بوش بدأ 2006 بـ«استراتيجية للنصر» في العراق وأنهاه بالبحث عن أخرى تجنبه الهزيمة

مسؤولون كبار: البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية أخفقت في التعامل بجدية مع التحذيرات

TT

بدأ الرئيس الاميركي جورج بوش عام 2006 بطمأنة البلاد بأن لديه «استراتيجية نصر في العراق». وأنهى العام محاطا بحكومة حربه في مزرعته محاولا ان يعد استراتيجية جديدة لأن الاستراتيجية القائمة انهارت.

وتدعو الخطة الأصلية، التي دافع عنها الجنرال جورج كيسي، القائد العسكري الأعلى في العراق، ودعمها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق، الى نقل المسؤولية عن الأمن الى العراقيين، وتقليص عدد القواعد الأميركية والشروع بانسحاب تدريجي للقوات الأميركية. ولكن الخطة اصطدمت بالتفكك الشديد في العراق الذي فاجأ مجلس حرب بوش.

وفي مقابلات أجريت في واشنطن وبغداد، قال مسؤولون كبار إن البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية أخفقت أيضا في التعامل بجدية مع التحذيرات ـ وبينها بعض من سفيرها في بغداد ـ من أن العنف الطائفي يمكن أن يمزق البلاد ويحيل وعد بوش بـ«تطهير وبناء» الأحياء والمدن العراقية الى مجرد شعار فارغ. وقد ترك هذا الأمر الرئيس ومستشاريه يتخلفون، على الدوام، خطوة أو اثنتين، خلف الأحداث على الأرض. وخلال الأشهر الـ 12 الماضية، حيث اصطدم التفاؤل مع الواقع، وجد بوش نفسه على نحو متزايد غير مرتاح من استراتيجية الجنرال كيسي. والآن، وبينما تختفي صورة صدام المشنوق تدريجيا، يبدو الرئيس بوش واثقا ليس فقط من تغيير اتجاه الاستراتيجية التي دافع عنها الجنرال كيسي، وانما أيضا التعجيل بمغادرة الجنرال العراق وفقا لمسؤولين عسكريين كبار.

وجادل الجنرال كيسي مرارا وتكرارا بأن خطته وفرت أفضل الآفاق لتقليص فكرة أن الولايات المتحدة تبقى قوة محتلة، وانها كانت طريقا توافق في اعتقاده مع رغبات بوش. وكان ذلك صحيحا في وقت مبكر من العام. ولكن بينما ابتعدت بغداد بصورة اكبر عن السيطرة عليها، فان بعضا من مستشاري الرئيس يقولون الآن ان الرئيس بوش بات أكثر قلقا من أن الجنرال كيسين من بين آخرين، قد اصبح أكثر توجها نحو الانسحاب بدلا من النصر.

والآن وقد سرح دونالد رامسفيلد يرى بوش فرصة لتعيين قائد جديد وهو يعلن استراتيجية جديدة وفقا لما يقوله مسؤولون عسكريون كبار. وكان من المقرر ان يخرج الجنرال كيسي من العراق في الصيف. ولكن يبدو الآن ان هذا قد يحدث في فبراير(شباط) او مارس(آذار) المقبلين.

وفي مقابلة هاتفية الجمعة الماضي واصل الجنرال كيسي التحذير من التوسع في دور الجيش الأميركي. وقال انه «كلما استمرت القوات الأميركية بصورة أطول في تحمل العبء الرئيسي من أمن العراق، فانها تطيل الوقت الذي يتعين ان تتخذ فيه الحكومة العراقية قرارات صعبة بشأن المصالحة والتعامل مع الميليشيات. والشيء الآخر انهم يستطيعون الاستمرار على توجيه اللوم إلينا بشأن جميع مشاكل العراق التي هي بالأساس مشاكلهم».

