أقلعت بنا صباح السبت 9 ديسمبر (كانون الأول) الجاري من مطار دبي الدولي طائرة عسكرية اميركية من طراز سي-2 ايه قادمة من البحرين. كانت الطائرة بكامل حمولتها من الركاب وعددهم 20 من العسكريين اضافة الى اربع صحافيين دعوا على عجل للالتقاء مع قادة واحدة من أضخم السفن العسكرية في العالم «يو إس إس دوايت آيونهاور». كان الانطباع لدي بأن المهمة الصحافية تتضمن تغطية لمناورات عسكرية روتينية في مياه الخليج العربي، الا انني فشلت قبل التوجه الى المطار من الحصول على أية معلومات عن ماهية هذه المناورات. ضجيج محركات الطائرة العسكرية بدا خافتا جدا حيث ارتدينا خوذة عسكرية استعملت مئات المرات حسب هيئتها عليها واق فعال للاذنين من الضجيج ونظارة كبيرة محكمة الاغلاق للوقاية من الرياح العاتية ودخان عادم الطائرة. كما وضعنا على صدورنا سترة نجاة عسكرية فيها كل ما يخطر على بال من ادوات ومعدات انقاذ فردية. اقلعت الطائرة العسكرية بعد اعطائنا تعليمات السلامة والطوارئ الصارمة الى وجهة غير معلومة في أعالي البحار حيث تتواجد حاملة الطائرات النووية آيزنهاور. المقاعد غير مريحة على الاطلاق (لا توجد درجة لرجال الاعمال على متنها على كل حال!) يجلس عليها الركاب بمواجهة الخلف. الضجيج هائل رغم ارتداء السماعات وبالتالي لا مجال ابدا لتبادل اطراف الحديث مع الرفقة. مقصورة الطائرة مغطاة ولا توجد الا نوافذ قليلة وضيقة ولا توفر اي منظر للخارج.
المطبات الهوائية العاتية تلعب بالطائرة وبأمعاء الركاب بصورة مخيفة. احد العسكريين خلفي يتقيأ بشدة. لا أحد يكترث. وتنار مصابيح حمراء على متن الطائرة إشعارا بالاقتراب من الوجهة. هذه ستكون المرة الاولى التي اهبط بها على متن حاملة طائرات. استكشف المكان من الكوة البعيدة علّي المح السفينة من فوق. بلا جدوى. ويتبادل عنصرا الاشراف في المقعد الامامي الاشارات الخاصة بهما باستخدام اليدين ثم يطلق احدهما صيحة عالية تنم عن الاستعداد للهبوط على ما يبدو. كابتن الطائرة لا يتحدث ابدا الى الركاب كما اعتدنا حين السفر على متن الطائرات التجارية. بعد لحظات نشعر بأن عجلات الطائرة لامست مدرج حاملة الطائرات وهي لا تزال بسرعتها القصوى. سرعة الطائرة ـ كما علمت لاحقا ـ كانت 169 كيلومترا في الساعة واستغرقت عملية هبوطها وتوقفها التام ثانيتين فقط على مسافة 106 امتار بفضل استخدام نظام ميكانيكي معقد يطلق عليه اسلاك القبض التي «تعتقل» الطائرة حال ملامسة عتلتها لهذه الاسلاك. خلال هاتين الثانيتين شعرت بان امعائي قذفت من مكانها قذفا فتمالكت نفسي بشدة حينما شعرت بدوار الاقياء المريع. اهلا بكم على متن آيزنهاور مشهد سطح الحاملة يثير الرهبة. عشرات العناصر من الرجال والنساء يتراكضون هنا وهناك يؤدون مهامهم بانضباطية عالية فيما تصطف على الاطراف عشرات الطائرات المقاتلة والاستطلاعية والحوامة بينما تستعد طائرات للاقلاع. على باب البرج الرئيسي الذي يحمل رقم السفينة 69 بأحرف بيضاء ضخمة يستقبلنا قائد الحاملة الكابتن دان كلويد (اهلا بكم على متن آيزنهاور). نتوجه عبر السلالم الضيقة صاعدين الى صالة الاجتماعات الرئيسية حيث اعدت لنا وجبة خفيفة من الشطائر المكسيكية والمشروبات الغازية ثم يقوم افراد الشؤون العامة برئاسة اللفتنانت كارلا مكارثي بتقديم شرح موجز عن السفينة وقدراتها والاهم من ذلك مهامها الحالية فهذه هي المرة الاولى التي يتم فيها نشر آيزنهاور في مياه المنطقة منذ خمس سنوات بعد خضوعها لعملية تعمير شاملة عام 2000. كارلا تقول بأننا الآن متواجدون في «نقطة ما» من المياه الدولية لبحر العرب حيث يقوم الجناح الجوي منذ السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) بطلعات جوية مكثفة فوق أفغانستان لتقديم «الدعم لقوات التحالف (ايساف) من غارات وعمليات رصد واستطلاع جوي».
وحسب آلان مايرز قائد مجموعة آيزنهاور الضاربة المكونة من حاملة الطائرات والبارجة «أنزيو» المزودة بصواريخ موجهة وغواصة هجومية فقد نفذ الجناح الجوي خلال 33 يوما اكثر من 4000 ساعة طيران و680 طلعة جوية باستخدام طائرات اف 17 هورنيت وسوبرهورنيت وطائرات الانذار المبكر «هوك آي» والحوامات المضادة للغواصات «سي هوك».
