دراسة: 1800 نوع من الميكروبات في الهواء

قرون استشعار استخدِمت في المسح الحيوي للميكروبات الطبيعية لهواء المدن الأميركية

TT

زحمة من حولنا فوق ما كان متصوراً، ولا يحتاج أيُّ منا أن يذهب بعيداً إلى أعماق البحار أو متاهات الأدغال كي يرى تنوع الكائنات الحية، فذلك كله متوفر في الهواء من حولنا. ووفق ما تشير إليه دراسة إحصائية رسمية، هي الأولى في نوعها، للباحثين من مختبرات لاورينس بيركلي القومية التابعة لوزارة الطاقة الأميركية فإن ثمة على أقل تقدير أكثر من 1800 نوع من البكتيريا في الهواء. وأعداد لا تزال مجهولة من الفيروسات والفطريات. لكن غالبها غير ضار، وان ثمة عوامل مناخية تتحكم في نسب تلك البكتيريا في الهواء، مما يُملي إجراء المزيد من البحث لمعرفة تأثيرات القارات على بعضها بعضا. واستخدم الباحثون طريقة مبتكرة تعتمد على اختبارات البصمة الوراثية، (دي إن إيه)، في التعرف على أنواع البكتيريا الموجودة في عينات من هواء مدن سان أنطونيو وإيستن في ولاية تكساس الأميركية. وما أثار الدهشة من النتائج، ولفت الأنظار إلى جوانب علمية وحياتية شتى، هو غزارة التنوع الحيوي لمجتمعات مختلفة من البكتيريا في الهواء، تنافس تلك الموجودة في التربة عادة. بالإضافة إلى أن ثمة وجودا طبيعيا لسلالات من الميكروبات تتشابه في الأصول العرقية، إن صح التعبير، لتلك التي قد تُستخدم في الأسلحة البيولوجية للأضرار بالبشر أو الكائنات الحية الأخرى. لكن غالب الأنواع الطبيعية من تلك الميكروبات غير ضارة بطبعها وخصائصها.

وقال الدكتور غاري أندرسون، الباحث الرئيس في الدراسة من قسم علوم الأرض في مختبرات بيركلي، قبل هذه الدراسة لم يكن أحد يعلم مدى التنوع الحيوي لميكروبات الهواء.والدراسة يتم اليوم نشرها في مجلة الحوادث للمؤسسة القومية للعلوم في الولايات المتحدة، تخدم هدفين، إذ بالإضافة إلي إعطاء فكرة دقيقة عن المسح الحيوي للميكروبات الطبيعية في هواء المدن المختلفة للتفريق بين ما هو طبيعي وبين ما هو مشكوك في مصدره منها، فإنها أيضاً تساعد العلماء على ملاحظة وفهم كيف يُمكن للتغيرات المناخية أن تُؤثر في أنواع مجتمعات البكتيريا في الهواء.

وأضاف الدكتور أندرسون إننا نحتاج لأن نعرف المستويات الطبيعية لميكروبات الهواء، ذلك أن ثمة القليل جداً من الأبحاث العلمية في مضمار معرفتها وتصنيفها. وما توصلنا إليه من نتائج يكشف كم كنا لا نعلم عن مجتمعات الميكروبات الهوائية الضارة، أو نُدرك ما هي مصادر انبعاثها وانتشارها.

أسلوب علمي مبتكر والذي كان يقوم العلماء به في الماضي غير مجد في الحصول على معلومات دقيقة حول معرفة، وتميز أنواع الميكروبات في عينات مختلفة من هواء المناطق أو المدن، سواء منها الميكروبات الضارة أو المسالمة. لأنها كانت تعتمد على مدى ما ينتج على سطح مزارع البكتيريا عند تعريضها لعينة الهواء المراد دراسة ما يحتويه منا. والمعروف أن المختبرات تستخدم أطباقاً توضع فيها طبقة من مادة الآجار، مع عناصر غذائية محفزة لنمو البكتيريا، بغية تسهيل تكاثر أعدادها القليلة حين التصاقها علي سطح المزرعة تلك. ومعلوم أن ثمة عوامل كثيرة تحول دون تمكن جميع البكتيريا الموجودة، في الهواء مثلاً، من النمو عند تعريضها لأسطح المزارع تلك، بل إن باحثي مختبرات بيركلي يقولون إن 99 في المائة، من بكتيريا عينة ما من الهواء قد لا يُمكن معرفتها باستخدام هذه الطريقة العقيمة. لكن في طريقة هذه الدراسة، لجأ أندرسون وزملاؤه إلى طريقة متطورة للغاية ابتكرها أحدهم، هو الدكتور تود دي سانتس. وفيها استخدموا مجموعة من مجسات ميكروسكوبية لـ«دي إن إيه»، أي تحديداً استخدموا جهازاً يشبه في عمله قرون الاستشعار المتخصصة في استكشاف، وتميز أنواع الجين المسؤولة عن صنع البروتينات في البكتيريا. وهذا الجين يُدعى 16 إس لنسخ «آر إن إيه». والمعلوم أن «آر إن إيه» أساس في صنع «دي إن إيه»، وموجود في كل أنواع البكتيريا بل استثناء.ومجسات «دي إن إيه» الدقيقة لها سطح مربع، بمساحة قريبة لمساحة سطح العملة المعدنية لربع الدولار، وتُدعى هذه المجسات فايلوشيب. وبإمكانها التعرف على 9000 نوع من أنواع هذا الجين. وعمل المجسات من الدقة بمكان، في حساسية الرصد والتميز، أن بإمكانه التعرف بدقة على نوع واحد من جينات البكتيريا من بين الآلاف منها. مما يعني أنه قادر بكفاءة على تحليل أنواع البكتيريا في عينة من الهواء، وإعطاء قائمة مفصلة حولها مهما بلغ عددها.

