بوش اعتمد على وثائق إيطالية مزورة لشن الحرب على العراق

فرنسا أكدت لمحققين أميركيين أن النيجر لم تقم ببيع أي يورانيوم لصدام حسين.. ولم يصدقها أحد

TT

كان الوقت الثالثة صباحا في إيطاليا، واليوم هو التاسع والعشرون من يناير(كانون الثاني) 2003، حينما بدأ الرئيس بوش بقراءة خطابه السنوي (حال الأمة)، وفيه تضمن هذه الجملة الشهيرة: «علمت الحكومة البريطانية أن صدام حسين حصل على كميات معتبرة من اليورانيوم من أفريقيا».

وكان على المراسلة المحققة اليزابيتا بوربا من صحيفة «بانوراما» الإيطالية أن تنتظر حتى اليوم التالي لقراءة شهادات الصحف عن ملاحظة بوش. لكنها حينما جاء إلى الكلمة ما قبل الأخيرة، انتابها شعور غريب في المعدة، وتساءلت باندهاش: كيف يمكن لرئيس أميركي أن يشير إلى بيع اليورانيوم من أفريقيا؟

وشعرت بوربا بعدم الراحة لأنها أعادت، قبل ثلاثة أشهر عن خطاب بوش وثائق تتعلق ببيع مزعوم لليورانيوم من دولة النيجر الأفريقية، إلى السفارة الأميركية في روما. وتعلم الآن أن الوثائق كانت مزورة وأن ما قاله جورج بوش في خطابه كان خاطئا. مع ذلك، فإن زعم بيع اليورانيوم سيصبح تبريرا أساسيا في غزو العراق الذي بدأ خلال أقل من شهرين لاحقا. وحينما لم تجد الوحدات المحتلة أي برنامج نووي أصبحت كلمات بوش الست عشرة بؤرة الهجوم بالنسبة للمنتقدين في واشنطن والعواصم الأجنبية للضغط على دفع القضية ضد تلاعب البيت الأبيض في الحقائق كي يجر الولايات المتحدة إلى الحرب.

وأظهرت عشرات المقابلات مع مسؤولي استخبارات حاليين وسابقين وصناع القرارات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، أن إدارة بوش لم تأبه بمعلومات أساسية كانت متوفرة آنذاك تظهر أن الزعم بوجود اتفاق بين العراق والنيجر للحصول على اليورانيوم، هو مثار شكوك وتساؤلات.

ففي فبراير(شباط) 2002 تسلمت سي آي أيه نصا مكتوبا بخط اليد لإحدى الوثائق مملوءا بأخطاء يمكن اكتشافها بسهولة من خلال أي بحث بسيط عبر الانترنت، كما أوضحت المقابلات الصحافية. وكان الكثير من مسؤولي الاستخبارات ذي المراتب الوسطى والدنيا متشككين من أن العراق يسعى حقا للحصول على أسلحة نووية.

كذلك أظهرت المقابلات أن فرنسا التي تعرضت لتوبيخ قاس من قبل إدارة بوش لمعارضتها للحرب في العراق، قامت بالتحقيق بما يخص صفقة اليورانيوم كما طلبت منها وكالة الاستخبارات الأميركية، واتضح لديها أن مستعمرتها السابقة: النيجر لم تقم بعقد أي صفقة للعراق.

وكانت بوربا، التي لا تمتلك أي خبرة في تكنولوجيا الذرة أو في الشؤون الأفريقية، قادرة على كشف هذه التزوير بسرعة. مع ذلك فإن المزاعم التي بقيت مع إدارة بوش لأشهر، تسربت أخيرا في خطاب حال الأمة الذي ألقاه الرئيس بوش. ونتيجة لفشل سي آي ايه في إسقاط قيمة الوثيقة المزورة بشكل قاطع والتي سبق أن تسلمتها في فبراير 2002، دعي السفير الأميركي السابق جوزيف ويلسون للتحقيق في هذا الزعم. وجاء القرار في نهاية الأمر إلى تشكيل مجلس خاص للتحقيق، وهذا كشف الطريقة الداخلية لعمل البيت الأبيض وانتهى بإصدار حكم قضائي ضده وأجبر على الاستقالة باعتباره رئيسا للموظفين في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني.

