باكستان.. حرب الداخل (الحلقة الرابعة) ـ جذور العنف في باكستان

الرئيس مشرف يعتمد استراتيجية «الاعتدال المستنير» لمواجهة تطرف الملالي

مظاهرة حاشدة ضد الرئيس برويز مشرف احتجاجا على إقالة رئيس المحكمة العليا (رويترز)
TT

وضعت احداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، باكستان امام تحد مصيري ودقيق هو الاصعب في تاريخها، حيث لم يتهدد سياستها الخارجية فحسب، وانما الداخلية، فقد فرضت التبعات تبني وصفات حازمة لإعادة جدولة هويتها التي انطلقت من جذور اسلامية. وتركزت كل الأنظار على باكستان مرة اخرى عقب الهجمات الانتحارية التي استهدفت شبكة مترو الأنفاق في لندن في 7 يوليو (تموز) 2005، عندما كشف النقاب عن أن اثنين من أربعة من المشتبه بهم، وهما محمد صديق خان وشهرزاد تنوير، كانا لديهما اتصالات مع جماعات أصولية. في هذه الحلقة من سلسلة تحقيقات «باكستان.. حرب الداخل»، التي تنشرها «الشرق الأوسط»، نستعرض اليوم الجماعات الأصولية المحظورة مثل عسكر طيبة، ومقرها مريدكه في البنجاب، وجيش الصحابة، وجيش محمد، وهي حركات من البنجاب اكبر مقاطعات باكستان. وكذلك حركة الانصار التي غيرت اسمها الى حركة المجاهدين، وحركة البدر، ومعظم زعماء تلك الحركات الاصولية المتطرفة من البنجاب. تحولت الأنظار إلى باكستان، مرة أخرى، عقب إحباط السلطات البريطانية مخططا إرهابيا قالت انه كان يستهدف نسف طائرات ركاب بمتفجرات سائلة. وقد رحبت بريطانيا من جانبها بمساعدة إسلام آباد في الكشف عن الشبكة المشاركة في المخطط.

