جنازة فارس «الإنصاف والمصالحة» تبرز صورة المغرب المتصالح مع ذاته

إدريس بن زكري حقق المصالحة في بلاده حيا وميتا

TT

دموع حارقة وعناق حار بين أصدقاء جمعتهم، بالمعارض والمعتقل السابق الراحل، ادريس بن زكري، أحلام الثورة، وبرودة الزنازين، وقساوة ضربات الجلاد، وتقاسموا معه طيلة سنوات خيبة الآمال القديمة، كما جمعتهم به تجربة «الإنصاف والمصالحة»، وملفات حقوق الإنسان والحلم بغد مشرق.

كان باب مقر المجلس الاستشاري المغربي لحقوق الإنسان، صباح أول من أمس، يعج بعشرات النشطاء الحقوقيين ووجوه اليسار المغربي القديم والجديد. كان الجميع منشغلا بتصريف الألم الذي فجره رحيل بن زكري، رئيس المجلس، فجأة إلى كلمات عزاء ومواساة ومحاولة لتذكر اللحظات الجميلة التي تشاطروها مع صديق حميم رحل ولن يعود.

تحركت السيارات الخاصة وعدد كبير من الحافلات صوب قرية طالما ترددت على الألسنة، رغم أن البعض يهتم بها لأول مرة، إنها خميس آيت واحي، التي أوصى بن زكري أن يدفن بها، إلى جانب قبر والدته في مقبرة تقع على ربوة صغيرة. يكاد لا يوجد أي أثر على الخريطة لمسقط رأس بن زكري، الذي يبعد عن بلدة تيلفت (جنوب الرباط) بحوالي عشرة كيلومترات، إنها القرية المغمورة التي اكتسبت شهرة بفضل ابنها إدريس، ذاك المعتقل السياسي الصموت ذو الشعر الأسود الطويل، الذي قضى 17 عاما من عمره خلف القضبان بسبب قناعاته الماركسية. يتطلب الوصول إلى قرية آيت واحي المرور بطريق ضيقة ممتدة ذات حواشي حادة تشبة نصل سكين، وعلى طول الطريق كان رجال الدرك المنتشرون على جنبات الطريق يدفعون المارة إلى التساؤل عن سبب هذه الحركية غير العادية، فيجيبهم آخرون أن اليوم جنازة بن زكري، بيد أن علامات الاستغراب ترتسم على محيا بعضهم وكأنهم يسمعون بهذا الاسم لأول مرة.

تلوح قرية آيت واحي من بعيد ببيوتها المتباعدة وسكانها الذين تطل الطيبة من عيونهم، وفي مدخلها انتصبت خيمة كبيرة للعزاء، تماما خلف المنزل الذي ولد به بن زكري قبل 57 عاما. كانت حشود غفيرة من المعزين تحيط بالخيمة التي وقف ببابها الطيبي بن زكري، والد ادريس، الذي ارتدى جلبابا أبيض، بينما رسم الزمن أخاديد عميقة على محياه ذي البشرة السمراء، وبدا الوالد المفجوع غير قادر أن يمنع دموعه من الانهمار. راح الطيبي يتلقى العزاء في ابنه الذي عاش حياة مختلفة تماما عن باقي أبناء البلدة واختاره القدر لحمل مشعل المصالحة بالمغرب.

«انظروا، حتى السماء غائمة هذا اليوم، إن المناخ حزين لوفاة بن زكري»، بهذه العبارة خاطبت لطيفة الجبابدي، عضو المجلس الاستشاري المغربي، نسوة جئن لشد عضدها بعدما رأينها في حالة حزن عميق، قبل أن تدخل في نحيب خافت بين أذرع الناشط الحقوقي إدريس اليازمي من فرط حزنها على رحيل صديقها بن زكري، الذي تعرفه منذ أزمنة الأحلام الحمراء. ولم يستطع الشاعر صلاح الوديع بدوره منع دموعه من الانهمار، فبكى بحرقة مثلما بكى أصدقاء آخرون تقاسموا معه أشياء كثيرة وظلوا إلى جانبه حتى لحظاته الأخيرة.

«عزاؤنا واحد» عبارة تكررت كثيرا في ذلك الصباح الحزين أثناء مصافحة وعناق المعزين لبعضهم البعض، إنهم المعزون الذين كانوا يمثلون اليسار القديم والجديد والأمازيغيون والحقوقيون وعدد من المثقفين والمخرجين السينمائيين، قبل أن يلتحق بهم شقيق العاهل المغربي الملك محمد السادس، الأمير مولاي رشيد، وعدد كبير من الوزراء يتقدمهم الوزير الاول ادريس جطو، ووزير الداخلية شكيب بن موسى، والوزير المنتدب في الداخلية فؤاد عالي الهمة، وآخرون. فجأة، لعلع صراخ وزغاريد وتكبيرات خلف خيمة العزاء، كانت سيارة الإسعاف التي تحمل جثمان بن زكري قد وقفت أمام باب منزل والده، كانت هناك نسوة كثيرات يرتدين ملابسة قروية، ويبكين بحرقة رحيل إدريس، وطفقت امرأة مسنة تضرب صدرها بيديها بينما تزغرد أخريات. كان الزحام يشتد مع مرور الوقت، فلم يستطع رجال الوقاية المدينة اخراج سيارة الإسعاف إلا بصعوبة جمة. انطلقت الجنازة صوب مسجد القرية الذي أطلقت فيه تلاوة القرآن الكريم في انتظار قدوم الأمير مولاي رشيد من أجل الصلاة على جثمان الراحل، وبينما كان الجميع ينتظر وصول الأمير، وقف المئات من البسطاء خلف حاجز أمني يحملون صور الراحل بن زكري، كتب عليها شعار «وداعا أيها البطل»، ويترحمون عليه بصوت عال، وفي تلك اللحظات قدم الجنرال حميدو العنيكري قائد القوات المساعدة، ودخل في عناق مع رفاق لابن زكري، وبجانبه وقف محمد ياسين المنصوري، المدير العام للادارة العامة للدراسات والمستندات (مخابرات عسكرية)، وأحمد غزالي رئيس الهيئة العليا لقطاع المسموع والمرئي، وبعض رموز الإعلام العمومي بالمغرب.

لقد استطاع بن زكري حتى وهو جثة هامدة داخل صندوق جمع مختلف مكونات الطبقة السياسية وأقطاب الدولة، فكان حقا عراب المصالحة حيا وميتا.