وقالت بوربا وهي تتكلم عن مشاعر الضيق الناجمة عن دورها في إعطاء الملف للأميركيين: «أنا شعرت بالغضب. أنت تعرف أن وثائقي مع الوثائق التي جلبتها لهم كانت وراء تبرير الحرب»؛ ففي بداية أكتوبر(تشرين الاول) 2002 اتصل رجل بطريقة غامضة هاتفيا باليزابيتا بوربا في مكتبها بميلان. قال لها: «هل تتذكرينني؟» إنه روكو مارتينو أحد المصادر القديمة الذي أثبت أنه موثوق به في الماضي. وهذه المرة كان يحاول بيعها معلومات جديدة. قال مارتينو إنه يمتلك وثائق شيقة يريد أن يريها، وسأل فيما إذا كانت تستطيع أن تسافر إلى روما فورا.

خلال لقائهما في مطعم بروما يوم 7 أكتوبر، كشف مارتينو ملفا مملوءا بوثائق لبوربا وأكثرها كانت بالفرنسية. وكانت إحداها وكأنها مرسلة من رئيس النيجر إلى الرئيس العراقي صدام حسين، يؤكد فيها الاتفاق على بيع 500 طن من اليورانيوم إلى العراق سنويا. وكانت تلك الوثيقة هي الاثبات ضمن رزمة الوثائق التي استخدمت للتأكيد على مسعى العراق لشراء اليورانيوم الذي سيكون على الأكثر من أجل برنامج لصنع أسلحة نووية: العراق لم يكن يمتلك مفاعلات نووية.

عرفت الوثيقة لاحقا باسم «الرسالة الإيطالية» على الرغم من أنها كانت مكتوبة بالفرنسية. وكانت مكتوبة بالحروف الكبيرة في شكل تلكس قديم ويحمل شعار جمهورية النيجر. وتحمل تاريخ 27 يوليو(تموز) 2000، وتتضمن ترسا غريبا مع شمس مشرقة محاطة برأس حيوان ذي قرنين ونجمة وطير. وضع على الرسالة ختم مكتوب سري وعاجل. وقالت الرسالة: «سيتم شحن 500 مليون طن من اليورانيوم سنويا للعراق خلال مرحلتين» وتحتها كتب «مكتب رئيس جمهورية النيجر» وفوق الختم كان هناك توقيع بالكاد يمكن قراءته لرئيس جمهورية النيجر، مامادو تانديا. استمعت بوربا من دون أن تقول أي شيء وهي تتطلع في الوثائق. وأدركت فورا أن المواد ساخنة إذا كانت حقيقية. لكن اثبات الأصل سيكون عملا صعبا. لكنها لم ترد أن تقع في المصيدة.

أجرت بوربا اتفاقا مع مارتينو مفاده أنها ستأخذ الوثائق وفي حالة التوثق من صحتها فانهما سيتكلمان عن المكافأة. وفي مكتبها بميلان أخبرت بوربا محرريها أنه من المنطقي السفر إلى النيجر للتوثق من صحتها. فوافق رئيس تحرير المجلة كارلو روسيلا. ثم اقترح لاحقا أن يقوموا باتباع طريق مواز آخر. قال روسيلا: «دعينا نذهب إلى الأميركيين لأنهم يركزون حاليا على العثور على أسلحة الدمار الشامل أكثر من أي طرف آخر. دعينا نرى إن كانت الوثائق حقيقية». اتصل روسيلا بالسفير الأميركي في روما ونبه المسؤولين كي يتوقعوا زيارة بوربا للسفارة.

وفي يوم 9 أكتوبر أخذت بوربا سيارة تاكسي إلى السفارة الأميركية في روما. وهناك التقى بها أولا موظف يعمل في قسم الإعلام. ثم تم تقديمها إلى إيان كيلي المتحدث باسم قسم الإعلام في السفارة. قالت بوربا لكيلي إنها تمتلك وثائق حول العراق وشحنات اليورانيوم وهناك حاجة للتوثق من صحتها. قاطعها كيلي، وقام بمكالمة هاتفية طالبا من شخص القدوم إليه، إضافة إلى دعوة مسؤول سياسي في مكتبه. تتذكر بوربا أن شخصا ثالثا دعي أيضا وقد يكون الملحق العسكري الأميركي في السفارة. لكنها لم تعرف أسماءهم.

قال كيلي: «دعونا نذهب إلى مكتبي». وبعد أن تحدثت الصحافية الإيطالية مع كيلي وزملائه لفترة قصيرة سلمت الأوراق. قال كيلي لها إن السفارة ستتدارس الموضوع. لكن كيلي لم يخبر عما كان الآخرون في السفارة يعرفون.

