ضحايا دعاوى الجهاد في العراق (الحلقة الرابعة) ـ ضحايا التغرير.. من الإقبال على الموت إلى الإقبال على الحياة

76 مليون ريال صرفت على الموقوفين والمفرج عنهم.. و200 شخص ساهم في تقويم أفكارهم

الشايع ورفيقاه الصقعبي والقعيري خلال ممارستهم لعبة البلاي ستيشن (تصوير: خالد الخميس)
TT

يعيش عدد من الموقوفين أمنيا في السعودية، والذين وقعوا ضحايا دعاوى الجهاد وإنكار المنكر والإصلاح، هذه الأيام، لحظات ما قبل الإطلاق، وهي الفترة التي تحرص وزارة الداخلية أن تخرجهم خلالها من أجواء أماكن التوقيف، لغرض تأهيلهم للاندماج في المجتمع الخارجي.

ويقضي أحمد الشايع، ورفاقه صالح الغامدي وصدام الصقعبي وصالح القعيري، وغيرهم، أيامهم الحالية، بالتفكير بمشروعاتهم المستقبلية التي ينوون تنفيذها بعد خروجهم من المواقع التي تنفذ فيها وزارة الداخلية برنامج الرعاية، الذي يهدف إلى توسيع المدارك المعرفية لهؤلاء الفتية، وهم الذين غادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة.

وكان لبرنامج المناصحة الذي أخضع له هؤلاء وغيرهم خلال فترة قضاء محكومياتهم داخل السجون، بالغ الأثر في عودة الكثير من المغرر بهم إلى رشدهم، وهو البرنامج الذي يقوم عليه عدد كبير من المشايخ المعتبرين، مدعومين من مختصين اجتماعيين ونفسيين.

وبلغ ما صرفته وزارة الداخلية السعودية، على برنامج المناصحة قرابة الـ10 ملايين ريال سعودي، فيما وصل مجموع ما صرف على الموقوفين أمنيا، وغيرهم ممن أطلق سراحهم، قرابة الـ76 مليون ريال سعودي.

ويتكون برنامج المناصحة، من 4 لجان فرعية، هي: اللجنة العلمية، اللجنة النفسية الاجتماعية، اللجنة الأمنية، واللجنة الإعلامية، حيث بلغ عدد المختصين الشرعيين العاملين فيها 160 عضوا، فيما يبلغ عدد المختصين النفسيين والاجتماعيين فيها قرابة الـ40 عضوا، شكلوا دعامة قوية للبرنامج منذ اليوم الأول لانطلاقته.

وتضطلع لجان المناصحة، بتصحيح أفكار وقناعات الموقوفين أمنيا، والتعرف على الأسباب التي دفعتهم إلى الاقتناع إلى ما قاموا به في الماضي، والوقوف على أوضاعهم النفسية وشبهاتهم الفكرية.

وساهم برنامج المناصحة، في تصحيح أفكار ما يزيد على غالبية الموقوفين أمنيا، فيما تم إطلاق سراح 700 موقوف بتوصيات من لجنة المناصحة، والتي ينحصر دورها في التوصية بإخراج الموقوف بعد مناصحته، بعد قياس مدى سلامة فكره، وتوافقه ظاهرا وباطنا.

وتتخذ لجان المناصحة، أسلوبين في التعامل مع الموقوفين أمنيا والعائدين من غوانتانامو، يتصل أولهما بالجلسات (اللقاءات) الفردية، ويضطلع الآخر بالدورات العملية الجماعية.

وفيما يخص أسلوب التعامل الأول، فيتم ذلك، بحضور مختص شرعي ونفسي واجتماعي، حيث يستمعون إلى ما لدى الموقوف، ويتعرفون عليه، ويفتحون المجال له للتعبير عما يجيش بخاطره، من دون قيد أو تحفظ، وفقا للقائمين على البرنامج.

