الأمير تركي الفيصل يحذر من تحول الخلافات المذهبية إلى أفعال سياسية

دعا إلى تعاون إيراني خليجي لحل الأزمة في العراق

TT

دعا الامير تركي الفيصل، رئيس مركز الملك فيصل بن عبد العزيز للبحوث والدراسات الاسلامية، الى تعاون سعودي ايراني خليجي لرأب الصدع في العراق بدون انتظار حل الأزمة السياسية في لبنان، داعيا الى تحويل النفوذين السعودي والايراني في المنطقة الى نفوذ ايجابي على شكل استثمارات متبادلة.

وحذر الامير تركي الفيصل، في كلمة امام المؤتمر السنوي لمركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي اختتم اعماله في ابو ظبي امس، من تحول الخلافات المذهبية الى فعل سياسي، وان يؤدي الى أي نوع من العداء والكراهية. وقال إن مجلس التعاون لدول الخليج العربية يواجه أزمة تعكر صفو الاستقرار فيه وتهدد أمنه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وقال ان «حالة الأزمة أصبحت ظاهرة تخطّى الحديث عنها النطاق الإقليمي، فغدت محور كتابات كثيرة تحللها وتبحث عن دوافعها وتقترح لها الحلول.. يغذي بعضها روح الكراهية والعداء مستفيدة في ذلك من خلافات مذهبية وسياسية تطرأ بين طرفي الخليج: دوله السُّنيّة على شواطئه العربية، وإيران الشيعية على الشاطئ الآخر». وأضاف «هذه الكتابات والتحليلات الصادرة عن محللين سياسيين يعيشون بعيداً عن المنطقة جعلت من إيران محوراً لمدّ شيعي يسعى حثيثاً إلى مدّ نفوذه في منطقة الهلال الخصيب، ما يعني تقويض حركة التعايش السلمي بين أطياف المجتمع العربي بمختلف مذاهبه وعقائده التي ظلت قائمة على مدى قرون طويلة، ومن ثم كما يزعم هؤلاء المحللون بروز إيران كقوة مهيمنة في المنطقة. وقد ساعد على قبول مثل هذه التحليلات غير الايجابية بروز قوى حديثة التكوين في المنطقة تدور في فلك إيران اشتطت في تحديها لكل ما يخالف توجهاتها فلجأت إلى العنف لتصفية حساباتها مع إخوانهم السنة فسمتهم تارة بالوهابيين، وتارة أخرى بالتكفيريين، وأشاعوا أنهم ممن ساندوا أو سكتوا على اضطهادهم في فترة صدام حسين في العراق، والحق انه إذا عدل صدام في شيء، فقد كان عادلاً في اضطهاده لكل العراقيين وبكل أطيافهم وطوائفهم».

وأضاف انه «في المقابل فإن هناك عناصر انطلقت من عالمنا السني بدعوة بغيضة لقتل من سموهم بالرافضة والتنكيل بهم، واجتمعت الفئتان في العراق الذي أصبح مسرحاً لشتى أنواع الكره والبغض والمنكر».