ويعتبر هذا النوع من النجاح سلاحا ذا حدين لإسلام آباد، فهو يسمح للرئيس الباكستاني برويز مشرف بالتأكيد مجددا على أهمية بلاده كحليف بارز في الحرب العالمية ضد الإرهاب، كما يعتبر ما حدث بمثابة اعتراف بأن باكستان لا تزال مركزا للإرهابيين لعدد من الدول. ليست المرة الأولى التي تثبت فيها باكستان انها تربة خصبة للنشاط الاصولي، فالمخطط الإرهابي الذي يعرف باسم «الارهاب السائل»، والذي كشفت عنه السلطات البريطانية العام الماضي، يعد الهجوم الإرهابي السادس الذي كان مزمعا تنفيذه وله صلة بعناصر ذات علاقة بباكستان بصورة أو بأخرى. وهنا يبرز تساؤل حول ما اذا كانت باكستان تبذل جهدا كافيا للسيطرة على الجماعات الاصولية التي تعمل على أراضيها. يقول محللون سياسيون في الشأن الباكستاني ربما ليس من الإنصاف في شيء توجيه اللوم الى باكستان بشأن مخطط أولي للارهاب، معظم المشاركين فيه من بريطانيا حتى لو كانوا من عناصر باكستانية الاصل، لكنهم يعتقدون ان باكستان لا تزال مكانا تتوفر فيه آيديولوجية الإرهاب والتدريب اللازم لتنفيذه، وهذه في حد ذاتها مشكلة كبيرة، على حد قولهم. ويقول ازهر مسعود الصحافي والمحلل السياسي الباكستاني لـ«الشرق الأوسط» ان باكستان ظلت تستخدم الجماعات الإسلامية المتطرفة على مدى فترة طويلة لممارسة ضغوط على دول جوار، مثل الهند وأفغانستان، إلا ان ثمن هذه الاستراتيجية جاء باهظا، على حد وصفه. وأضاف ان «باكستان تحصد الآن نتائج دعمها للجماعات الإسلامية الأصولية على مدى سنوات، بما في ذلك جماعات شاركت في نشاطات إرهابية. ولهذا السبب تظل باكستان في نظر إدارة الرئيس جورج بوش طرفا حاسما وفي أحيان أخرى شريك مخيب للآمال في الحملة ضد الإرهاب. فمساندة الرئيس الباكستاني مشرف العلنية لجهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب لم تكن دائما تدعمها إجراءات عملية. إلا ان ادارة بوش تحجم عن فعل أي شيء من شأنه ان يزيد الضغوط على الرئيس الباكستاني، الذي يقود دولة نووية لديها سلاح نووي، ويقطنها نحو 265 مليون نسمة. ويقول مسؤولون باكستانيون إن بلادهم ظلت حليفا موثوقا ضد الإرهاب، كما أكدوا انه من المستحيل أن تسيطر باكستان على كل من يعمل في أراضيها، وأكد مسؤول طلب، عدم ذكر اسمه، أنهم عندما يحصلون على معلومات تقود الى إلقاء القبض على العناصر الإرهابية، فإن السلطات المعنية تسارع إلى اعتقالهم. فيما يقول مسؤولون غربيون ان على الجنرال مشرف أخد الحيطة والحذر، بعد أن نجا من عدة محاولات اغتيال، آخرها في السادس من يوليو (تموز) الحالي، عندما أطلقت أعيرة نارية من سلاح يدوي الصنع مضاد للطائرات على طائرة الرئيس الباكستاني برويز مشرف، بعد دقائق من اقلاعها من قاعدة عسكرية. ورغم وجود حركات معارضة في الشارع السياسي الباكستاني الا انها لم تصنف كحركات تمرد، باستثناء حركتين، هما حركة القوميين البشتون في المناطق الحدودية، لانها كانت مدعومة من الملك الافغاني ظاهر شاه والهند والاتحاد السوفياتي السابق. وحركة التمرد الثانية هي حركة البلوش القوميين، لان توجههم يساري ماركسي، والبلوش انفسهم كان اتجاههم قومي اكثر منه ايديولوجيا، وكانوا يشعرون بالظلم كقومية بين القوميات التي تشكل المجتمع الباكستاني، ورفعوا السلاح في حركة تمردهم لكنهم قمعوا بالقوة العسكرية في عهد ذو الفقار علي بوتو. وفي ذروة الجهاد الافغاني والتوتر مع الهند نشات الجماعات الكشميرية، حيث كانت في البداية انتفاضة كشميرية شعبية عام 1989، وكانت السمة الغالبة هي المظاهرات، ولم يستخدم السلاح الا في مطلع التسعينات، حيث استفادت الجماعات الكشميرية من حركات الجهاد الافغاني، وأنشأت معسكرات داخل باكستان لتدريب مقاتلين من «حزب المجاهدين» التابعة للجماعة الاسلامية في كشمير، وحركة «عسكر طيبة»، وحركة الانصار المتهمة بانها ذراع القاعدة في كشمير، ومعظم زعماء هذه الحركات المسلحة من منطقة البنجاب، الا ان هذه الحركات كانت تقاتل في كشمير، ولم تستخدم السلاح او العنف داخل باكستان. ومع تفاقم الأوضاع السياسية بين الرئيس الباكستاني برويز مشرف وكبير قضاة المحكمة العليا افتخار محمد شودري وجماعات المحامين المدعومين من احزاب المعارضة بمختلف توجهاتها السياسية، بدأت الحالة الامنية في باكستان في التدهور بطريقة مخيفة. وكان شودري قد أوقف عن العمل بسبب مزاعم عن استغلال النفوذ مارس (آذار)، وقال مؤيدوه إن قرار وقفه عن العمل يعد اعتداء على استقلال القضاء. فيما ذكرت أحزاب المعارضة إن الشرطة داهمت عددا من المنازل، حيث اعتقلت مئات الأشخاص تفاديا لقوع مزيد من عنف الشوارع الذي اوقع نحو 40 قتيلا في كراتشي وحدها. واعرب عدد من الاعلاميين الذين حضروا مؤتمر وزراء خارجية الدول الاسلامية في دورته الـ34 الذي استضافته العاصمة اسلام آباد الشهر الماضي عن استيائهم من كثرة الاجراءات الأمنية، وإصرار رجال الامن على انتزاع هواتفهم الجوالة قبل الدخول الى قاعة المؤتمرات الصحافية، ولم يسلم من تلك المؤتمرات حتى رؤساء الوفود الرسمية، خوفا من استخدام الهاتف الجوال للابلاغ عن موعد دخول او خروج الرئيس مشرف، الذي حضر الجلسة الافتتاحية او رئيس الوزراء شوكت عزيز الذي حضر الجلسة الختامية، وكلاهما حضر موعده متاخرا بنحو ساعتين كنوع من التمويه الامني.

يذكر أن التوتر زاد ايضا عندما قام مسلحون مجهولون بإطلاق النار من سيارتهم على منزل محامي تشودري في كراتشي، وان لم يصب أي شخص في هذا الهجوم. وقد ابدت الحكومة تصميمها رغم كل ما يحدث على المضي قدما في مواجهة من وصفتهم بالقوى المارقة او كما يصفهم الرئيس مشرف في خطاباته بـ«قوى الظلام» التي تريد العبث بمستقبل الامة الباكستانية، ويتّبع الرئيس مشرف ما يعرف باسم سياسة «الاعتدال المستنير».

ومشكلة مشرف اليوم أنه يقع في جانب بين مطرقة اميركا، وسندان تصاعد نفوذ القوى الاسلامية المرتبط بمصالح وطموحات عرقية، وخاصة في المناطق البشتونية والبلوشية، وفي جانب آخر فإن تسيبه وانسياقه في تلبية المطالب الأميركية سيفضي ليس الى انتهاء باكستان كقوة اقليمية فحسب، وانما لتفكك مكوناتها العرقية على أرضية سقوط اسلاميتها كجامع موحد لأعراقها.

