كيف ترى الخرطوم أزمة دارفور؟ (الحلقة الثالثة) ـ الجهود الإنسانية ومساعي حل أزمة دارفور

المجتمع الدولي يتحمل كثيرا مما جرى فمعظم الدول والمنظمات لم تلتزم بما تعهدت به في جنوب السودان أو دارفور

مدرسان سودانيان يعطيان دروسا للتلاميذ في مدرسة بمعسكر «ابو شوك» للنازحين بالقرب من الفاشر أكبر مدن الإقليم (أ.ب)
TT

تنتقد الخرطوم مواقف العديد من المنظمات والدول، خصوصا موقف الولايات المتحدة إزاء الأزمة في دارفور، بل ترى أن المجتمع الدولي أسهم في الأزمة. وفي حلقة اليوم يتناول الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، مستشار الرئيس السوداني ووزير الخارجية السابق، وجهة نظر الخرطوم، إزاء شهادات بعض الدول والمنظمات الناقدة للسودان ويقدم تفسيره لها، كما يستشهد بمواقف منظمات أخرى يقول إنها أيدت أو تفهمت موقف الخرطوم. ويقول إن بعض العاملين في منظمات إغاثة عالمية في السودان شهدوا بأن هناك جهات تبالغ بشكل كبير في تضخيم التحذيرات بحدوث كارثة كونية بدارفور وفسروا ذلك بأنها لرغبة من واشنطن لتغيير نظام الحكم في السودان جعلت تقاريرها متحيزة ومجافية للحقيقة. ويتساءل: أليس غريباً أن تقول هيئة المعونة الأميركية في أحد تقاريرها إن حوالي 350 ألف إلى مليون شخص يموتون سنوياً في دارفور. وكم يبلغ عدد سكان دارفور، أليسوا 6 ملايين شخص، فإذا مات حوالي مليون كل سنة والأزمة بدأت في فبراير سنة 2003م، أيكون مات حتى الآن ثلثا السكان؟! حوصر السودان طوال السنوات الماضية، وجمدت حقوقه في اتفاقيتي لومي وكوتونو، وحجبت عنه المساعدات والمعونات مما فاقم من عنت الأوضاع المعيشية لأهل السودان عامة، والأقاليم الأقل تنمية خاصة، ودارفور أحد هذه الأقاليم. وقد أسهمت الحرب التي شهدها جنوب السودان في استنزاف قدرات السودان وكان يمكن بذلها في نهضة دارفور وما عداها من أقاليم ، لكن العاكفين على نشر سياسة العنف وتجارة السلاح وسماسرة المنظمات الإغاثية أرادوها حرباً مستمرة فأوقدوا عود ثقاب الحرب في دارفور وقصدوا بغير وجه حق خلق أوضاع إنسانية صعبة، وصعبوا الوصول الى حلول، واتخذوا أزمة دارفور وسيلة لإشغال الرأي العام العالمي، وتدافعت المنظمات سراعاً تلقاء المنطقة كل يبحث عن موطئ قدم.

منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية سجلت رفضها لادعاءات حدوث الإبادة الجماعية بدارفور وتدني الأوضاع الإنسانية التي أطلقها المسؤولون الأميركيون واتهمتهم باستغلال مشكلة دارفور بدواعي الانتخابات الأميركية ورهاناتها. وذكرت القيادية في المنظمة، فرانسواز بوشيه سومييه، لراديو «فرانس انفو» قبل عامين أن أميركا تقوم باستغلال المآسي الإنسانية في العالم، وذكرت أن جميع الحالات التي عالجها أطباء المنظمة في دارفور لم تثبت أنها ناجمة عن تعرض مدنيين للقتل أو التعذيب وأنه لو كان الوضع مثلما يدعيه المسؤولون الأميركيون لكانت المنظمة سحبت عناصرها من السودان.