دور وكالة الاستخبارات المركزية

* واحد من الاشخاص الذين رفضوا الالتقاء ببوربا كان رئيس وكالة الاستخبارات المركزية؛ فبعد ايام من هجمات 11 سبتمبر(أيلول) 2001 في الولايات المتحدة بعثت وكالة الاستخبارات الايطالية «سيسمي» بمعلومات حول محاولة بيع يورانيوم للعراق. وطلب رئيس محطة مزيدا من المعلومات واعتبرها فيما بعد قضية مبالغا فيها. وفي 15 اكتوبر 2001 كتبت ضابطة التقارير في وكالة الاستخبارات المركزية في السفارة، تقريرا مختصرا معتمدا على معلومات سيسمي، ووقعته وأرخته، وبعثت به الى ادارة العمليات في لانغلي، مع نسخ الى اقسام الوكالة الاوروبية وفي الشرق الادنى. وحدت ضابطة التقارير من توزيع التقرير لأن المعلومات الاستخبارية لم تكن مؤكدة، وكانت على وعي بسجل سيسمي المثير للشكوك ولم تؤمن بأن التقرير يستحق تحليلا واسع النطاق.

وبعثت ادارة العمليات بالمعلومات الخام الى ادارة الاستخبارات في وكالة الاستخبارات المركزية والوكالات الأخرى مثل وكالة استخبارات الدفاع. وقد تم اعداد نسخة منقحة يطلق عليها «ملخص استخباري لكبار التنفيذيين» في لانغلي بعد ثلاثة ايام ذكرت فيه وكالة الاستخبارات المركزية الاستخبارات الجديدة، ولكن اضافت تحذيرات. وأشارت المذكرة السرية، التي كان توزيعها محدودا بين كبار صانعي القرار السياسي وأعضاء لجنة الاستخبارات في الكونغرس الاميركي، الى انه لا توجد اثباتات، ولاحظ التقرير ايضا ان العراق «ليست لديه تسهيلات لمعالجة وتخصيب المواد».

تعزيز الادعاء الأفريقي

* وبعد 4 شهور وفي 5 فبراير 2002، تلقت وكالة الاستخبارات المركزية مزيدا من المعلومات من سيسمي، تشمل النص الحرفي لواحدة من الوثائق. وفشلت وكالة الاستخبارات المركزية في اكتشاف انها مليئة بالأخطاء، بما في ذلك اخطاء في التهجئة وأسماء خاطئة لعدد من المسؤولين الرئيسيين. إلا ان تقريرا منفصلا من وكالة استخبارات الدفاع حول الادعاءات، هو الذي دفع تشيني الى المطالبة بمزيد من التحقيقات. وتلبية لذلك، بعثت وكالة الاستخبارات المركزية بويلسون الى النيجر.

وتصادف لقاء مارتنيو ببوربا بعد 8 أشهر بالرسالة الايطالية بتصعيد الاستعدادات الاميركية للحرب؛ ففي 7 اكتوبر 2002، وفي نفس اليوم الذي قدم مارتينو لبوربا الملف، شن الرئيس بوش حملة علاقات عامة متشددة ضد العراق؛ ففي خطاب في سينسيناتي اعلن ان العراق تحت حكم صدام حسين يعتبر «تهديدا خطيرا» للأمن الوطني الأميركي. وحذر الرئيس «انه ينتج ويعالج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وهو يسعى للحصول على الأسلحة النووية».

وقد فحص مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك جورج تنيت نص خطاب بوش، وتمكن من إقناع البيت الابيض بترك ادعاء مثير للتساؤل: وهو ان العراق يسعى للحصول على يورانيوم من أفريقيا. وأوضح تنيت لمجلس الأمن الوطني وكتاب خطابات الرئيس ان المعلومات مثيرة للشكوك. وتخلى بوش عن ادعاء شراء اليورانيوم، ولكنه عزز تهديدات القنابل. وقال في سينسيناتي انه اذا ما حصل صدام حسين على يورانيوم صالح للاستخدام العسكري في حجم كرة صغيرة يمكن ان تصبح لديه قنبلة نووية في خلال عام. وقد كشف عن هذا اليورانيوم قبل عدة أسابيع في 26 اغسطس(آب) على يد تشيني؛ ففي خطاب في ناشفيل الي المؤتمر الوطني 103 لمخضرمي الحروب الاجنبية، اعلن بلا تردد ان حسين «استأنف جهوده للحصول على اسلحة نووية». وفي 16 اكتوبر، جلست بوربا في الطائرة في طريقها الى النيجر، بينما وضعت الرسالة الايطالية والملف الذي يصحبها على طاولة اجتماعات مشتركة حول انتشار الاسلحة النووية استضافته وزارة الخارجية.

