من الدراسة إلى التوطين ورحلة الذهاب بلا عودة

قصة 5 آلاف من العقول العربية في البلقان:

TT

تشير الآثار التاريخية الموجودة في متحف دوبروفنيك بكرواتيا حاليا، إلى أن تاريخ الاتصال الثقافي والتجاري، بين البلاد العربية ومنطقة البلقان كان سابقا للفتح العثماني في القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين للمنطقة. كما تفيد الدراسات البيولوجية إلى أن سكان البلقان يحملون أكثر من 70 في المائة من الجينات الوراثية في الشرق، (كروميزوم واي) أي أن الهجرة من الشرق إلى الغرب ، كانت متواصلة منذ قرون غارقة في القدم. ويوجد حاليا في ألبانيا ومقدونيا والبوسنة عائلات تعود جذورها إلى الحجاز ومصر والشام.

كانت تلك مقدمة ضرورية ، لمعرفة أحد أسباب الارتياح الغامض، الذي يشعر به الوافد العربي وصاحب الارض في البلقان كلاهما للآخر في غالب الأحيان.

أغلب العقول والكفاءات العربية المهاجرة في منطقة البلقان، قدمت للدراسة والتحصيل العلمي، ونبغت في مجال تخصصاتها،لا سيما الطب والهندسة، وقررت البقاء في البلقان.

وبعد الحرب التي شهدتها المنطقة، وصلت موجة جديدة من العقول والكوادر، ولا سيما في مجال اللسانيات، أما أسباب الهجرة الطويلة أو المزمنة بتعبير بعضهم فتعود لعدة عوامل، منها الزواج، وانجاب الأطفال الذين يواصلون تعليمهم في المدارس والمعاهد والكليات البلقانية ولا يستطيع الآباء نقلهم للبلاد العربية لمواصلة تعليمهم.

وهناك ايضا الاوضاع السياسية المتردية في البلد الأصلي، حيث يسود القمع والقهر وانتهاك الحريات الاساسية للانسان. وكذلك عدم وجود بدائل حضارية كغلق أبواب الهجرة للبلاد العربية الاخرى التي تفضل الأجانب، سواء كانوا غربيين أو من مواطني جنوب شرق آسيا، بالاضافة الى التخلف الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد العربية التي تشكو بدورها من بطالة الخريجين وحملة الشهادات العليا. وبالتالي فإن الهجرة وقرار البقاء في الخارج وليد الاحتياجات الانسانية، كالأمان، والحرية، والفرص الأفضل للحياة، في بعض جوانبه. كما لا يخلو القرار لدى البعض من نتائج مقارنة وفق المعيار المادي والكسب. وهناك عدم وجود أموال مخصصة للبحث العلمي في كثير من البلاد العربية، فما يصرف على الامن يبلغ 15 في المائة من الناتج المحلي مقابل 1 في المائة للبحث العلمي، وذلك في كل البلدان العربية مقابل 15 في المائة للبحث العلمي في الكيان الصهيوني.

لا توجد حاليا احصائيات موثقة عن عدد العقول والكفاءات العربية في منطقة البلقان، لكن البعض يقدرها بنحو 5 آلاف من الكفاءات العلمية في مجال الطب والهندسة والمعلوماتية والآداب موزعين على جمهوريات يوغسلافيا السابقة المستقلة، وبعض الدول البلقانية الاخرى كاليونان وألبانيا. ولا يكاد يوجد مستشفى دون أن يكون به عدد من الكوادر العربية التي أصبحت معروفة لدى المواطنين في منطقة البلقان وهناك أسماء بارزة في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة، فعلى سبيل المثال يبرز اسم الجراح الكبير يوسف حجير في البوسنة، والدكتور حجير هو أشهر من نار على علم، يعرفه الجميع ويقدر الخدمات التي قدمها ويقدمها للشعب البوسني، إضافة إلى أحمد سمارة في كرواتيا، وخالد السهيلي، ومصطفى حمامي، وأسماء أخرى يطول ذكرها.