الزنزانة الفندقية نصعد الى الغرف المخصصة لنا عن طريق سلالم وممرات تشبه الدهاليز. انزل مع صحافي آخر من مركز الخليج للابحاث في غرفة «يوتاه» ويجاورنا فريق الجزيرة الدولية. الغرفة صغيرة جدا وأثاثها حديدي بسيط، تشبه غرف الزنازين. اختار السرير العسكري السفلي لتجنب عمليات الصعود والهبوط من والى السرير العلوي. هناك مغسلة على الزواية وتلفزيون معلق على حامل. رائحة الغرفة لا تطاق.
قرع عنيف على الباب. انها كارلا ومرافقوها فقد حان وقت الصعود الى سطح الحاملة النووية لمشاهدة عمليات اقلاع سرب جديد من الطائرات في مهمات عسكرية الى افغانستان. نصل الى حجرة صغيرة مجاورة تؤدي الى السطح وتتلى علينا التعليمات الصارمة بكيفية التحرك على السطح وضرورة التقيد التام بأوامر المرافق. نرتدي عدة الأمان من خوذة وسماعات وصدرية انقاذ ونظارات واقية ونتبع المرافق في طابور الى منطقة مجاورة لمدرج الاقلاع. الرياح على السطح عاتية والضجيج هائل وحركة لا تهدأ لعشرات مرشدي حركة الطائرات وعناصر السلامة وتزويد الطائرات بالوقود وسائقي مركبات الدعم والمذخرين وعناصر الاطفاء ومشرفي الطائرات. انه مسرح عمليات حقيقي. على بعد امتار تستعد مقاتلة اف 18 للاقلاع بكامل عتادها وذخائرها من الصواريخ الموجهة بالليزر. يهدر المحرك وتزداد حركة وتعليمات عناصر الدعم. يرتفع الادرينالين في دمي بينما الرياح تكاد تقذفني الى البحر فأتخذ وضعية وقوف اكثر توازنا. يتجه مكوك جهاز القذف عبر مساره مع تصاعد البخار الابيض مع حركته السريعة الى اسفل بدن المقاتلة التي ينزل من بطنها عمود ينشبك بالمكوك. يهدر المحرك النفاث للطائرة بكامل قوته فتنطلق عبر المدرج القصير جدا الى الجو في اقل من ثانيتين بفضل ما يطلق عليه الراجم والذي يشبه في آلية عمله مقلاع الحجارة الشهير. يوجد على متن آيزنهاور اربع راجمات تعمل بقوة البخار المتولد من المفاعلين النوويين اللذين يسيران محركاتها. وبإمكان الراجمة قذف طائرة وزنها 22 طنا من سرعة الصفر الى 265.5 كيلومتر في الساعة خلال ثانيتين عبر مدرج بطول 91.4 متر. وخلال الدقائق الثلاثين التي قضيتها على السطح تم اطلاق خمس مقاتلات وطائرة انذار مبكر كما تم خلالها هبوط ثلاث مقاتلات وحوامة بالطريقة نفسها التي هبطت بها طائرتنا على سطح حاملة الطائرات. 16 ألف وجبة طعام يوميا
* وقت العشاء. في هذه الحاملة يحضر 101 طاه 16 ألف وجبة طعام يوميا ويعاونهم 250 عنصرا على مدار 24 ساعة وسبعة ايام في الاسبوع. هنا لا توجد اوقات محددة للوجبات بسبب طبيعة عمل عناصر السفينة الذين يتناوبون على أداء المهمات على مدار الساعة فتبقى المطاعم مفتوحة طوال الليل والنهار.
نوعية الطعام كانت جيدة ربما لأننا كنا نتاول الطعام في مطعم الضباط. احد الطهاة قال لي إن اصناف الطعام هي واحدة للضباط او للأفراد على حد سواء «الا انني حينما أطهو لـ300 ضابط مثلا فإن النتيجة افضل بالطبع من الطهي لأربعة آلاف شخص». في صباح هذا اليوم ابلغنا بأن الحاملة آيزنهاور عبرت مضيق هرمز الى الخليج العربي لتنفيذ مهام اسناد ودعم جوي لقوات التحالف في العراق وتأمين طرق الملاحة في المنطقة واعتراض أي نشاطات ارهابية. وبعد ساعتين ونصف بدأت مقاتلات السوبر هورنيت والهورنيت اف-18 بالانطلاق بكامل ذخيرتها تساندها طائرة الانذار المبكر.
وكنت طلبت من كارلا ان تجد لي اميركيا مسلما على متن السفينة ونجحت بعد جهد كما قالت في العثور على مسلمة. التقيت بها في عنبر الاسناد اللوجستي وكانت في اوائل العشرينات من عمرها. قالت سناء بيركنز انها في الأصل باكستانية من احدى الطوائف الاسلامية هاجرت مع اهلها الى اميركا وهي في الثانية عشرة من عمرها. وهي تواظب على صوم رمضان والصلاة احيانا خلال وجودها على متن آيزنهاور حيث تشعر بحرية ممارسة شعائرها الدينية كما تقول. وبعد اكثر من 48 ساعة على متن آيزنهاور حان وقت المغادرة على متن الطائرة العسكرية نفسها التي اقلتنا من دبي. بعد ان تم تزويدنا بمعدات السلامة نفسها صعدنا الى متنها لتجربة الاقلاع بالراجمة من السرعة صفر الى حوالي 240 كم في الساعة في غضون ثانيتين. كانت هاتان الثانيتان اطول ثانيتين امر بهما على الاطلاق.