أحد كبار المسؤولين البريطانيين كان معاصراً وهو يزور دارفور لهجمات قام بها المتمردون علي قطارين محملين بالأغذية والمعونات كانت في طريقها للنازحين استهجن ذلك الهجوم وقال إن نشاطات تلك المجموعة المتمردة توفر العذر لأي هجمات تقوم بها القوات الحكومية والميليشيات الحليفة لها، وقد أوردت تلك التصريحات صحيفة «الغارديان» البريطانية في سبتمبر (أيلول) 2004.

وخلال ترؤسي الجانب السوداني لاجتماعات اللجنة المشتركة مع يان برونك، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، كنا نعد تقريراً شهرياً عن الأوضاع في دارفور، وأكبر دليل على اهتمامنا بالأوضاع الإنسانية في دارفور ما ذكره يان بروك في احد تقاريره أمام مجلس الأمن أقر فيه بتحسن الأوضاع في دارفور. وقد عبرت آنذاك عن ارتياحنا للتقرير الذي أشار إلى التزام الخرطوم بالقرارات المتعلقة بأزمة دارفور واستجبنا للأسس التي طرحها رود لوبرز، المفوض الأعلى للاجئين بالأمم المتحدة، الذي زار دارفور لبحث موضوع عودة اللاجئين والنازحين، وقد جددنا له التزامنا بالعمل مع المجتمع الدولي لتطبيع الأوضاع في دارفور، ولمست ما لاقته الخطوات التي اتخذتها الخرطوم لتحسين الأوضاع الأمنية والإنسانية من ترحيب ملموس من دول العالم والمراقبين الدوليين الذين زاروا دارفور وأقر كثيرون منهم بأن الأوضاع الإنسانية لم تصل إلى الوضع المأساوي الذي يحكى ويفبرك في وسائط الإعلام العالمية.

العاملون في منظمات إغاثة عالمية في السودان شهدوا بأن بعض الجهات تبالغ بشكل كبير في تضخيم التحذيرات بحدوث كارثة كونية بدارفور وفسروا ذلك بأنها لرغبة من واشنطن لتغيير نظام الحكم في السودان جعلت تقاريرها متحيزة ومجافية للحقيقة، أليس غريباً أن تقول هيئة المعونة الأميركية في أحد تقاريرها إن حوالي 350 ألف إلى مليون شخص يموتون سنوياً في دارفور. وكم يبلغ عدد سكان دارفور أليسوا 6 ملايين شخص، فإذا مات حوالي مليون كل سنة والأزمة بدأت في فبراير سنة 2003، أيكون مات حتى الآن ثلثا السكان؟! شهود العيان من عمال الإغاثة بينوا أن المسح الغذائي الذي يجري بواسطة برنامج الغذاء العالمي يقول إنه قد تكون مستويات سوء التغذية عالية بين من تقل أعمارهم عن الخمس سنوات في بعض مناطق دارفور، إلا أن الأوضاع قد تمت السيطرة عليها، وقد حذر أولئك من انخفاض المساعدات الإنسانية الذي في رأيي أنه كان متعمداً لتأزيم الوضع في دارفور، ومن أكبر الدلائل لتحسن الأوضاع أن منظمة الصحة العالمية اعترفت مؤخراً أن موقف التطعيم ضد شلل الأطفال في دارفور صار في مستوى التطعيم في كافة أنحاء السودان الأخرى الأحسن حالاً. وزارة الشؤون الإنسانية أصدرت ضوابط لأنشطة المنظمات الأجنبية العاملة في ولايات دارفور، وذلك بعد عقد اجتماعات تنسيقية مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية بالخرطوم، والضوابط التي وضعت طابعها الأساسي التنسيق والتأكد من صرف الأموال التي تستقطبها المنظمات باسم السودان ودارفور في خدمة المتأثرين إلي جانب التأكد من صحة نتائج الإجراءات التي اتخذتها السلطات الحكومية لتسهيل حركة المنظمات الأجنبية في دارفور. ومن تلك الضوابط ضرورة إبراز المنظمات لخبراتها السابقة وتحديد خبرات كوادرها العاملة وتوضيح مصادر تمويلها.