وبعد الحرب قدم إلى المنطقة كوادر ومتخصصون من النوع الذي يصعب إعداده في المنطقة، ومن ذلك كوادر اللغة العربية والعلوم الاسلامية، الذين أبلوا بلاء حسنا في عملية الارتقاء بمستوى اللغة العربية في منطقة البلقان، ومساعدة الكوادر المحلية في تثقيف الطلبة بكليات الفلسفة وأقسام اللغة العربية التابعة لبعض الكليات ومنها كلية الدراسات الاسلامية في سراييفو.

ومن بين الكوادر العربية من يعمل في غير التخصص الذي درسه في الجامعة، فنجد بعض المهندسين والأطباء يعملون في مجالات أخرى ، كمترجم لدى بعض السفارات، أو مبرمج على الحاسب الآلي، وهم يخجلون من ذلك، ولكن ظروف المعيشة اضطرتهم إلى ذلك العمل. وقال «س م» إذا عملت بتخصصي، وهذا في حالة العثور على وظيفة فإن راتبي لا يكفيني، كل شيء قادم من الخارج إلى هذه المنطقة، فمثلا البنطلون القادم من ايطاليا لا يعرض بأسعار ايطالية فحسب بل يزيد عليه رسوم الجمارك والارباح والضرائب المرتفعة فيشتريه المواطن والمقيم هنا بأضعاف سعره في أي بلد أوروبي آخر. هذا ينطبق على المواد الغذائية وكل شيء تقريبا» . أما «إ ر»، وهو من الجزائر وقد أنهى دراسة الاتصالات السلكية واللاسلكية في يوغسلافيا السابقة فيسرد قصته على النحو التالي «قدمت من الجزائر على نفقة الحكومة لدراسة الاتصالات، وبعد التخرج لم أعثر على أي عمل، وحتى الآن احاول أن أعمل في المجال الذي تخصصت فيه دون جدوى. ويعتقد البعض بأن رغبة الكثير من الكوادر العربية البقاء في البلقان رغم عدم توفر فرص عمل لها في مجال تخصصها تعود لاسباب مختلفة، فهم على سبيل المثال لا يستطيعون «رؤية الاوساخ في شوارع بلدانهم، ولا تحمل حياة البطالة في مجتمعاتهم، ولا أسلوب الحكم الذي يعامل المواطنون كقطعان من الماشية»، لذلك يفضل الكثير منهم الحياة في البلقان بما فيها من مشاكل على الحياة في بلده الأصلي «الذي تحكمه المخابرات بعقلية العصابات وتجار المخدرات».

ولا يخفي معظم البلقانيين ارتياحهم لوجود كوادر عربية تعمل على مساعدتهم في كل المجالات، لا سيما في الميدان الطبي، فقد أثبت الأطباء العرب كفاءة عالية واخلاصا نادرين، ففي الوقت الذي كان فيه البعض يحزم حقائبه للرحيل بسبب الحرب، أو وصل بالفعل إلى بر الامان في المانيا واستراليا وكندا وبريطانيا وغيرها ظل الكثير من الأطباء العرب يعملون داخل المستشفيات والجامعات بدون مقابل، وبدون الحدود الدنيا من لوازم العمل، حيث كانوا يجرون العمليات الجراحية بدون تخدير وعلى ضوء الشموع، إذ أن التيار الكهربائي كان مقطوعا، لاسيما في سراييفو طيلة سنوات الحرب. وقد حصل الكثير من الاطباء العرب على شهادات تقدير من المؤسسات المحلية على كفاءاتهم وتفانيهم في خدمة المجتمع الذي احتضنهم واحتضنوه . فقد كان الاطباء العرب أعضاء في جمعية الاطباء العرب في أوروبا، وكانوا ينقلون (إلى جانب عملهم داخل المستشفيات) بعض المساعدات المالية إلى زملائهم في البلقان.