وتساءل الامير تركي الفيصل عن حقيقة ما يوصف بالخطر الإيراني وربطه بأحداث العراق ولبنان وانعكاسات ذلك على أمن واستقرار دول مجلس التعاون، مشيرا في هذا الصدد الى اللقاء بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد والاتفاق بينهما على إخماد نار الطائفية المشتعلة في العراق وإطفاء جذوتها في لبنان، وقال انه يفضّل النظر إلى إيران «بوصفها دولة جارة وصديقة تربطنا بها روابط تاريخية ومصالح اقتصادية وتقارب في نمط الحياة الاجتماعية» وذكر انه «إذا كان هناك خلاف مذهبي بين إيران ودول مجلس التعاون فيجب ألا يؤدي هذا الخلاف المذهبي إلى أي نوع من العداء والكراهية، لأنه خلاف قديم يصعب علاجه بين يوم وليلة، وتجاوزه يكون بتحكيم العقل والرجوع إلى جوهر الدين الإسلامي الحنيف وتغليب سماحته، وتوعية عامة الناس بأن التعايش مطلوب من أجل توفير الأمن للمنطقة، وأن لا فائدة من تسخير جزئيات من السلبيات المذهبية في زمن يحتاج فيه الناس إلى التقارب والألفة لتحقيق الرفاهية والاستقرار لشعوب المنطقة بأكملها». وقال إن إيران ودول مجلس التعاون نسيج باهر من السنة والشيعة يشبه في دقة حياكته أبرع ما ينسج من زرابى في تبريز أو نائين أو شيراز. وانتقد الامير تركي الفيصل الذين يبحثون عن حلول غيبية غير واقعية بواسطة مهدي منتظر أو إمارة إسلامية مزعومة تستمد من الموروث التاريخي، قائلا ان هؤلاء يعترفون بعجزهم عن معالجة تحديات اليوم، بوسائل دنيوية بشرية، وفق السنن الإلهية التي وضعها الله عز وجل واشترطها لإعمار الأرض، وجعل من مستلزماتها العمل ثم العمل ثم العمل، مع الإخلاص وبذل الجهد والشورى. وطالب الامير تركي بـ«تغيير نظرتنا تجاه ما يمكن أن نطلق عليه (عقدة العيب) التي تظهر عند ربط الاهتمام بالمصالح المادية» مشيرا الى أن «العلاقة القائمة على مصالح مادية بين الدول مفيدة وإيجابية، فلا نقيسها بالعلاقات الإنسانية الخالصة بين رجل وشقيقه أو صديق وصديقه، وأعطي مثالاً على ذلك بعلاقة المملكة بدول الخليج وهي علاقات ممتازة وأخويه ولكن البحرين ودبي هما أقرب من غيرهما بحكم الاستثمارات السعودية الهائلة فيهما، وحجم التبادل التجاري المتزايد بينهما والمملكة، وفي هذا السياق تسعى المملكة وتضع في قائمة أولوياتها التنموية التكامل الاقتصادي بينها وبين جميع دول الخليج العربي».

وقال «ان لنا في لبنان أنموذجاً آخر، فهذه العلاقة والمصالح مع لبنان جعلت المملكة تنشغل بتطورات الوضع هناك منذ استقلاله، وحتى التنازع الأخير بين الحكومة والمعارضة، الذي خرج عن الإطار المقبول واقترب من حالة الفتنة السياسية، والأدهى من ذلك الطائفية، ولما كان طرف النزاع الرئيس مرتبطاً فكرياً وعضوياً بإيران، وأقصد هنا حزب الله، كانت المملكة ودول الخليج لا تزال مرتبطة بكل لبنان، فلا يمكن القول بان حلفاءنا هناك السُنّة دون غيرهم، لأن موقع المملكة الريادي في العالم الإسلامي يحتم عليها أن تكون لكل العرب والمسلمين، بدون تفريق بين طائفة وأخرى، مسلمة أو غير مسلمة» وقال انه «دفعاً للتنافس والشقاق فقد وجدت المملكة أنه من الضروري فتح حوار مع إيران بدلاً من الصراع معها في لبنان، لأن الصراع سيضر أولاً باللبنانيين كلهم، ثم بالعلاقة بين الجارين الكبيرين على ضفتي الخليج، وأخيراً وهو الأمر الأهم سوف يضر أي صراع بالعلاقة المتوترة أصلاً بين السنة والشيعة، وهي علاقة لم نبذل بعد الجهد الكافي لعلاج اضطرابها بطرق تؤدي إلى تأصيل أسس للتعايش الحضاري في إطار روح التسامح الهائلة التي يفيض بها ديننا الحنيف، فإن لم نستطع فعل ذلك فعلى الأقل نمنع الاحتراب بين أتباع المذهبين».

وحذر من ان أي صراع ينشأ بين السعودية وإيران في لبنان سوف يمتد إلى خارجه، وقال إن الأزمة اللبنانية مستمرة، وهذا أمر لا يمكن إخفاؤه، ولكن يمكن القول إن حدتها خفّتْ بعض الشيء بفضل التواصل السعودي الإيراني الذي أدّى بالتعاون مع القوى اللبنانية المختلفة إلى تجاوز لحظات حرجة كادت أن تُفجر كل شيء، ولا تزال المساعي مستمرة، وعسى أن تكلل بنجاح قريباً.