ولاحظت من خلال جولاتي في ولايات دارفور الثلاث أن القيادات لتلك الولايات والتي كثيرا ما يتم اختيارها وفق توازنات قبلية حاكمة لبيئة وواقع دارفور، تلك القيادات نشطت في طرح برامج للتعايش والسلام الاجتماعي وتوسعة مظلة المشاركة السياسية وتفعيل المجتمع وتزكية نفوس أفراده وتنقيتهم من رواسب أي مرارات مع تمليك الناس الحقائق والمعلومات. وعقدت ملتقيات عديدة مع الأعيان ورموز القبائل ونواب مناطق دارفور المختلفة، سواء في البرلمان (المجلس الوطني) القومي الاتحادي بالخرطوم أو النواب بالمجالس التشريعية بالمحليات، وهي الوحدات الإدارية الأدنى وفق نظام الحكم القائم في السودان.

حركة العودة الطوعية من المواطنين إلى مناطقهم الأصلية بدأت فعلياً في ابريل 2004م، أي بعد أقل من عام من اندلاع الحرب في دارفور، إلا أنها تعثرت ولم تمض كما هو مخطط لها، وقدرت التكلفة الكلية التي سيتم الالتزام بها من قبل الحكومة لمشروعات الإعمار العاجلة لما ضربته الحرب في ولايات دارفور الثلاث بـ18 مليار و245 مليون جنية سوداني شملت توفير المياه وبناء المدارس والمساجد ومراكز الشرطة وداخليات الطلبة ومدراس الرحل وتحديد المسارات للعرب والطرق العابرة.

لقد أسهم أهل دارفور باستجابتهم لنداءات أطلقتها لجنة معالجة الأوضاع في دارفور كان كونها رئيس الجمهورية، وهدفت لإنفاذ برامج للتعايش السلمي، وعودة النازحين إلي قراهم الأصلية ومزاولة حياتهم الطبيعية وتفريغ المعسكرات من النازحين إليها درءاً للبطالة، وإعادة تعمير المناطق المهجورة بسبب الظروف الأمنية التي حلت بالديار، وتشجيع العائدين علي الإنتاج لزيادة دخولهم الشخصية باستخدام أراضيهم الزراعية ومراعيهم. ووضعت مفوضية العون الإنساني خطة اعتمدت علي التأكد من رغبات النازحين في العودة وتأمين المناطق والطرقات بقوات الشرطة وإقناع قادة الإدارات الأهلية للنازحين بالعودة بعد زيارة تلك القيادات للقرى والمناطق المهجورة بعد توفير الخدمات الإنسانية الضرورية من مأوى وغذاء ومياه نقية وعلاج وتوفير مبالغ نقدية مساعدة للوصول والعيش في المناطق الأصلية وعون العائدين في بناء وإصلاح منازلهم. ومؤخراً وخلال شهر مارس 2007م المنصرم وقعت الحكومة السودانية والأمم المتحدة اتفاقاً لتسهيل توصيل المساعدات الإنسانية لدارفور.

الملاحظ أنه كلما اشتدت صيحات التنديد بما يجرى في معتقل غوانتانامو بكوبا وأبو غريب في العراق ومعسكرات الاعتقال في أفغانستان، وما تواجهه شعوب في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان من تدمير وتقتيل وتعذيب، كلما ارتفعت الصيحات في لندن وواشنطن بالحديث عن الوضع الإنساني في دارفور. أليست هذه هي ازدواجية المعايير ونفاق الساسة والسياسة؟

