«الشرق الأوسط» في إيران (2): قم.. التشدد والاعتدال

خرج منها الخميني.. و الأب الروحي للمحافظين الجدد.. و«مفتي النساء» الليبرالي.. ورفسنجاني نجمها الصاعد

TT

في الطريق إلى قم، التي تبعد عن طهران 97 كيلومترا وأفضل طريقة للوصول اليها هي السيارة، قال بهرام سائق التاكسي، وهو شاب ايراني درس الفنون والتصوير ولم يجد بعد عملا في طهران ولذا يعمل بين الحين والآخر كسائق تاكسي: «ماذا تريدين ان تري في قم؟ ليس بها شيء. فقط رجال دين. انا تعبت من رجال الدين لأنني أراهم منذ 30 عاما». ثم وضع اسطوانة مدمجة (سي دي) عليها إحدى أغاني المغني البريطاني التون جون، طوال الطريق الى المدينة التي قال انه لا يحبها.  قم.. هي واحدة من 30 محافظة ايرانية، عاصمتها مدينة قم التي تعد العاصمة الروحية والدينية لإيران، بجانب طهران العاصمة السياسية، وأصفهان العاصمة الثقافية. قم ايضا هي ثاني مدينة إيرانية من حيث الأهمية الدينية بعد مدينة مشهد، إسمها مقتبس من «شهيد لكثرة الشهداء الذين قتلوا فيها» على حد قول الإيرانيين، وهي تضم قبر الامام الرضا ثامن أئمة الشيعة.    قم ليست ذات شعبية بين الكثير من الايرانيين الذين يرون انها، وحوزتها العلمية، يحكمان ايران فعليا، لأن السياسيين في طهران، أو على الأقل المحسوبين منهم على التيار المحافظ، مثل الرئيس محمود احمدي نجاد، يستمدون الجزء الاكبر من سلطاتهم من قم، وليس من طهران. ويشعر الكثير من الايرانيين من ذوي التعليم المدني أن هذه المدينة الصغيرة اختطفت ايران، فالمزايا التي نالها رجال الدين في قم خلال عامين من ولاية احمدي نجاد كثيرة ليس اقلها تعيين عدد من الملالي عمداء لأرقى الجامعات الإيرانية ومنها جامعتا طهران وأصفهان، لكن بالرغم من هذا فإن قم ذات شعبية كبيرة بين طلبة العلوم الدينية من جميع أنحاء العالم تقريبا، إذ يأتون لدراسة الفقه الإسلامي الشيعي في حوزتها العلمية. ووصف الحوزة العملية يطلق على المكان الذي به عدة مدارس دينية لتدريس الفقه الشيعي، ويضم عددا معتبرا من آيات الله. وكما تضم الحوزة طلابا من جميع أنحاء العالم، تضم أساتذة من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أميركا.  يبلغ عدد سكان قم مليونا ونصف المليون نسمة، وهي مدينة مقفرة وفقيرة معماريا واقتصاديا إلى حد كبير، ولا يمكن للزائر سوى أن يتطلع إلى بيوت بسيطة جدا، وشوارع هادئة لقلة العربات مقارنة بطهران، ورجال دين يلبسون العمامة والعباءة السوداء يتنقلون على دراجات بخارية. مناخها صحراوي، والأمطار فيها قليلة، وهي لا تتمتع بطبيعة جميلة، فليس هناك حدائق أو أشجار، بل منحدرات صحراوية جرداء، ولهذا تتميز صناعة السجاد في قم بغزل المناظر الطبيعية والمياه والخضرة لتعويض افتقاد الناس لها في حياتهم اليومية. كما تفتقر قم للثروات الطبيعية، وغالبية أراضيها لا يمكن زراعتها بسبب المناخ، خصوصا الأراضي التي تقع إلى جانب بحيرات مالحة.   