نازحو مخيم نهر البارد يتحدثون عن أوضاع مأسوية وسكان مخيم البداوي غاضبون... وينتظرون «دورهم»

عناصر «فتح الإسلام»... نالوا رضى الكبار من خلال صغارهم

TT

كانت «الفرقعة» الصادرة عن عادم سيارة الـ«بيجو 504» القديمة هي الخرق الوحيد لوقف النار في تلك الساعة التي تلت دخول الجيش اللبناني الى المنطقة الشمالية الغربية من مخيم نهر البارد حيث أحكم سيطرته على الاماكن المفتوحة وضيَّق الخناق على جماعة «فتح الاسلام»، كما قال احد الجنود الذين كانوا يأخذون استراحة قصيرة لم تبدد اجواء الاستنفار الشديد التي كانت سائدة.

ترجل «صقر» من السيارة البيضاء، وهو شاب ثلاثيني ضخم الجثة يضع على رأسه عصبة خضراء، والى جانبه شاب آخر معتدل القامة، بعد جولة استعراضية دخل خلالها أبعد مسافة ممكنة باتجاه خطوط الجيش الامامية، ثم عاد الى الخطوط الخلفية حيث تجمع عشرات الشبان الذين صفقوا طويلاً لصقر ، بسبب ما قالوا انه يتعلق بدوره في المعركة الحاسمة.

صقر، الذي لم تعرف خلفيته، كان يضع علماً لبنانياً على سيارته ويتجول بحرية بين مواقع الجيش، لكنه لم يكن عسكرياً. من هو صقر؟ سؤال لم يلق جواباً لدى الجمع الكبير من شبان المنطقة الذين اكتفوا بالقول انه يستحق التصفيق. واشار بعضهم الى انه احد رجال الاستخبارات العسكرية اللبنانية او احد المتعاونين معها.

بعد دقائق من سريان الهدنة، بدأ سكان المخيم بالخروج. فمن سلمت سيارته من القصف استعملها. ومن لم تتوافر لديه وسيلة نقل سار حتى حاجز الجيش، ومن هناك كانت امكانية المساعدة اكبر.

اللحظات الاولى للنزوح لم تكن سهلة. سُجِّلت اصابات عدة بقنص مجهول، بينها فتاة في الخامسة عشرة اصيبت برصاصة في رجلها امام عدسات التلفزة. وصورتها مرشحة لتكون الاكثر استعمالاً في الفضائيات العربية والعالمية. لكن لا يبدو ان الامر كان يعنيها كثيراً في تلك اللحظات، حيث الالم والخوف الشديد. والدتها التي كانت ترافقها قالت لـ«الشرق الاوسط» بعد تلقي ابنتها العلاج في مستشفى «صفد» التابع للهلال الاحمر الفلسطيني ان مصدر النار ليس الجيش ولا المخيم. وما رفضت الافصاح عنه ادعاه كثيرون من سكان مخيمي البداوي والبارد المتجاورين متهمين اطرافاً متعاطفة مع «14 آذار» باطلاق النار على سيارات الاسعاف الفلسطينية وعلى المدنيين ومحاولة تأجيج القتال.

واذا كان الرعب والغضب هما المسيطران في مخيم نهر البارد حيث تجري المواجهات، فان الصورة لا تختلف كثيراً في مخيم البداوي الذي يبعد عنه نحو 10 كيلومترات جنوباً باتجاه مدينة طرابلس، رغم انه آمن وتغيب عن محيطه الاجراءات الامنية الكثيفة. هذه الحال لم تطمئن سكان المخيم الذين عبروا عن غضبهم إزاء قصف المخيم الآخر بإحراق اطارات السيارات وإقفال الطريق التي تمر بمحاذاة المخيم.

تحول البداوي الى خلية طوارئ لاستقبال الاصابات الخفيفة التي تحول الى مستشفى صفد الذي يتسع لـ 30 مريضاً ولا يمتلك غرفة عمليات متطورة، لكنها تفي بالحاجة للحالات التي تصله. فالاصابات البالغة تذهب الى المستشفى الاسلامي في طرابلس.

وغير بعيد عن مدخل المخيم، الذي انشئ عام 1957 على مساحة كبيرة نسبياً مقارنة مع المخيمات الاخرى، وكثافة سكانية اقل مقارنة مع غيره (19198 لاجئاً مسجلاً لدى الامم المتحدة عام 2004)، تجمع عشرات الفلسطينيين لاستقبال سيارات النازحين من نهر البارد. ومع وصول كل سيارة كانت صيحات الاستهجان تصدر عنهم. وكان التوتر الملحوظ لدى السكان يتصاعد، فيما كان عشرات المسلحين ينتشرون في ارجاء المخيم وبينهم فتية لا تزيد اعمارهم عن 15 سنة. وقد حمل بعضهم رشاشات وآخرون قاذفات «آر. بي. جي». وهم لا ينتمون الى جهة حزبية واحدة، بل الى نحو ستة فصائل مختلفة تفرقها السياسة ويجمعها الغضب حيال ما يجري للفلسطينيين. يقول أحدهم: «ربما نحن سنكون الخطوة الثانية... يريدون القضاء علينا ويريدون من المقاومة (يقصد الفصائل) ان تقضي على هؤلاء. ويغرقوننا في حرب داخلية». وتنبري سيدة ثلاثينية لتقول: «نحن مهددون ايضاً وليس سكان مخيم نهر البارد فقط. سيأتي دورنا قريباً. حرام ما يفعلونه بالناس».

روايات الخارجين من المخيم الآخر المحاصر تجمع على رسم صورة قاتمة للوضع داخله. عشرات الجثث تنتشر على الطرق. لا ماء بعد قصف الخزانات، ولا كهرباء ولا طعام.

«غادرت النساء وغادر الاطفال والجرحى وبقي الكثير من الرجال خوفاً من الاجراءات الامنية» يقول عبد الرحمن علي حلوم ،21 سنة، لدى وصوله الى مخيم البداوي في سيارة «فان» حمراء تحطم زجاجها وتشظت بالقصف، شأنها شأن كثير من السيارات التي وصلت الى مخيم البداوي محملة بالنازحين. بعض سكان المخيم استضافوا اقاربهم ومعارفهم. اما الآخرون فقد فتحت لهم المدارس، وبينها المدرسة الثانوية التي تديرها «الاونروا». وقد تولى عناصر من «حماس» احصاء النازحين تمهيداً لمساعدتهم. لكن هذا لم يعجب «مدير المخيم» الذي طلب عدم القيام بأي شيء الا باذن منه... حتى التحدث الى الصحافة.