبار انه لا يوجد شريك، وطرح خطة الفصل. وعاد بذلك إلى مربع الاستخفاف بالفلسطينيين ككيان مستقل. وشاءت الأقدار أن يغيب شارون عن الوعي ويتسلم ايهود أولمرت الحكم من بعده مدعيا انه سيواصل طريق سلفه. لكن أولمرت أثبت في أول امتحان انه لا يتمتع بجزء بسيط من قوة شارون. ولا يناسبه الحديث بكلمات شارون. وعلى اثر خطف ثلاثة جنود بدا عاجزا عن تحريرهم والفشل في الحرب على لبنان، بات همه الأساسي الحفاظ على كرسيه في رئاسة الحكومة. ومع ادراكه اليوم ان المطلوب منه هو إحداث انعطاف جديد في الوضع، خرج بذلك الخطاب ليبرر سبب تنازله عن الشروط في توقيف صفقة تبادل أسرى (حيث انه وافق على إطلاق سراح أسرى فلسطينيين قدامى ممن يسمون في إسرائيل «أيديهم ملطخة بالدماء») وتراجع عن شرطه في أن يبدو إطلاق سراحهم في إطار صفقة.

ولكي لا يبدو أن ما يأتي به هو مجرد صفقة تبادل أسرى، أصر على توسيعها الى اتفاق لوقف النار، مقابل الوعد بالعودة الى المفاوضات وفتح أفق سياسي في المنطقة. ويرى الإسرائيليون أن طرح أولمرت هذا يختلف عن طروحات سابقيه، حيث انه يبحث عن مسيرة بقاء شخصية أكثر بكثير من مسيرة سلام حقيقية. فهو يفرض شروطا يعرف انها لن تكون مقبولة على الفلسطينيين مثل «التنازل الصريح عن قضية اللاجئين».