أبرز معالم قم، بالإضافة إلى الحوزة العلمية ومدارسها، هو مسجد السيدة فاطمة ابنة الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق، الإمام السابع لدى الشيعة (ولد بالمدينة المنورة في 1 نوفمبر 745 وتوفي في 4 سبتمبر 799 ببغداد)، وهي أخت الإمام علي موسى الرضا الإمام الثامن لدى الشيعة (1 يناير 766 ـ 26 مايو 818)، المعروف باسم الإمام الرضا.  ومقام السيدة المعصومة، كما تسمى في إيران، والتي توفيت ودفنت في قم خلال توجهها لزيارة أخيها الإمام الرضا، بني على قبرها. وقبل ذلك كانت قم قرية بسيطة، لكن بدفن السيدة فاطمة في ذلك المكان، بدأ الناس يسكنون بجانب القبر، فتوسعت المدينة تدريجيا وكبرت مساحتها. وفي القرن السابع عشر، بنى شاه عباس الأول، أحد حكام إيران الهامين في ذلك الوقت، الضريح كما هو معروف اليوم، وبات مصدر الجذب الأساسي في المدينة والنقطة التي تتحرك حولها قم، إذ يأتي الإيرانيون من باقي المدن، والشيعة من خارج إيران للزيارة. لكن لا يحق لغير المسلمين دخول مرقد السيدة فاطمة، وهناك إجراءات أمن مكثفة حول المرقد، وفي قم عموما. وبجانب قبر السيدة فاطمة بنيت مقابر أخرى لرجال دين بارزين في تاريخ المدينة، حتى بات ضريح المعصومة يضم عمليا تحت قبته الذهبية الكثير من القبور. وفي كل مكان تتلفت فيه في قم تجد إشارات وأدعية دينية مثل «يا فاطمة»، و«ابو الفضل العباس»، و«يا حسين»، وهي لافتات تجدها على محلات بيع الملابس النسائية، وعلى وسائل المواصلات العامة والخاصة في المدينة، وعلى محلات الأكل، وطبعا على المساجد، والمدارس الدينية.  وإن كان الضريح لم ينجح في أن يحول قم إلى مدينة تجارية واقتصادية، إلا انه حولها إلى مركز ديني وتعليمي، إذ أن رجال الدين كانوا يجلسون في حلقات مع طلابهم ويعطونهم دروسا دينية، ثم تطور الأمر مع الزمن حتى ظهرت الحوزة الدينية المعروفة اليوم. وقد أدى تدهور مركز حوزة النجف، التي تم إنشاؤها في القرن الحادي عشر، خلال المائة عام الأخيرة بسبب الأحداث السياسية في العراق، إلى تعزيز مكانة الحوزة العلمية في قم التي بدأت تكتسب سمعة خارج إيران خلال حكم الصفويين عندما تم تحويل إيران رسميا إلى المذهب الشيعي. ومثل طهران لم تنج قم من الغزو الصيني، ففي بازارها البسيط وسط المدينة تجد السلع الصينية في كل مكان، بأسعار رخيصة، وهذا يتناسب مع الامكانيات المادية للغالبية العظمى من طلبة الحوزة العلمية، فهم يعيشون بمرتبات بسيطة، يأخذونها من أساتذتهم. على مدخل السوق كان هناك شاب يفترش الأرض ويبيع ألعابا صينية الصنع للأطفال، بعد ذلك عدة محلات تبيع مفروشات وأجهزة للمطبخ، وملابس. وكان الكثير من المحلات مغلقا، فالعادة في بازار قم أن يغلق التجار محلاتهم وقت الغداء، يذهبون إلى منازلهم للأكل ثم يعودون ثانية للعمل حتى الخامسة أو السادسة. وبالرغم من ضعف حركة البيع والشراء وقلة المرتادين، لا تسمع أحدا في السوق ينادي على بضاعته لمحاولة اجتذاب الزبائن.   وسط المدينة وفي جنوب «ميدان الشهداء» هناك منزل بسيط ملفوف بأعلام سوداء مكتوبة عليه شعارات دينية، ولافتة بالفارسي تقول إن هذا هو منزل الإمام الخميني في قم قبل أن ينفيه الشاه إلى العراق. والمنزل بسيط جدا وليس حوله أي نوع من الحراسة، وما زال كما هو كما تركه الخميني.

