إرث شيراك: التهديد بفيتو العراق والوقوف الدائم إلى جانب العرب

الرئيس الفرنسي قد ينشئ مؤسسة باسمه تعنى بشؤون البيئة والتنمية المستدامة

TT

بعد أربعين سنة من العمل السياسي، 12 سنة منها في رئاسة الجمهورية الفرنسية، يغادر جاك شيراك ظهر اليوم قصر الاليزيه الذي يسلم مفاتيحه للرئيس الجديد نيكولا ساركوزي. وليل أمس، توجه شيراك الى مواطنيه للمرة الأخيرة بصفته رئيسا للجمهورية لتوديعهم أولا وليذكرهم بـ«القيم الأساسية» التي انطلقت منها سياسته في الداخل والخارج، وليودعهم «وصيته» للسنوات القادمة. وكان قبل أسابيع قليلة، قد أصدر خطبه ولقاءاته ومؤتمراته الصحافية الرئيسية في مجلدين: الأول يحمل عنوان «معركتي من أجل السلام» والآخر «معركتي من أجل فرنسا». وبعكس الرئيس السابق فرنسوا ميتران الذي كان يهتم في حياته بالصورة التي ستبقى عند الفرنسيين بعد مماته، فإن شيراك لا يحب كثيرا الحديث عن «المحصلة» أو عن «الأثر» الذي سيتركه بعد مغادرته القصر الرئاسي. وكلما سئل في الأعوام الأخيرة عن «إنجازاته» كان يجيب باستمرار أنه «يهوى العمل بالدرجة الأولى». وبالنظر الى «إرث» شيراك الدبلوماسي، فإن هناك ثمة إجماعا في فرنسا على اعتبار أن «الضربة» الدبلوماسية الكبرى لشيراك كانت وقوفه بوجه الرئيس الأميركي جورج بوش في الفترة التي سبقت الحرب الأميركية على العراق، وتهديده باللجوء الى مجلس الأمن الدولي واستخدام حق النقض لمنعه من الحصول على تفويض دولي يمكنه من ضرب العراق تحت راية الأمم المتحدة. وتزعم شيراك منذ خريف عام 2002 «جبهة الرفض» متوكئا على المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونجح في تعبئة مجلس الأمن وحرمان واشنطن ولندن من تجميع أكثرية كافية تسمح بتمرير القرار الذي كانت واشنطن ولندن تبحثان عنه.

ويقول الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس: «في هذه المسألة، لم يظهر شيراك الشجاعة فقط بل تميز بنفاذ الرؤية. كان شجاعا إذ تصدى لأول قوة في العالم، وكان بصيراً لأنه رأى مسبقا النتائج الكارثية المترتبة على الحرب مثل توسيع الهوة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي وتهميش القضية الفلسطينية وتعميق اهتزاز المنطقة واستقواء الإرهاب». وبنتيجة هذه المواقف، اكتسب شيراك شعبية متناهية ليس فقط في العالم العربي والإسلامي، بل في كل مناطق العالم. وإذا كان صحيحا أن شيراك استهلك الكثير من طاقته، عقب إعادة انتخاب بوش رئيسا لإصلاح العلاقة مع واشنطن، فإن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في الدفاع عن عالم متعدد الأقطاب والدعوة الى تقوية دور الأمم المتحدة في إدارة النزاعات في العالم. وفي آخر سنوات عهده، اهتم شيراك بالأوبئة والأمراض المعدية التي تضرب العالم، وسخر الدبلوماسية الفرنسية وبنجاح للدفع باتجاه تأسيس رسم قيمته يورو واحد على مبيعات بطاقات الطائرات عبر مجموعة كبرى من دول العالم. ونجح شيراك في حمل الأمم المتحدة على تبني هذه المبادرة التي تستفيد منها الدول الأفريقية والفقيرة بالدرجة الأولى من خلال توفير الأدوية الضرورية لمعالجة الآفات الكبرى مثل الإيدز والجدري وغيرهما.