يقول أحد أعضاء لجنة المناصحة، «كم من لقاء أخوي تعانقت فيه القلوب وسكبت فيه الدموع من الموقوفين، حينما وجدوا خطاب الرحمة، وتقدير المعاناة، وإحساسهم بأننا نريد الخير لهم، ونأخذ بأيديهم ليعودوا أدوات للبناء، لا معاويل للهدم».

وكثيرا ما يهتم الفريق النفسي، على الإشارات النفسية التي يعكسها الموقوف خلال حديثه مع أعضاء اللجنة، بما قد يشير إلى صدقية تعامله من عدمها.

ولا تكتفي لجنة المناصحة في الجلسات الفردية، على لقاء واحد، بل قد يتعدى الأمر إلى إجراء 4 لقاءات فردية، أو يزيد عن ذلك، على حسب أبعاد قضيته.

وتقيم لجان المناصحة في السجون، دورات عملية لـ20 موقوفا أمنيا، لـ7 أسابيع، بهدف تدريسهم عددا من المقررات المتعلقة بالموضوعات ذات العلاقة، وهي: (التكفير وضوابطه، الجهاد وضوابطه، الولاء والبراء، الإمامة والجماعة، كتب مشبوهة والرد عليها، مكانة العلم والعلماء، أصول علم النفس، منهج المملكة العربية السعودية، موقف المسلم من الفتن، الدماء المعصومة وأحكامها).

ويخضع الموقوفون أمنيا المستفيدون من هذه الدورات، لاختبارات تحريرية في الأسبوع السابع لنهاية الدورات، بغرض الوقوف على مدى استفادتهم من الدورة، والأخذ بمرئياتهم.

وتحرص وزارة الداخلية السعودية، بعد أن يستفيد الموقوف من برنامج المناصحة داخل السجن، أن تخضعه لبرنامج الرعاية في مواقع خارج أسوار السجون، والتي تسعى من خلاله إلى شغل أوقات الموقوفين أمنيا، بما يروح عنهم أحيانا، ويفيدهم أحايين أخرى.

ويستفيد من برنامج الرعاية، الذي يتكون من 10 برامج فرعية متنوعة «شرعية، اجتماعية، ثقافية، نفسية، رياضية، طبية، أمنية، إبداعية، تدريبية، وإنسانية»، يستفيد منه من قرر إطلاق سراحه أو انتهت محكوميته تهيئة للانخراط في المجتمع. وهيأت وزارة الداخلية مواقع برنامج الرعاية، بكل ما يحتاجه الموقوف، من ملاعب كرة قدم، وحمامات سباحة، وغيرها من المرافق الترويحية، إلى جانب مكتبة وقاعة بحث وفصل دراسي، وغيرها.

ولم يفت القائمون على برنامج الرعاية، صغر سن الموقوفين أمنيا، ومدى تولع بعضهم بلعبة البلاي ستيشن، حيث وفرت هذه اللعبة لهم، وكافة الألعاب التي تتناسب مع رغباتهم وتطلعاتهم.

ويذكر الشيخ احمد جيلان، منسق برنامج الرعاية، بأن موقوفا قررت وزارة الداخلية السعودية إطلاق سراحه، أصر أن يأخذ معه لعبة البلاي ستيشن. وأمام إصراره لم يجد القائمون على البرنامج بدا من تلبية طلبه، ولكن بعد أن تمت استشارات كافة زملائه، حيث قام المسؤولون فيما بعد بتعويض الموقوفين بجهاز آخر.

ولا يتوانى المسؤولون في وزارة الداخلية عن تلبية أية متطلبات يطلبها منهم الموقوفون أمنيا، فضلا عن توفير كافة الاحتياجات الحياتية لهم، من مواد غذائية وعصائر متنوعة، وصولا إلى كميات كبيرة من الحلوى والشيكولاته.

