المخيم تحول إلى ملاذ آمن لـ«الجهاديين» القادمين من العراق والحركات الأصولية تزدهر فيه على حساب العلمانيين

رواية شاهد عيان جال في عين الحلوة في جنوب لبنان

TT

اصبح مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان ملاذا آمنا ليس فقط للجهاديين القادمين من العراق ولكن ايضا للمجرمين المطلوبين من العدالة مثل تجار السلاح.

وعبارة «عاش الزعيم الزرقاوي» مكتوبة على حائط في المخيم في اشارة الى زعيم القاعدة في العراق الذي قتل العام الماضي. وهناك ملصق معلق على عمود اضاءة، يظهر فيه شاب يحمل بندقية امام سيارة «هامفي» محروقة وعليه عبارة «الشهيد الاسد البطل، استشهد في العراق في 2005 وهو يقاتل الصليبيين». مررت بمقاتلين خلال استراحتهما في ظل مبنى وهما يراقبان «الجبهة» وسألتهما اذا كانا يعرفان مكان ابو عمر. وسألني أحدهم وهو يأكل الايس كريم «من يريده؟َ» شرحت لهما اني اعرف ابو عمر، فطلبا مني اللحاق بهما. سرنا عبر مجموعة من الازقة الى ان وصلنا الى ساحة يجلس فيها ابو عمر، محاطا برجاله.

ويبدو ابو عمر وكأنه نموذج عربي من الاله الاسكندينافي «ثور»، فهو طويل القامة ذراعاه ضخمتان، ووسطه رفيع، وذقنه حمراء اللون وشعره طويل، ويعلق على صدره بندقية صغيرة سريعة الطلقات ومسدسين وثماني خزائن رصاص. ولديه خبرة في «الجهاد» في العراق.

رحب بي باللهجة العراقية، وكان قد قال لي ذات مرة ان المسدسين من طراز غلوك ـ وهو من النوع الذي قدمه الجيش الاميركي للشرطة العراقية ـ هما من «غنائم الحرب».

ولد ابو عمر في مخيم عين الحلوة. وولد والده في المخيم ايضا. اما جده فقدم إلى لبنان بعد حرب 1948، كلاجئ فلسطيني من طبريا. وكان شابا صغيرا وعندما بلغ السادسة من عمره حصل على اول درس له في التدريب العسكري في مخيمات تدريب الاشبال التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقال «كنت في الثانية عشرة من عمري عندما غزت اسرائيل لبنان عام 1982. ولم اقاتل كثيرا انذاك ولكن الاحداث ساعدتني على تشكيل المقاتل في شخصيتي. وكنا نحمل الذخيرة للمقاتلين».

وبعد ثلاث سنوات، اصبح مقاتلا متمرسا عندما بدأت الاحزاب الشيعية التي تحظى بدعم سوري في معركة استمرت عامين ضد المخيمات الفلسطينية في منتصف الثمانينات، وفي وسط الحرب الاهلية اللبنانية.

وفي اوائل التسعينات انضم الى الاسلاميين الراديكاليين المعروفين باسم عصبة الانصار. ولكن الحرب في العراق كانت نقطة تحول بالنسبة له فبدلا من القتال ضد جماعات اخرى في المخيم، وجدوا عدوا افضل ـ ومثل العديدين في جميع انحاء الشرق الاوسط، اصبح في امكانهم تحقيق الحلم طويل الانتظار بـ«الجهاد» في العراق.

واليوم تعتبر عصبة الانصار واحدة من اقوى الجماعات في المخيم، وتحصل على كميات كبيرة من الاموال من الشبكات الجهادية في الشرق الاوسط ولديها مجموعات من المتحمسين يتولون تلقين الشباب الجهادي. وتعكس قصة صعودهم وانكماش الحركات العلمانية ما يحدث في الشرق الأوسط ككل.

وقال ابو عمر «اقاتل منذ كنت في السادسة ويمكنني القول ان مقاتلي منظمة التحرير العلمانية اكثر شجاعة من الاميركيين. على الاقل لا يختبئون وراء سيارات الهامفي المدرعة». وقال انه ذهب للعراق ليس كانتحاري ولكن لتدريب العراقيين وغيرهم من الشباب العرب، معظمهم من السعودية ودول الخليج. وأضاف «لقد دمر صدام الجيش العراقي: فقد خلق مجموعة من الضباط السمناء الفاسدين الذين لا يعرفون كيف يقاتلون».