أما آخر معارك شيراك فتتمثل في الدفاع عن البيئة. وفي العام الماضي، دعا الرئيس الفرنسي الى مؤتمر دولي في باريس بتبني ما سمي «ميثاق باريس» للدفاع عن البيئة ومحاربة الاحتباس الحراري. ومن المقترحات التي أسفر عنها المؤتمر إنشاء منظمة الأمم المتحدة للبيئة التي قيل إن شيراك يريد أن يكون يوما ما أمينا عاما لها. وبانتظار ذلك، فإن الرئيس الفرنسي سينشئ قريبا جدا مؤسسة تحمل اسمه مهمتها الاهتمام بالبيئة والتنمية المستدامة. وبذلك يلحق شيراك بالرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون والأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان. ومن المتوقع أن يلحق به رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بعد مغادرته رئاسة الحكومة أواخر الشهر القادم.

من الواضح أن شيراك يخلي المسرح الدولي تاركا وراءه «أثرا» إيجابيا في العالم العربي أو في أكثر دوله على الأقل. فقد كان إلى جانب العرب عندما أطلقت الولايات المتحدة دعوتها لإقامة شرق أوسط جديد. وكان شيراك من المدافعين عن ضرورة أن ينبع التغيير من الداخل وألا تفرض القيم الغربية بما فيها الديمقراطية من الخارج. واستمر شيراك في السير على نهج سابقيه في ما سمي «سياسة فرنسا العربية». ويتذكر الفلسطينيون زيارته الشهيرة الى القدس وغضبه بوجه رجال الأمن الإسرائيليين في عام 1996 الذين حاولوا إعاقة تحركه في أسواق القدس القديمة بحجة حمايته. كذلك يتذكرون حملته على رئيس حكومته السابق ليونيل جوسبان بعد زيارته المتوترة الى الأراضي الفلسطينية في فبراير (شباط) 2000. وفي كل المراحل، وقف شيراك الى جانب السلطة الفلسطينية وأنزل ياسر عرفات في آخر أيامه في مستشفى عسكري في محاولة لإنقاذ حياته. وفي كل سنوات حكمه، لم يمل شيراك من الدعوة الى مؤتمر دولي لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وبعد إنشاء اللجنة الرباعية، لم تتوقف الدبلوماسية الفرنسية عن الدعوة الى أن تتحمل مسؤولياتها وأن تدفع باتجاه تطبيق «خريطة الطريق»، ولكن دون جدوى؛ إذ أن واشنطن كانت مشغولة بشيء لآخر. ولكن يؤخذ على شيراك استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارييل شارون في قصر الاليزيه فيما الأخير كان يبني حائط الفصل في الضفة الغربية ويسرع إقامة المستوطنات. كما يؤخذ عليه دعمه انسحاب إسرائيل الأحادي من غزة وحدها واعتبار ذلك خطوة إيجابية بينما كان واضحا أن إسرائيل تريد ترك غزة لتفرض قبضتها بشكل أقوى على الضفة الغربية.

وفي لبنان، كرس شيراك الكثير من وقته وبالتعاون مع الرئيس بوش لإخراج السوريين من لبنان ولإقرار إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري الذي كانت تربطه علاقات صداقة قوية. وحتى آخر يوم من ولايته، عمل شيراك لاستصدار المحكمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وعمد الى جمع الرئيس المنتخب مع النائب سعد الحريري، داعيا ساركوزي الى جعل الملف اللبناني من ضمن أولوياته الدبلوماسية. وبعد أن كان شيراك من «عرابي» الرئيس السوري بشار الأسد الذي استقبله في قصر الاليزيه بمناسبة قيامه بزيارة دولة إلى فرنسا، ابتعد عنه شيئا فشيئا وجمد أية اتصالات دبلوماسية مع سورية ودفع الاتحاد الأوروبي الى الالتزام بهذا الموقف.