طبيعي على نطاق العالم أجمع أن تحدث متغيرات بحكم سنن الحياة وتحولات الطبيعة ومتغيرات السياسة وإدارة الأشياء، وقد عانت دارفور مثل غيرها من مناطق السودان من تلك، ومعلوم عن السودان مدى اتساعه وجغرافيته، فالخدمات وسبل العيش والمرافق ومصادر المياه التي كانت مصممة لعشرات الآلاف من البشر أضحت بالضرورة قاصرة عن الأعداد المتزايدة بالتكاثر والهجرات الكثيفة رغم ما بذلته حكومة الإنقاذ الوطني من مجهودات وسعي للنهوض بمناطق السودان المختلفة، وأولت دارفور عناية عالية، ويكفي تدليلاً على ذلك أن الحرب في دارفور اندلعت في خضم تخصيص الحكومة المركزية لمبلغ 25 مليون دولار رفعت إلى 60 مليون دولار لمياه دارفور، وتأهيل مطاري الفاشر ونيالا، والغريب أن يكون أوائل من قتلوا بهجمات الحركة المتمردة المهندس أحمد يوسف، مدير مشروع جبل مرة، وهي منطقة معروفة بغنائها وثرائها الغذائي والطبيعي ومنتوجاتها المماثلة لمنتوجات مناخ البحر الأبيض المتوسط.

لما قدرت حكومة الإنقاذ الوطني أن الوضع في دارفور متجه نحو التصعيد وأحست أن عدم تدخلها لوقف التمرد المدعوم خارجياً سيؤدي إلى حرب قبلية، تم بذل جهود لمعالجة الوضع في دارفور على الطبيعة وكان أول نهجها ومرتكز المعالجة توفير الحماية والأمن للمواطنين وتوفير المساعدات والمعونات الغذائية لمن يعانون من الفقر، وإنقاذ الموسم الزراعي الذي هددته هجمات المتمردين والذين استهدفوا بها الضغط على المواطنين في سبل عيشهم لاستثارتهم ضد الحكومة.

ومن الإدراك أن الأمن هو إحساس وقناعات، تم تنشيط خطة لنشر قوات الشرطة الولائية في محليات ولايات دارفور الثلاث ودعمت بقوات الاحتياطي المركزي بآلياتها لوقف المهددات الأمنية. وعملت تلك القوات على تأمين القرى والفرقان والمعسكرات التي نزح اليها بعض المواطنين جراء الهجمات المتبادلة بين قوات الحكومة السودانية وبين المتمردين.

ووضعت الحكومة نصب عينيها الوصول إلى حل بعقد اتفاقية مع حاملي السلاح وكانت أول خطوة ضرورة تهدئة الوضع بوقف إطلاق النار، وتم إبرام اتفاق مع قادة التمرد في «أبشى» التشادية، وأعلن رئيس الدولة، المشير عمر البشير، العفو العام عن حاملي السلاح والخارجين عن القانون وأكد أن التعبير عن الرأي والحق السياسي مكفول للجميع، بعيدا عن حمل السلاح في ظل انطفاء كوة حرب الجنوب التي استمرت اثنين وعشرين عاما دمرت ما دمرت وأهلكت الكثير. غير ان جهات دخيلة نشطت لإطفاء ذلك المصباح الذي أضيء في العتمة التي عمت بعض أنحاء دارفور، وأذكر أن الرئيس البشير أدلى في إحدى خطبه للأمة السودانية بأن ما تم التوصل إليه في نيفاشا حلا لقضية جنوب السودان مستصحب قضايا كافة المجموعات السودانية. ومعروف أن السودان يتسم بتعدد تنوع الثقافات والأعراق ولكنه ينهج إلى بلوغ الوحدة من خلال هذا التنوع.

وقد تلازمت مع خطط التأمين وإعادة الاستقرار إلى ربوع دارفور مساع سياسية ووضع برنامج دعم إنساني غذائي وصحي ودوائي وزيارات تفقدية من قيادات الدولة إلى دارفور رغم المخاطر المحيطة. وتم إشراك قيادات الإدارة الأهلية في التشاور والتفاكر، ومعلوم سلفاً بأن الحكومات المتعاقبة في السودان كانت قد أضعفت دور الإدارات الأهلية لمقاصد مختلفة وتم إحداث نفرة من ولايات السودان الأخرى لزيارات دارفور والوقوف على الأحوال والمساهمة في الحوار، ولمن لا يعرف السودان بأنحائه المختلفة شمالا وجنوبا، غربا وشرقا، فهو كله في المعاناة سواء.