وتناول الباحثون بالتحليل عينات يومية من الهواء أخذت من أجزاء مختلفة لمدينتي سان أنطونيو واستين خلال فترة 17 أسبوعا. وتبين من النتائج أن عينات الهواء تلك تعج بحوالي 1800 نوع من البكتيريا. وهو أمر شبيه بتعقيدات مجتمعات الميكروبات في التربة، التي تعتبر أحد المواطن الغنية لنمو الميكروبات.

فوائد علمية وحياتية وسبب اختيار العلماء هاتين المدينتين هو محاولة معرفة هل يختلف التنوع الحيوي للميكروبات في هواء مدينة ما عن أخرى تقع بقربها. واختاروا سان أنطونيو وإيستن لأنهما تتشابهان في الكثافة السكانية، والارتفاع عن مستوى سطح البحر، والتضاريس الجغرافية، ولا تتجاوز المسافة بينهما 100 كيلومتر. وتبين أنهما متشابهتان في التنوع الحيوي لميكروبات الهواء. كما لاحظ الباحثون أن الاختلاف المكاني داخل كل مدينة لم تكن ذات شأن مهم في اختلاف أنواع ميكروبات الهواء بها، فيما كان التأثير الأقوى للوقت والطقس. فالأيام الأكثر حرارة والأكثر جفافاً أدت إلى ازدحام الهواء بالميكروبات بشكل أعلى مما هو في غيرها من الأيام. الأمر الذي عزاه الباحثون إلى دور تقلبات الطقس في نقل البكتيريا من مكامنها الطبيعية وانتشارها في الهواء، مما يعني أن رصد حالات ارتفاع نسبة وجود بعض أنواع من البكتيريا في الهواء قد لا يكون نتيجة فعل متعمد، بل هي تقلبات المناخ التي أخرجت البكتيريا من مواطنها الطبيعية إلى الهواء.

ويأمل الباحثون أن يتمكنوا من توسيع الدراسة لتشمل جميع مناطق الولايات المتحدة أو كل أرجاء الأرض، لوضع خريطة ميكروبات الهواء العالمية. وإحدى فوائد هذا هو معرفة مصدر انتشار الميكروبات في هواء مناطق الدول المختلفة، أي هل هي المزارع القريبة أو المياه المعالجة أو أن الرياح هي التي جلبتها من مناطق أخرى قريبة أو بعيدة في العالم. وأعطى الباحثون مثالاً ببكتيريا فرانسيسيلا تيولارينسيس، المتسببة في حمى الأرانب، والتي يُمكن أن تُنشر في الهواء كسلاح بيولوجي. وقالوا هي موجودة في هواء جميع الولايات الاميركية، ما عدا هاواي، لكن بمعرفة النسب الطبيعية لها في الهواء، والاختلافات الطبيعية المحتملة أيضاً، يُمكن التنبه لما يعنيه ارتفاعها بدقة وبدون اخطاء في التقدير لخطورة سبب الارتفاع ذلك. وهو ما علق الدكتور أندرسون عليه بالقول، كل أنواع البكتيريا المحتمل استخدامها لأذى الناس، توجد في الواقع بنسب متفاوتة في الهواء.

من جانب آخر، يأمل العلماء أن يُسهم عملهم في التمكن من معرفة كيف تُؤدي تقلبات المناخ في تغير تركيبة مكونات الهواء من الميكروبات، لأن الرياح تعمل بالفعل على جلب الهواء المحمل بالغبار والميكروبات من مناطق جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا إلى سواحل القارة الأميركية.

وهو ما أثبتت الدراسات في الآونة الأخيرة أن ذلك سبب ارتفاع معدل حالات الربو في جزر الكاريبي، مما عبر عنه الدكتور أندرسون بأنه تم التعرف على ميكروبات، بعضها يتسبب في أمراض، لم يكن لدى العلماء علم مطلق بأنها موجودة في هواء منطقة الدراسة.