غير انه اذا ما أرسل بوش مزيدا من القوات الأميركية، فان المؤرخين قد يتساءلون عن السبب الذي جعل هذه الخطوة تستغرق وقتا طويلا. ويجادل بعض مسؤولي بوش بان الادارة أخطأت برفضها إرسال قوة اكبر عام 2003، او تعزيز القوات بصورة كافية عندما بدأ التمرد بالنشاط. واهتزت ادارة بوش يوم 22 فبراير الماضي عندما فجرت «القاعدة» مرقد العسكريين في سامراء، وهو عمل مدبر بدقة لإثارة المشاعر الطائفية والانتقام الشيعي، وجعل العراق عصيا على السيطرة. وفي يوم التفجير تدفق الشيعة في مدينة الصدر الى الشوارع يحملون اللافتات والأعلام. وكان الرجال، وبعضهم ارتدى الملابس السوداء، التقليدية بالنسبة للميليشيا الشيعية في المنطقة، يتكدسون في شاحنات مكشوفة ويحملون أسلحة ويطلقون هتافات الولاء لأئمة الشيعة. وفي بغداد ذهب زلماي خليلزاد، السفير الأميركي لدى العراق، الى رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري ليؤكد على فرض الحكومة العراقية حظرا للتجول لمدة 24 ساعة على نطاق البلاد. ولم يقتنع الجعفري، القيادي في حزب الدعوة الشيعي، بذلك. وطبقا لمسؤول حضر النقاش، فإن الجعفري رد عليه قائلا «انت هنا منذ 6 أشهر فقط، وفجأة تعرف بلادي أفضل مني». إلا ان بعض القيادات العراقية بما في ذلك مستشار الأمن القومي الحالي موفق الربيعي، ردد نصيحة خليلزاد. وقال الربيعي «اتذكر اني قلت له: هذا سيشعل نيران حرب أهلية شاملة».

ويبدو أن الجنرال كيسي والجنرال جون ابي زيد رئيس القيادة المركزية الاميركية يتفقان في الرأي. فخلال صيف 2005 تكهن الجنرال كيسي بـ «انخفاض مهم» في عدد القوات الاميركية بحلول صيف 2006، وهو تقييم قال انه يعكس «تلميحات» من جانب المتمردين السنة بأنهم ربما يرغبون في التفاوض وإلقاء السلاح.

من ناحيته، قال الجنرال كيسي إن خطته تهدف الى التوضيح للعراقيين بأن الولايات المتحدة لا تريد استمرار دورها كمحتل للأبد، وأكد ايضا انه يتبع استراتيجية لمواجهة الموقف السياسي والعسكري «المعقد» في العراق، وانه لا يسعى لتعزيز مكانته بخطط لإرضاء اجندة ادارة بوش السياسية.

وفي وزارة الخارجية تزداد الشكوك في خطط الجنرال كيسي؛ ففيلب زليكو مستشار وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس حتى استقالته في شهر ديسمبر(كانون الاول) الماضي، زار العراق في أواخر عام 2005، وعاد بتوصيات تدعو الي تخصيص النصف الاول من عام 2006 لحملات واسعة عسكريا واقتصاديا وسياسيا لدعم الحكومة العراقية التي لم تكن قد تشكلت بعد. وتعارضت توصياته مع الالتزام بخفض القوات.

وبالرغم من ذلك، فقد كان الجنرال مترددا في التخلي عن استراتيجيته الاساسية؛ فطبقا لمسؤول كبير في الادارة ذكر الجنرال كيسي للبيت الابيض في ابريل(نيسان) ومايو (أيار) ويونيو (حزيران) من عام 2006 ان القوات الاميركية تحقق نجاحا ضد «القاعدة في بلاد الرافدين» وضد التمرد السني، وانه يمكن احتواء العنف الطائفي.

وبحلول مايو (أيار) 2006، طالب عدد من المسؤولين في وزارتي الخارجية ومجلس الامن القومي، الى إعادة النظر في استراتيجية العراق. وعقد اجتماع في كامب ديفيد لدراسة هذه المنطلقات، طبقا لعدد من المشاركين في هذه الجلسة، إلا ان بوش غادر الاجتماع في وقت مبكر لزيارة سرية لبغداد، حيث ناقش خطط الحرب مع الجنرال كيسي والمالكي، والتقى بطيار أميركي قتلت صواريخ طائرته ابو مصعب الزرقاوي زعيم «القاعدة» في العراق. وعاد الى واشنطن وهو في حالة مزاجية عالية.

وكانت الزيارة تعني ان اعادة النظر في الاستراتيجية ليست شاملة كما كان عدد من المسؤولين يأملون. وفي يونيو، زار الجنرال كيسي واشنطن لتقديم تفاصيل حول آخر تعديل لخطة خفض القوات للبنتاغون والبيت الابيض. وتدعو الخطة الى ضرورة خفض الفرق المقاتلة الاميركية التي يصل عددها الى 14 فرقة الى 12 بحلول شهر سبتمبر(أيلول) وربما خفضها الى 10 فرق بحلول شهر ديسمبر، اذا ما سمحت الظروف. وإذا ما استمر العراقيون في تحمل مزيد من المسؤولية في المجال الامني، فسيصبح بحلول عام ديسمبر من العام الحالي 5 فرق مقاتلة فقط.

