المجانين يملأون شوارع المغرب.. لكنهم أقل سوءا من «العقلاء»

أزيد من 5 ملايين يعانون الاكتئاب وأضرحة الأولياء تتقاسم العلاج مع الأطباء النفسانيين

TT

نهاية الأسبوع الماضي كان مجنون في مدينة تطوان يمسك بحجر كبير ويرميه على المارة في مكان غير قريب من شارع محمد الخامس في قلب المدينة. المجنون كان يصرخ في هستيريا وهو يعيد رمي الحجر الكبير في كل الاتجاهات مما جعل المارة يسرعون إلى إفراغ الشارع وتركه تحت احتلال المجنون.

وقبل أيام طعن مختل سائحة فرنسية في مدينة فاس، فيما سارع الوكيل العام للملك (المدعي العام) بمحكمة الاستئناف في المدينة إلى الإعلان أن المختل ليست له أية انتماءات سياسية أو آيديولوجية، وهي أول مرة يسمع فيها المغاربة أن المجانين يمكن أن تكون لهم انتماءات سياسية وآيديولوجية.

وتقول مصادر الشرطة في فاس إن المختل يعمل إسكافيا وسبق أن كان نزيلا بمستشفى الأمراض العقلية الذي غادره الشهر الماضي.

وقبل أزيد من عام كانت نفس المدينة قد عرفت قيام مختل آخر بطعن سائح فرنسي واضطرت السلطات إلى الإعلان أيضا أن المختل ليست له انتماءات آيديولوجية وسياسية.

وقبل أيام أعلنت شرطة مراكش أن شابا يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية قتل شخصا وأصاب آخر بجروح خطيرة في حي رياض الزيتون الجديد بالمدينة العتيقة. لكن شرطة مراكش لم تتحدث هذه المرة عن الانتماءات الآيديولوجية والسياسية للمختل، وأن الأمر يتعلق بالحمق الممزوج مع المخدرات.

وتسارع السلطات المغربية إلى نفي وجود انتماءات سياسية وآيديولوجية للحمقى حين يطعنون سياحا أجانب، فيما تسارع إلى الحديث عن المخدرات حين يتعلق الأمر بطعن مواطنين مغاربة.

وقبل حوالي أسبوع قال سكان في مدينة طنجة إن معتوها قام برشق عدد من المقاهي بالحجارة وطرد منها بالقوة عددا من الزبائن.

وأصبحت الشوارع المغربية اليوم مرتعا لعدد كبير من المختلين الذين يفعلون فيها ما لا يستطيعون فعله في مستشفيات الأمراض العقلية التي ضاقت ذرعا بنزلائها فقررت تسريح عدد كبير منهم لكي يختلطوا بالعقلاء وأشباه العقلاء.

ويتحدث الناس عن عشرات الأمثلة لمجانين ومعتوهين يفرضون قوانينهم وعقلانيتهم الخاصة في الشوارع. وتحدثت سيدة كيف أن معتوها تقدم منها بكامل الرصانة ووجه لها صفعة وازنة على خدها الأيمن مما جعلها تفقد توازنها لبعض الوقت قبل أن تنهض من جديد وتتوجه إلى منزلها وهي لا تصدق أن الصفعة الوحيدة التي «أكلتها» في حياتها جاءت من معتوه.

وتحدثت فتاة عن معتوه اقترب منها عندما كانت متوجهة إلى المدرسة وأمسك بها بقوة قبل أن يطبع على خدها قبلة ثم ينصرف وكأن شيئا لم يحدث، غير أنها اعتبرت ذلك أهون من أن يعترض سبيلها قاطع طريق ويسلب منها حقيبتها اليدوية وهاتفها الجوال، وقد يرسم على خدها ندوبا أزلية بشفرة حلاقة.

ويجد معتوهو المغرب الكثير من الحرية في الشوارع، وأيضا بعض التعاطف من الناس الأسوياء، غير أن هذا التعاطف غالبا ما ينقلب إلى سخط عارم حين يخرج هؤلاء المجانين عن تعقلهم ويحولون الشوارع إلى ساحات حرب.