وقال انه شارك في العديد من الهجمات ضد الاميركيين والجيش العراقي. وكانت لمجموعته قاعدة في مدينة تل عفر في شمال العراق الى ان اجبرهم هجوم اميركي على الخروج من المدينة وعاد الى الرمادي. وقد زار العراق مرتين ولمدة 6 اشهر في كل زيارة.

وقال «يقول الناس انه اذا كنت فلسطينيا فلماذا لا اقاتل لتحرير بلادي بدلا من القتال في العراق؟» واقول لهم «انهم نفس الاشخاص، اليهود في فلسطين والاميركيون في العراق، وهم من المحتلين».

وقد حلق ذقنة الطويلة وقدم له العراقيون الذين التقوه على الحدود بطاقة هوية مزورة. وحصل على اسم شيعي.

ومن الواضح انه يفهم اسباب نجاح الجهاديين في المخيم. وذكر «اذا كان الموقف الاقتصادي والامني مستقرا، فإن الحركات الجهادية لا تتواجد. يزدهر الجهاديون فقط عندما يظهر فراغ امن مثلما يحدث في العراق».

ويقف مقاتلو «الايس كريم» خلف ابو عمر باحترام وصمت، فالبعض هم من حرسه الشخصي والبعض الاخر من الاتباع. وادعى أحدهم، وهو طويل القامة، مفتول العضلات يحمل مسدسا حول وسطه، انه بدأ القتال مع الجيش اللبناني في اليوم السابق.

واضاف «لقد سخر الجنود اللبنانيون منا وقالوا لنا: سنقتلك مثلما قتلنا فتح الاسلام (في مخيم نهر البارد) فذهبت لمنزلي مع صديقي واخذنا اسلحتنا وبدأنا اطلاق النار عليهم». وبعد ذلك انضم جهاديون اخرون إليهم. واستمرت معركة على نطاق واسع لعدة ساعات. وقال لي المقاتل الشاب «لقد علمنا ابو عمر كيف نقاتل». التقيت صالح أول مرة في تجمع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مدخل المخيم، وكان يشارك في احتجاج يطالب بإطلاق سراح قياديين فلسطينيين في غزة كان الجيش الاسرائيلي قد سجنهم قبل اسابيع قليلة.

وقد رتبت كراسٍ بلاستيكية في دائرة كبيرة، فيما كان رجل يلقي خطابات بمكبر صوت والقهوة تقدم بأكواب بلاستيكية والجدران مزينة بصور زعماء وشعارات، وكانت هناك بندقية كلاشنيكوف ملفوفة بقطعة ملابس حمراء وضعت الى جانب صورة لقيادي سجين وكأنها باقة زهور. وكانت لافتة معلقة على الجدار تقول «سنقاتل من أجل فلسطين جيلا بعد جيل».

وكان صالح يجلس مع اصدقائه تحت ملصق لقيادي آخر مات. عمره 20 عاما ولكنه يبدو في الـ16 من العمر، صبغ شعره باللون الأشقر البرتقالي من الأعلى وعلق خارطة خشبية صغيرة لفلسطين حول عنقه. ويقول «هذه من الداخل»، مشيرا الى أجزاء فلسطين التي اصبحت اسرائيل عام 1948، وهي مكان أسطوري بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في المنفى منذ زمن بعيد. وهو عاطل عن العمل شأن معظم الشباب هنا وكان قد ترك المدرسة وهو في الثانية عشرة وانتمى الى الجماعة الماركسية الفلسطينية، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان والده وعمه وأمه كلهم شيوعيين.

ويقول، وهو في مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القديم «استيقظ صباحا ثم التحق بأصدقائي. الوضع هنا ممل. وحتى الناس الذين التقيهم اراهم في كل يوم من ايام حياتي. لقد تحدثنا عن كل شيء».