وبالرغم من نجاح الرئيس مشرف في تحييد كبريات القوى الاسلامية في بلاده، الا انه فتح عليه غضب هذه القوى الصاعدة في المشهد السياسي في المنطقة الاسلامية، بما تضمه في صفوفها من حلقات ارهابية لا تعرف غير العنف سبيلا للخلاص من خصومها، حيث جرت محاولات عدة لاغتياله عقابا لتحالفه مع الولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب. وليس من المستبعد ان يبقى هدفا لقوى التشدد الاسلامي، اذا ما واصل تعاونه بنفس الوتيرة.

وهناك مؤشرات متضاربة توحي بأنه في مأزق شديد، حيث تدفع الولايات المتحدة باتجاه تعزيز الديمقراطية، وقصقصة اجنحة سلطة العسكر لصالح مناوئيه خاصة في حزب الشعب، الذي تقوده بينظير بوتو، والرابطة الاسلامية بزعامة نواز شريف، وهو معني بمواصلة تحالفه مع واشنطن وبذات الوقت معني بعدم تفاقم الوضع السياسي الداخلي لارتباط تشديد الحملة على الاسلاميين موالي طالبان بتعزيز اصوات المطالبين بالاستقلال في اقليمي بلوشستان والاقليم الحدودي الشمالي الغربي حيث الاغلبية البشتونية. وليس من شك أن باكستان باتت على وعي وادراك عميق بعمق ضعف قدرتها على التسابق مع الهند على النفوذ، وانتقلت للدفاع عن كينونتها، وتسعى جاهدة للنفاذ باقل الخسائر من المشكل الكشميري، ومع ذلك فلا يمكن اغفال حقيقة أن تضييق الخناق على المؤسسة العسكرية وإنهاء دورها سوف يستحثها للجريان عكس التيار، للاقرار بأهمية دوره.

وبغض النظر عما يشاع عن استياء اقتصادي لدى المواطنين، الا انه يحق القول بأن مشرف استطاع قطف ثمار الحرب على الارهاب، في تقليص وطأة الازمة الاقتصادية، وجعلها في الحدود المقبولة، فقد استطاع أن يعيد الثقة لاقتصاد بلاده، حيث وصل احتياطي النقد الأجنبي إلى 12 مليار دولار، بعد أن كان قريباً من الصفر، وتراجع معدل التضخم بصورة كبيرة، بينما يواصل سداد الديون الخارجية التي تصل إلى 35 مليار دولار بانتظام، ويسعى لقاء تعاونه دفع واشنطن التوقيع على اتفاق تبادل حر مع بلاده. وبالتالي فإن تشدد وصفات الديمقراطية، وإنهاء دور العسكر التقليدي في الحياة السياسية الباكستانية دون مغانم اقتصادية، ومغانم سياسية من خلال تحريك للمفاوضات حول كشمير، سوف يدفع الى مزيد من التوتر والانقسام الطولي والعمودي داخل باكستان وفي محيطها.

وأمام تزايد العنف والتفجير في البلاد فقد منعت الحكومة التجمعات السياسية والتظاهرات في عدد من المدن الباكستانية، فيما تدعي المعارضة الباكستانية ان الحكومة بصدد اعلان حالة الطوارئ في البلاد، وهو خيار قد يستدعي ردات فعل اكثر حدة من عدة جهات.

ووضعت مدن في باكستان في حالة تأهب قصوى منذ هجوم انتحاري أسفر عن مقتل منفذ الهجوم و28 شخصاً في مسيرة سياسية ببلدة شارسادا في بيشاور ونجا وزير الداخلية أفتاب شيرباو وكذلك نجله من الهجوم الذي يعتقد أن متشددين قبليين من جماعة بيت الله مسعود يقفون وراءه بحسب خبراء في الشؤون الباكستانية. وجماعة القيادي الاصولي بيت الله مسعود هي نفس الجماعة التي تصدت للجيش الباكستاني عند دخوله جنوب وزير ستان الحدودية، ويقول المراقبون في العاصمة اسلام اباد ان الرئيس مشرف تعرض حتى اليوم الى ثلاث محاولات عمليات انتحارية، وتعرض وزير داخليته شيرباو الى محاولة فاشلة في احد انحاء مدينة بيشاور الحدودية، فيما نجح الاصوليون في اغتيال زلي هوما وزيرة محلية في البنجاب بزعم انها كانت ترتدي ملابس لا تتماشى مع الشرع الإسلامي. وفي كراتشي يظهر التوتر الطائفي بصورة واضحة فهناك البشتون وعرق البنجاب والمتحدثون بالاردو من المهاجرين الذين جاؤوا من الهند قبل عشرين عاما، وهناك اضطرابات وقلاقل عنف لا تنقطع بين المهاجرين والبشتون. ويوجد التوتر بين السنة والشيعة في لاهور ايضا وجينج وجليجيد في الشمال. وعندما اندلعت احداث العنف الاخيرة في كراتشي أرسلت الحكومة 20 الف مظلي لتأمين 10 ملايين من السكان.