وبالرغم من ذلك، فإن الرئيس بوش كان يلمح لكبار مساعديه بأنه يريد إعادة تقييم كيفية الحفاظ على الاستقرار قبل بداية خفض القوات. ويماثل حذره عدم الارتياح الذي تشعر به القيادات الميدانية الاميركية في العراق، والضباط في شوارع بغداد، الذين أعربوا عن دهشتهم من استمرار دفاع الجنرال كيسي عن الانسحاب ودعم القواعد. وقالوا انه يجب على القوات الاميركية التركيز على جهود مكافحة التمرد على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يتطلب نشر عدد كبير من القوات لحماية السكان من المتمردين وهجمات الميليشيات.

وكانت استراتيجية الإدارة الأميركية في الصيف الماضي كالتالي: تحتل قوات أميركية وعراقية بعض المناطق التي يتم اختيارها وإخراج المتمردين وقياديي الميليشيات منها وإبقائهم تحت حجز الشرطة العراقية، ثم يتم كسب الناس من خلال توفير برامج تشغيل لإعادة الإعمار.

لكن تنفيذ هذه الاستراتيجية كان صعبا جدا. إذ كان الالتزام الأميركي متواضعا في أحسن الأحوال. ومع إضافة ما يقرب من 7 آلاف جندي أميركي إلى بغداد بلغ عدد الجنود الأميركيين هناك ما يقرب من 15 ألفا.

ولكن في منطقة الدورة التي تمثل معقلا قويا للسنة، أجبِرت الوحدات الأميركية على تفتيش آلاف البيوت مرتين: كانت قوات الأمن العراقية المتحركة وراءها ضعيفة جدا، ولم تكن ملتزمة كثيرا بالمهمة لمنع المتمردين من العودة ثانية إلى أماكنهم. وفي مناطق مثل البياع ذات الأغلبية الشيعية وضعت الشرطة العراقية هناك نقاط تفتيش على الطرق التي يستخدمها السنة الباحثين عن مساعدة طبية أو لشراء الوقود. وقال الليفتنانت كولونيل جيمس دانا الذي قاد الكتيبة الثانية من فوج المشاة السادس: «إنهم يحاولون فرض السيطرة على المدنيين السنة وترهيبهم إلى النقطة التي يضطرون فيها إلى ترك بغداد أو الذهاب إلى مناطق أخرى». وقال الكولونيل دانا الذي شاركت وحدته في الإشراف على تلك المناطق، إن العملية الأمنية الأولى في بغداد فشلت والثانية فشلت أيضا. ومع اقتراب الانتخابات الأميركية قال مسؤولو البيت الأبيض إنهم سيرتكبون انتحارا سياسيا آنذاك إن هم أعلنوا عن قرارهم إجراء مراجعة شاملة لخططهم. لكنهم اعترفوا بأنه بدون أن يبدأوا بالمراجعة الآن فإن عليهم لاحقا أن يقبلوا بالاستنتاجات التي توصلت إليها لجنة دراسة العراق.

ويستمر بوش رسميا في التأكيد على أن المالكي يشارك في الرؤية نفسها، لكنه في جلساته الخاصة «يتساءل عما إذا كان المالكي يمتلك الإرادة حقا» لتنفيذ التزاماته، حسبما قال أحد مساعديه السابقين. ويتساءل مسؤولون عسكريون أميركيون أيضا فيما إذا كانت الحكومة التي تسيطر عليها الأحزاب الشيعية تشارك في الرؤية نفسها. وهل أن عدم تحرك العراقيين هو بسبب أنهم لا يمتلكون القدرة على توفير الأمن وتنفيذ عمليات إعادة الإعمار؟ أو هل أن للسلطات العراقية أجندة طائفية؟

ومع فشل الجهود الأمنية في بغداد يقول بعض أولئك المطلعين على خفايا الأمور، إنه قد تكون «الاهداف» في العراق قد تم تهيئتها تحت قيادة الجنرال بيتر تشياريلي الذي كان حتى لأسابيع قليلة ماضية يقود العمليات اليومية في العراق. وهناك رؤية معتمة لمستقبل بلد منقسم على نفسه تطارد إدارة بوش.

وبدون أن تقنع الولايات المتحدة الحكومة العراقية بتغيير المسار، فإن أولئك الذين هيأوا المذكرة يتوقعون أن يحكم العراق حكومة مركزية ضعيفة، وهذا يشمل تسع ولايات شيعية تدار ذاتيا في الجنوب مع إدارة يغلب عليها الشيعة لبغداد. أما الأكراد فسيحصلون على حكم ذاتي للشمال. والسنة سيُدفعون بالدرجة الأساس إلى محافظة الأنبار الغربية وبعض الجيوب.