 وعلى عكس طهران، تلبس كل نساء قم التشادور الأسود الطويل. وعلى كل النساء من غير أهل المدينة الالتزام بهذا، فالزائرات من طهران أو الخارج لا بد أن يدخلن المدينة بالتشادور أو المعطف الأسود الطويل، وإلا كن مثار تحديق واستنكار في الشوارع. التشادور غالبا ما يكون أسود اللون، وليس هناك غطاء للوجه، فالنقاب نادر جدا في كل إيران، لدرجة أن مرور امرأة تضع النقاب على وجهها في احد شوارع قم كان مثار تعليق من بعض المارة.  لكن قم، مثلها مثل كل شيء في إيران، مدينة المتناقضات. فهي المدينة التي خرج منها الخميني والثورة الإيرانية والإسلام السياسي. وهي الآن مدينة آية الله مصباح يزدي المحافظ جدا في أفكاره السياسية والاجتماعية، غير أنها كذلك مدينة آية الله صانعي، مفتي النساء، وصاحب الأفكار المتحررة ونصير الإصلاحيين.  وفي حوزة قم تعددية. فكل واحد من آيات الله لديه حرية التفكير والكلام في فتاويه وفي مدرسته مع طلابه. وللتدليل على أن الحوزة العلمية بقم تستعصي على الأحكام المسبقة، وتتحول بغمضة جفن، بات نجمها السياسي الصاعد الآن هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام وعضو مجلس الخبراء. فإذا كان اسم محمد خاتمي أكثر اسم يتردد في طهران بدون أن تطلب ذلك، فإن اسم رفسنجاني أكثر اسم يتردد في قم بدون أن تطلب ذلك أيضا.  رفسنجاني، الذي قال آية الله صانعي عنه انه عندما كان يأتي إلى الحوزة قبل سنوات للقاء طلاب الحوزة وأهالي قم قبل الانتخابات، كانت تنشب مواجهات اعتراضا على وجوده في الحوزة، صوت له في انتخابات مجلس الخبراء الأخيرة طلاب ورجال دين محافظون من الحوزة ليس أقلهم حجة الإسلام محسن غرفيان أبرز تلاميذ آية الله مصباح يزدي الأب الروحي لأحمدي نجاد. وعندما سألت «الشرق الأوسط» غرفيان لماذا صوت لرفسنجاني وليس لأستاذه يزدي رد كأرسطو قائلا: أفلاطون أستاذي، لكن أحب الحقيقة أكثر.   صانعي لم يكن متحمسا فقط لفكرة الشعبية التي بات رفسنجاني يتمتع بها في الحوزة، بل أضاف لـ«الشرق الأوسط» ان إيران تحتاج إلى رجال مثل رفسنجاني، لديهم خبرة في الإدارة السياسية، وانه في الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن يصوت الإيرانيون لرفسنجاني أو لشخص مثله.   وتستغرق سنوات الدراسة في الحوزة العلمية بقم العمر كله تقريبا لمن يريد أن يبلغ أعلى مرتبة وهي آية الله. أما من يريد أن يرى أشياء أخرى في العالم غير قم، فيمكن أن يكتفي بما بين 3 إلى 5 أعوام من الدراسة للحصول على شهادة «مبلغ». ويبدأ طلاب الحوزة العلمية دراستهم بدراسة الفقه وعلم الكلام والحديث والتفسير والفلسفة والأدب العربي. بعد ذلك يبدأون المرحلة الثانية (المتوسطة) وتسمى «سطح» وهي تشير للقراءة مباشرة من الكتب والتعلم منها، وبعد ذلك يتعلم كيفية الحكم المنطقي، وعادة ما يأخذ الأمر ثماني سنوات للانتهاء من هذه المرحلة الثانية. أما المستوى الثالث والمتقدم فيسمى «خارج» وهو يعني طلاب العلم الذين يدرسون خارج إطار الكتب، وهي مرحلة البحث. وأعلى مرتبتين في الحوزة هما «آية الله» و«مرجع»، وهي رتبة تعطي صاحبها سلطة إصدار فتاوى حول الشؤون اليومية للمسلمين. وبعد القرآن، يعد «المرجع» هو المصدر الثاني في الفقه الشيعي المخول إصدار الأحكام الشرعية. ويجب على كل مرجع أن يكتب ما يطلق عليه «الرسالة» يضمن فيه كل فتاويه الدينية المتعلقة بالشؤون اليومية للمسلمين، ثم تتم طباعته وتوزيعه بين «مقلديه» فيكون مرجعا. وليس كل آيات الله مراجع، بينما كل المراجع آيات الله. فآية الله مصباح يزدي مثلا ليس مرجعا. ومن الظواهر الأساسية في الحوزة تعددية المراجع الدينية، فعلى خلاف الكاثوليك الذين لهم بابا واحد، ليس لدى الشيعة مرجع واحد، بل عدة مراجع، ويرجع للشخص اختيار المرجع الذي يريد تقليده والسير على نهجه في الفتوى. غير أن تعددية المراجع لا تعني فقط أن هناك تنوعا داخل الحوزة العلمية، بل أن هناك كذلك تنافسا بين المراجع المختلفة. فبعض المراجع تكون