شهادات التقدير طالت أساتذة الجامعات من مدرسي اللغة العربية العرب، والمراسلين الذين كرمتهم مؤسسات المجتمع البلقاني، ومنها المؤسسات الدينية كالمشيخة الاسلامية. ولم يكن ذلك التكريم مبالغ مالية أو قطع ارض وإنما أشياء رمزية كالدروع واللوحات الفنية، وهي ذات دلالة، وايحاء كبير يفيد بأن الكوادر العربية تقوم بعمل مقدر يذكره الناس ويشكرونه.

يؤكد محمود (مهندس) لـ«الشرق الاوسط» بأن العربي «يشعر بالغربة مهما كانت الظروف المادية، فأطلال ذكريات الصبي والاهل والاصدقاء تبقى طاغية على حياة المهاجر ويزداد حنينه كلما طال غيابه». ويؤكد أحمد اعلامي بأن «وجود طاقات تعمل في الخارج مهم للبلاد العربية، للاستفادة من خبراتها ولكن لا أحد يهتم كثيرا بهذه القضية الحيوية». وتابع «كان العلماء العرب في مختلف التخصصات سابقا لا يعرفون الحدود الموجودة حاليا بين البلدان العربية فإذا سئم الواحد منهم من بلد كان بامكانه الرحيل إلى بلد آخر بدون أي عراقيل، ولكن في ظروفنا الحالية الأمر مختلف تماما «ويشير عبد الرؤوف، خبير في الحاسب الآلي، إلى «عدم وجود امكانية للعودة للبلاد العربية» لأن بعض الحكام جهلة لهم عقدة مع المعرفة وأهلها ولا يحبون المثقفين ويعتبرونهم تهديدا وذكر بأن عددا من الكوادر العربية عادوا لبلدانهم فطلب منهم العمل في غير التخصص الذي أفنوا أعمارهم في اتقانه. إلا أن تكريم العرب في البلقان لم يدفع الآخرين لخوض غمار العمل السياسي، وعزوف العرب في البلقان عن العمل السياسي قصة ذات شجون، حيث لم يتخلصوا بعد من عقدة العمل السياسي، في البلاد العربية، كما أن الانتماء لهذا الحزب أو ذاك يجعلهم محل انتقاد الاحزاب الاخرى. وكان الرئيس الراحل علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله، قد رشح بعض الكوادر العربية للبرلمان، لكنهم ما لبثوا أن طلبوا اعفاءهم من العمل السياسي، والاكتفاء بوظائفهم الاكاديمية، الامر الذي عده البعض تفريطا في حق وأمل. إذ أن العرب كمواطنين بوسنيين من حقهم الانخراط في الاحزاب، وتمثيل العرب في البوسنة، وغيرها من دول البلقان، ولا سيما تلك الدول التي يجد فيها العرب أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية. أما موقف الاحزاب السياسية والطوائف الدينية في المنطقة من الكوادر العربية، فيختلف وفق كل فريق أو جهة من هذه الجهات. ففي الوقت الذي ينظر فيه المسلمون بعين الرضا للوجود العربي ولا سيما العقول العربية، تنظر إليه بعض الجهات الاخرى، بعين الشك والريبة ويعدونه من عوامل التوتر، وأحد روافد تقوية المسلمين، رغم أن خدمات تلك الكوادر تصب في صالح الجميع دون تفريق بين الجهات المختلفة. فقد أثارت تلك الجهات في منطقة البلقان وفي أكثر من بلد زوابع اعلامية وسياسية ترفع لافتات تزعم بأن العرب يأخذون وظائف الآخرين (أبناء البلد) وعندما فتح الباب لتوظيف بعض الكوادر المحلية في عدد من الدول الخليجية صاحوا «العرب يريدون أن يتركوننا بدون كوادر». لكن الانكى من ذلك محاولة البعض رمي كل العرب، بمن فيهم الكفاءات، بشبهة الارهاب، أو احتمالات وجود علاقة لهم بذلك في المستقبل.