وانتقد الامير تركي القوى السياسية في العراق وقال «إنه لمن المؤسف أن في العراق قوى سياسية لم تتعلم بعد فن التعايش وتقاسم السلطة، واللجوء إلى العقل في إعطاء كل ذي حق حقه بدلاً من السعي إلى استئصال الآخر ونفيه وتشريده» مشيرا الى ان هذه القوى «بحاجة إلى أن يقدم لها العون كي تنهج النهج القويم الساعي إلى تحقيق العدالة والمساواة والحرية لأفراد المجتمع العراقي، وعلينا ألا نسمح لها باستغلالنا من أجل تصفية حساباتها».

وتطرق الامير تركي في الجزء الاخير من ورقته للمؤتمر الى قضية الارهاب وقال «أريد أن اختتم بالتحذير من خطر حقيقي دهمنا ولا يزال يفعل، ولن يتوقف إلا بموقف حاسم ضده يرفضه ولا يبرره ولا يوظفه بأي شكل من الأشكال، وهو خطر التطرف والغلو في الدين، عنيفاً كان يستخدم السلاح، أم لفظياً كان يستخدم اللسان والبيان، فيشيع الكراهية والبغضاء، ويفرد الأرضية المناسبة لشركائه حاملي السلاح، وناشري القتل والتدمير والتفجير في مجتمعاتنا، وهو موقف يجب أن يشترك فيه مع الحكومات علماء الدين وأهل الرأي، فمثلما اكتوينا نحن السنة بنار (القاعدة) وفتنتها، ها هم الشيعة يكتوون بنار وفتنة طائفة جديدة بينهم تدعى (جند السماء) رأينا شرها، وفعلها المنكر، من النجف في العراق إلى زاهدان في إيران».

وحمل الامير تركي على العمليات الانتحارية وقال «ادعو إلى موقف مماثل ومكمل لما سبق، لحرمان هؤلاء الغلاة والخوارج من سلاحهم المفضل والأقوى وهو سلاح الموت وتفضيله على الحياة ونشر ثقافته وفقهه الباطل، والعمليات الانتحارية، واستباحة دماء العامة ومن يسمونهم المخالفين، وكلنا مخالفون لهم. لقد توقفنا عن عد ضحايانا الذين يسقطون كل يوم في العراق، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، بدون خوف أو توجس من الوقوع في كبيرة القتل، ولو مضى الأمر كما يتمنون لكانت كل أوطاننا كالعراق، وأذكّر هنا بموقف شجاع اتخذه علماء المملكة، حاسم لا يقبل التأويل في تحريم العمليات الانتحارية كلها، ضد مسلم أو غير مسلم، ضد عدو محتل أو جندي يحمي الوطن، إن تساهل البعض في إباحة هذه العمليات الانتحارية وتجميلها بوصفها بالاستشهادية، والتي لا تخلو من شبهة قتل النفس المحرمة، ولم تفتح ثغرتها إلا في زماننا هذا، ما يدل على شبهة كبيرة تحيط بها».

وقال «لا يستطيع أحد أن يزايد على علماء المملكة في التزامهم في الفتوى بمنهج السلف. فمن الممكن أن يبني على هذا، ليكون موقفا إسلاميا شاملا وموحدا ضد فقه الموت الذي غرر بكثير من أبناء الأمة، وكلفنا وكلف الإسلام صورته النقية المتسامحة الكثير». وقال «دعوني أقولها بملء فمي: فعوضاً عن الحلم بهلال شيعي، أو التخوف منه، يمكن أن نعمل معاً لبناء هلال خصيب يمتد من العراق حتى لبنان، تكون لسورية صدارة فيه، وللأردن حصة فيه، ولفلسطين زاوية فيه، ينشغل بالبناء والرخاء والسعادة، وتستفيد منه دول الخليج كافة، ليكن هلالاً نتفق عليه، لا هلالاً نختلف عليه». واستدرك الامير تركي للحديث عن احتلال ايران للجزر الاماراتية الثلاث فقال «لا يزال هناك جرح يدمي بين ضفتي الخليج ألا وهو جرح الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية. فكيف لنا أن نتفق مع إيران في العراق ولبنان وهي لا تزال تحتل أرضاً من أراضينا ؟» وتمنى على إيران «أن تواجه نفسها وتقر بأن هذا الاحتلال لا يمكن أن يدوم» وطالب الشعب الإيراني قبل حكومته وقياداته بالإنصاف في هذه القضية قائلا «ما أقسى جور الصديق والجار».