ويقضي الشباب معظم أوقات فراغهم، في لعب كرة القدم، والسباحة، ولعب الألعاب المختلفة. ولم يحدث أن كان أي منهم انغلاقيا في تفكيره وتعامله مع من حوله.

ويحرص القائمون على البرنامج الشرعي في برنامج الرعاية المدعوم من وزارة الداخلية، على إخضاع جميع الموقوفين أمنيا إلى اختبارات تحريرية عن الموضوعات التي تم شرحها لهم، يأتي أهمها: الجهاد والتكفير وضوابطهما.

ويلحظ من بعض أوراق الإجابات التي أطلعت «الشرق الأوسط» على جزء منها، مدى تفاعل الموقوفين مع القضايا التي كانت سببا لانجرافهم إلى الفكر المنحرف، وخصوصا ما يتعلق منها بضوابط الجهاد، وأهمية تحقق كافة ضوابطه الشرعية.

ويعمل المسؤولون على برنامج الرعاية جاهدين، إلى تعريف الموقوفين أمنيا بمطامع الأعداء في بلادهم السعودية، ومدى حرص هؤلاء على الإضرار بأمنها واقتصادها، نظرا لموقعها الجغرافي، ومكانتها الدينية والإقليمية.

ويحاول المسؤولون عن هذا البرنامج أن يتحدثون بصراحة مطلقة مع كل الموقوفين حول بعض الجهات التي تريد الإضرار بأمن واستقرار السعودية، ودورها في كل الأعمال الإرهابية التي وقعت في البلاد.

ويوزع القائمون على برنامج الرعاية، عددا من الاستبانات على الموقوفين، بشكل دوري، بغية تقييم مخرجات البرنامج، ومراعاة ما يتطلبه وضع الموقوفين أمنيا فيه.

«الشرق الأوسط» وقفت على برنامج الرعاية، كأول صحيفة عربية يسمح لها بالدخول للمواقع المخصصة للبرنامج، حيث كان الموقوف صالح الغامدي وقتها، منهمكا برسم لوحة فنية، بعد أن قرر القائمون على برنامج الرعاية على استحداث معرض تشكيلي دائم ضمن برنامج إبداعي جديد، لتشكل تلك اللوحات آخر البصمات الإبداعية للموقوفين أمنيا. وفي هذه الأثناء، أخذ أحمد الشايع كراسته وألوانه، لمنافسة زميله الغامدي على أجمل لوحة فنية.

وعلى الرغم من صعوبة سيطرة الشايع على الألوان، نتيجة تآكل يديه الصغيرتين بعد أن استخدمه المجرمون كأداة تفجير في العراق، إلا أنه كان صادقا فيما سطرته ريشته الصغيرة، حيث رسم قلب أحمر جريح ينزف من الدماء الكثير، كناية عن الوطن الذي يخسر شبابه نتيجة دعاوى الجهاد المزيف. وسطر الشايع عبارة أسفل هذا القلب جاء فيها «هذا الوطن ينزف، فهل نوقف النزيف؟».

وكانت اللوحتان اللتان خطتهما ريشتا الشايع والغامدي، باكورة المعرض الإبداعي الدائم، الذي حرص المسؤولون عن برنامج الرعاية بأن يكون كذكرى خالدة لمن وقعوا ضحية الفكر المنحرف.

ولا تخلو الأوقات التي يقضيها الموقوفون أمنيا في السعودية ضحايا التغرير، من النكتة والمرح في كثير من الأحايين، وخصوصا عندما يأتي المجتمعون على ذكر الزواج، فكل واحد منهم، قد بدا متحمسا لفكرة الزواج، حتى أن بعضهم أفصح عن أنه سيقترن قريبا بإحدى قريباته، إلا أحمد الشائع، الذي فيما يبدو قد بات غير مقتنع بهذه الفكرة، حيث قال مازحا حينما سئل عمن يرغب الزواج بها، «راح أتزوج عراقية من شارع الأميرات»، ليدخل جميع زملائه بموجة من الضحك.