وكما هو الشأن بالنسبة لعالم العقلاء الذي يتميز بتباين كبير في المستوى بين عاقل وآخر، فإن لعالم المجانين مستويات متباينة أيضا. وكان مجنون مغربي قد اكتسب شهرة كبيرة وهو يطوف البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ويجلس في أماكن عامة حيث يتلو نشرات أخبار غاية في الجدية بطريقة لا تختلف عن طريقة مذيعي الـ«بي بي سي» بأصواتهم الفخيمة، قبل أن يتحول إلى قراءة الأخبار بالفرنسية والإنجليزية بكل الرصانة اللازمة، وكأنه فضائية عالمية متجولة تعمل من دون صحن التقاط أو أقمار صناعية أو مكاتب إقليمية.

وهناك مجانين كثيرون اختلت شعرتهم الفاصلة بين الجنون والعبقرية، مع أن مواهبهم تفوق مواهب بعض العقلاء بسنوات ضوئية.

وأدى ازدحام مستشفيات الأمراض العقلية القليلة في البلاد إلى ارتفاع عدد المختلين عقليا في الشوارع، وانضموا إلى قافلة عشرات الآلاف من المتسولين، لكي يشكلوا جميعهم جيشا عرمرما يؤثث ديكور الشوارع المغربية ويعطي الانطباع بأن المجانين والعقلاء عليهم أن يتعايشوا في سلام وطمأنينة ويتبادلوا المصالح والتنازلات.

غير أن ما يقوم به مجانين المغرب من فوضى عارمة بين الفينة والأخرى لا تصل إلى درجة حمق تلك الأفعال التي يقوم بها العقلاء. وإذا كان المجانين يصابون بين الفينة والأخرى بهستيريا تذكرهم بحالهم، إلا أنهم لا يسرقون في الغالب ولا يعترضون المارة عند الزوايا المظلمة في شوارع المدن لكي ينتشلوا منهم هواتفهم الجوالة وحافظات نقودهم كما يفعل اللصوص العقلاء.

والجرائم التي يقترفها «العقلاء» أكثر بكثير من الجرائم التي يقوم بها المجانين، الذين عادة ما يقومون بأفعالهم تلك في حالات جد استثنائية، في الوقت الذي يرتكب العقلاء جرائمهم وهم في كامل قواهم العقلية.

وفي الوقت الذي يستمر التعايش بين المجانين والعقلاء في شوارع المغرب، إلا أن الأرقام تشير إلى أن الجنون والتعقل في البلاد يكاد يتحول إلى مسألة نسبية، حيث تشير الأرقام إلى أن نسبة الناس الذين يعانون الاكتئاب ونوبات الغضب الجنوني ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.

وتشير الأرقام أيضا إلى أن زبائن الصيدليات الذين يشترون المهدئات أصبحوا يتعدون الأرقام السابقة أضعاف المرات، كما أن الأطباء النفسانيين الذين كانوا قبل عقدين من الزمن يجدون صعوبة في العثور على زبائن أصبحوا اليوم يشتغلون صباح مساء.

وتقول إحصائيات شبه رسمية إن عدد المغاربة الذين يعانون الاكتئاب يصل إلى أزيد من 5 ملايين من بين 30 مليون مغربي، وهي نسبة ضخمة، وأن أغلبهم لا يتلقون أي علاج نفسي، في الوقت الذي لا يتعدى عدد الأطباء النفسانيين في البلاد 350 طبيبا، والذين يتقاسمون علاج المرضى مع الأضرحة و«الأولياء الصالحين» الذين يعتبرون أطباء ناجعين في نظر الكثير من المرضى، على الرغم من مغادرتهم للحياة قبل عشرات أو مئات السنين.

وسجلت مبيعات الأدوية المضادة للاكتئاب في المغرب أرقاما قياسية حيث تبلغ مليون وصفة طبية كل عام، وأنها ارتفعت بأزيد من 50 في المائة خلال الست سنوات الأخيرة.