وفي تلك النقطة، قرر محللو وزارة الخارجية أن الوثيقة مزورة، وقدموا أدق تقييم لبرنامج الاسلحة العراقي بين 16 وكالة تمثل كل قطاع الاستخبارات الاميركي. لكن وحدة صغيرة من الاستخبارات في الوزارة تتكون من عدد قليل من المسؤولين في الادارة ليس بينهم كولين باول وزير الخارجية آنذاك، أبدت اهتماما اكبر بتحاليلها، التي تتصادم معظمها مع افتراضات البيت الابيض. وبالرغم من ذلك فقد شارك مكتب وزارة الخارجية مع المسؤولين الاستخباريين الذين حضروا الاجتماع حول الوثائق المزورة، بمن في ذلك ممثلون من وزارة الطاقة ووكالة الأمن القومي ووكالة الدفاع. وحضر 4 من وكالة الاستخبارات المركزية الاجتماع، غير ان واحدا منهم فقط اهتم بالحصول على نسخة من الرسالة الإيطالية. وعاد الى مكتبه، وأرشف المواد في خزانة ونساها.

وتجدر الاشارة الى ان موضوع يورانيوم النيجر لم يكن يحظى بأهمية كبري بالنسبة لمحللي وكالة الاستخبارات المركزية. وكان على البعض منهم التعامل مع القضية على أي حال. لأن تشيني ومساعده ليبي وبعض المساعدين في مجلس الأمن القومي طالبوا مرارا وتكرارا بمزيد من المعلومات ومزيد من التحليل.

الكشف عن التزوير

* ووصلت بوربا الى نيامي عاصمة النيجر في 17 اكتوبر وبدأت بملاحقة الأدلة الموجودة في الرسالة الايطالية. وتابعت تحقيقات بوربا سلسلة من التحقيقات المماثلة أجراها ويلسون، السفير السابق، الذي حقق في القضية باسم وكالة الاستخبارات المركزية قبل 8 أشهر وأصبح من الواضح ان النيجر غير قادرة على شحن، سرا، كميات عجينة اليورانيوم الصفراء الى العراق او أي مكان آخر.

ووجدت بوربا ان شركة فرنسية تسيطر على تجارة اليورانيوم وان أي شحنة من اليورانيوم يمكن ملاحظتها. وإذا ما جرى بيع يورانيوم، فإن المهمة اللوجستية ستكون صعبة. وقالت «كانوا سيحتاجون الى مئات من الشاحنات». أي نسبة كبيرة من الشاحنات في النيجر. وكان من المستحيل اخفاؤها.

وعادت بوربا الى ميلانو وقدمت اكتشافاتها بالتفصيل الى رئيسها. ولم تؤمن بالأدلة التي قدمها مارتينو واعتبرتها مستحيلة. ووافق رؤساؤها: لا توجد قصة صحافية. وبعد 5 أشهر وفي 7 مارس(آذار) 2003 بلغت الاستعدادات لغزو العراق مراحلها الاخيرة، وأبلغ مدير وكالة الطاقة النووية محمد البرادعي مجلس الأمن ان التقارير التي تشير الى ان العراق يشتري اليورانيوم من النيجر معتمدة على وثائق مزورة. وتلقت الوكالة الوثائق من الولايات المتحدة قبل عدة أسابيع.

وبعد فترة ليست بالطويلة عقب الغزو، بدأت وسائل الاعلام في ايطاليا وفي أماكن اخرى في أوروبا ثم في الولايات المتحدة، الى الاشارة الى ان مصدر المعلومات بخصوص عجينة اليورانيوم الصفراء كان عبارة عن مجموعة من الرسائل المزورة وغيرها من الوثائق سلمت قبل عدة أشهر الى مراسل صحافي ايطالي غير معروف، الذي سلمها بدوره الى الولايات المتحدة.

وبالرغم من ان بوربا تعلم ان ادارة بوش تلقت معلومات اخرى بخصوص الوثائق المزورة من الاستخبارات الايطالية، فإنها تمنت لو انها تصرفت مبكرا للكشف عن التزوير. ولا يزال من غير الواضح من الذي زور تلك الوثائق. مسؤولون استخباريون يقولون ان من المرجح ان المسؤول هي عناصر مارقة في سيسمي أرادت الحصول على أموال مقابل بيعها.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)