لهم آراء أكثر تحررا في الموسيقى أو السينما مثلا من مراجع أخرى، وبعضهم يميل للإصلاحيين وآخرون يميلون للمحافظين، والحوزة بهذا المعنى مكان مسيس جدا، فشؤونها الدينية تختلط مع شؤونها السياسية. وبسبب تعددية المراجع تتعدد وجهات النظر وتتصادم، وهي قد تتصادم لدرجة سجن أحد المراجع الكبيرة بسبب أفكاره. ومن آيات الله الذين تم وضعهم قيد الحبس المنزلي آية الله صادق روحاني بعدما وجه انتقادات إلى آية الله منتظري عقب ترشيحه من قبل مجلس الخبراء في إيران لخلافة الخميني كمرشد أعلى لإيران. وخلال فترة وضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله كتب خطابا مفتوحا إلى الرئيس الإيراني ساعتها هاشمي رفسنجاني، منتقدا سياساته الاجتماعية التي قال إنها تتناقض مع فتاويه، ومن ضمن هذه الفتاوى تحريم الشطرنج والموسيقى. كذلك وضع آية الله محمد الشيرازي قيد الإقامة الجبرية في منزله بقم بعد فتوى تحرم على الإيرانيين مقاومة الجيش العراقي خلال الحرب مع العراق، على أساس تحريم إراقة دماء المسلمين. إلا أن المرشد الأعلى لإيران ساعتها آية الله الخميني قال إن فتوى الشيرازي تهديد لأمن إيران، وأمر بوضعه قيد الحبس المنزلي. كذلك تم وضع مرجع آخر وهو آية الله حسن الطباطبائي في الاعتقال المنزلي لمعارضته للحرب العراقية ـ الإيرانية. وتشمل قائمة آيات الله الذين وضعوا قيد الاعتقال المنزلي آية الله كاظم شريعتمداري لدوره المفترض في محاولة الانقلاب على الحكومة الإيرانية عام 1982، وآية الله محمد طاهر شبير خاقاني لدوره المزعوم في مساعدة العراق 1980، وآية الله منتظري لانتقاداته المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي عام 1997، وآية الله يعقوب الدين رستجاري بسبب كتابه ضد السنة، والذي أدى إلى اضطرابات في مناطق السنة بإيران 1994. ومنذ 2003 ليس هناك مرجع إيراني كبير قيد الاعتقال المنزلي. وللنساء نصيب في الحوزة، فلهن مدرسة خاصة بهن، وهن يدرسن كل علوم الدين التي يدرسها الرجال، ويدرسن بنفس النظام ويمكن أن يحصلن على مرتبة «مبلغة»، أو «مجتهدة»، ومن حقهن الفتوى.    وللغالبية العظمى من آيات الله مواقع انترنتية بثلاث لغات على الأقل هي الفارسية والعربية والإنجليزية. وفي المواقع المختلفة يمكن أن تجد أسئلة وفتاوى تتعلق بكل شيء، بدءا من المسائل الفقهية التقليدية، وحتى حكم الـ chat على الانترنت، والزواج وعلاقات الصداقة عبر الانترنت، ونسخ الـ«دي في دي» والـ«سي دي» من الانترنت بدون إذن، ومسائل حقوق الملكية الفكرية. الحوزة العلمية في قم ليست هي الحوزة الوحيدة، فهناك الحوزة العلمية في النجف، والحوزة العلمية في لندن، وهي على نفس نمط الحوزة في قم، وحوزة الإمام الحسين في كندا، وحوزة القيم (نسبة إلى الإمام القيم المهدي) وهي في تكساس بأميركا، ويذكر موقعها على الانترنت أنها تتبع نفس خط الدراسة الذي تتبعه كل من الحوزة العلمية في النجف وقم. واللغات السائدة للتدريس في الحوزة هي الفارسية والعربية والتركية، لكن لغات البحث تشمل الإنجليزية والفرنسية.

 وعندما تتكلم مع رجال الدين في الحوزة العلمية أو طلاب علم تتردد ببساطة على ألسنتهم أسماء أرسطو وأفلاطون وسقراط وديكارت وهابرماس وغيرهم من فلاسفة المنطق، جزء من هذا يعود تاريخيا لفكر المعتزلة القائم على التأويل والاستنطاق والاستدلال، والجزء الآخر يعود إلى برنامج تعليمي يموله المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي لإرسال طلبة الحوزة للدراسة في الخارج، بما في ذلك أميركا. وعندما سألت احد رجال الدين في قم حول الموضوع نظر مستغربا وقال إن السنة لديهم أفكار تقليدية عن الحوزة، فالحوزة مكان منفتح على الأفكار من كل مكان في العالم، على حد تعبيره. بعد يوم في قم، عرفت ما الذي كان يقصده. فالحوزة تضم إصلاحيين وليبراليين ورجال دين محافظين، ورجال دين محافظين جدا، وبراغماتيين يبدون هم الأقوى الآن.

* غدا: الحوزة وأسرارها وولاية الفقيه ومشاكلها