أسأله «هل تخرج من المخيم ؟» فيجيب بالنفي. فأقول «لماذا، فالبحر جميل جدا هنا». فيقول «لا أحب ان اشعر بأنني مثل السمكة خارج الماء. لا أحب الخروج. ففي كل مرة يوقفنا الجنود اللبنانيون عند نقطة التفتيش وينظرون الينا كأننا قطع قذرة».

من الناحية النظرية يمكن للفلسطينيين ان يغادروا المخيم بحرية ولكن في الممارسة العملية يخضعون لضوابط قاسية، خصوصا بعد أحداث نهر البارد. وفي مناسبة اي مشكلة تتعلق بالفلسطينيين في لبنان يعمد الجيش إلى اغلاق المخيم.

وخلال العقود الستة الماضية ظل الفلسطينيون في لبنان على هامش المجتمع ولديهم علاقات صعبة مع اللبنانيين، ويتهمهم البعض بأنهم السبب في الحرب الأهلية ويناهضهم طرف ما في مرحلة أو أخرى. وهم خاضعون لقوانين تمييزية، فحركتهم مقيدة وهم ممنوعون من تملك عقارات ومحظور عليهم العمل في 72 وظيفة محددة. وهذا يعني ان معظم الشباب الفلسطينيين في المخيم عاطلون عن العمل، واولئك المحظوظون في الحصول على عمل لا يحصلون الا على مهن مثل الحلاقة أو قيادة سيارات الاجرة أو أعمال البناء. انهم يعيشون حياة محاصرة.

وفي غضون ذلك فان اجواء غياب القانون داخل المخيم تجعل منه الملاذ المفضل للجهاديين ورجال الميليشيا الآخرين، والكثير منهم مطلوبون من جانب السلطات اللبنانية، التي لا تتمتع بسلطة داخل المخيم (اتفقوا على ترتيبات أمنية مع الأطراف الفلسطينية في اتفاقية القاهرة عام 1969).

أمشي الى بيت صالح. الجدران هي بلوكات جرداء من الاسمنت، وأمه، الثورية اليسارية السابقة، تجلس في الفناء تقشر البطاطا. ويلف رأسها حجاب محكم.

وتروي غرفة صالح قصة كل الثورات والهزائم في الشرق الأوسط. انها صغيرة اذ تبلغ مساحتها ثلاثة امتار في اثنين. يوجد تمثال برونزي صغير للينين وراية حمراء وصورة تشي غيفارا وصورتان لحسن نصر الله زعيم حزب الله.

وقد يكون من المدهش أن يساريا علمانيا يمكن أن يكون معجبا بحزب ديني مثل حزب الله، ولكن هذا مألوف في مختلف انحاء لبنان والشرق الأوسط. وهو يقول «انه بطلنا الآن»، مشيرا الى رجل الدين بعمامته السوداء ولحيته الكثيفة. وتوضح رحلة صالح لي قبل ايام قليلة عندما التقي فلسطينيا آخر في بيروت، وهو مقاتل في الخمسينات من العمر وماركسي متشدد، ووجهه مليء بالتجاعيد. وهو يقول «لم أفقد بوصلتي السياسية ابدا. فحيثما يكون الأميركيون والإسرائيليون أكون في الجانب الآخر. ولهذا فانه اذا كان حزب الله والإيرانيون والإسلاميون ضد الأميركيين في الوقت الحالي فأكون اسلاميا عندئذ».

هل هذا سبب آخر يكشف عن نجاحات الاسلاميين؟ سألت ابو عبيدة، وهو زعيم آخر لجهاديين يحملون اسم عصبة الأنصار فقال «كل الحركات الأخرى اثبتت فشلها. العلمانيون والقوميون والشيوعيون فشلوا، وانكشف رياء خطابهم».

وفي مكتب جماعة علمانية حاول مسؤول كبير توضيح الأمر على نحو أفضل، قال «لدينا شباب لا يملكون شيئا، لا أمل في وطن، ولا أمل في حق اللاجئين في العودة، ولا شيء سوى شارعين في المخيم. وفي هذا الوضع لن يدهشني اذا ما اصبح نصف المخيم من الجهاديين. عين الحلوة هذه دولتكم المثالية الفاشلة».

* خدمة «الغارديان» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»