وعلى ما أذكر تم تكوين لجنة وطنية عليا لعقد مؤتمر للسلام والتنمية في دارفور أوكلت رئاستها إلى صديقي العزيز عز الدين السيد، رئيس اتحاد البرلمان الدولي السابق، وتزامن ذلك مع لجنة وزارية خاصة بدارفور شكلها مجلس الوزراء مهمتها التعامل مع هيئات المعونات الوطنية والدولية والبلدان المانحة لتوفير المطلوبات الغذائية شهرياً لبرنامج الغذاء العالمي لتقديمها إلى المتضررين من الحرب في دارفور، وأوكلت إلى مهمة رئاسة تلك اللجنة الوزارية وضمت في تشكيلها وزراء الداخلية والصحة والعدل ورئيس هيئة الأركان، وقد زرت ومعي اللجنة المنطقة عدة مرات وفي بعضها دعوت سفراء الولايات المتحدة وفرنسا والإتحاد الإفريقي وممثلي الوكالات والمنظمات الدولية ومراسلي وكالات الأنباء والإذاعات والفضائيات إلى مرافقتنا وأمضينا أياماً في أنحاء دارفور تجولنا في تجمعات النازحين وبلغنا مدينة كتم وهي المنطقة التي انطلقت منها شرارة التمرد، وأيضاً محلية صليعة غرب الواقعة على الحدود السودانية ـ التشادية . وقد اطلعت المنظمات ووسائل الإعلام على المآسي التي خلفها التمرد وحددنا أولويات لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها أولها فرض الأمن وإعادة الطمأنينة للمواطن ومحاصرة الانفلاتات الأمنية وأن تحاسب النيابات والأجهزة الشرطية والقضائية كل معتد على أمن المواطن، وفتح مسارات الاعانات الإنسانية، وصدرت التوجيهات للقوات المسلحة لتأمينها. وقد ربطتني أعمال تلك اللجنة بما يجري في دارفور ولم تتوقف صلتي وزياراتي لدارفور حتى لحظة كتابتي هذه المقالات، فقد زرت دارفور آخر مرة يوم الرابع عشر من مارس الجاري، وكانت من مهامنا التأكد ومراجعة الاحتياطي الغذائي، والتعامل مع هيئة المخزون الاستراتيجي، وهي الهيئة المعنية بتوفير الاحتياجات الغذائية من حبوب وضروريات، ومن يرجع بالذاكرة إلى الوراء سيدرك أن الحكومة السودانية ناشدت المجتمع الدولي عدة مرات لزيادة حجم المساعدات بقصد استقرار الأوضاع في دارفور. وتذليلا لذلك رفعت القيود عن تأشيرات الدخول للعاملين في مجالات العون الإنساني فصارت تمنح خلال 48 ساعة وسهلت حركتهم وكل من يلقي نظرة على مطار الخرطوم الدولي أو يسافر بالطائرات أو يحط بميناء بورتسودان البحري يلحظ أعداد العاملين في مختلف هيئات الإغاثة العالمية، ولم تحجب تأشيرات الدخول لأي من العاملين في مجال العون الإنساني إلا من شكًت السلطات في نواياه وسوء مقصده أو من واقع تقارير عدائية كتبها أو يكتبها. وقد تمت محاصرة المنظمات الطوعية الأجنبية لكتابة تقارير صادقة وقد لاحظت من واقع قراءاتي ومتابعتي في شأن دارفور أن العديد من التقارير الحقيقية يتم تجاهلها. وحقيقة لا بد أن نقر أن المجتمع الدولي يتحمل كثيرا مما جرى في دارفور من ترد وتدهور، فمعظم الدول والمنظمات الأممية لم تلتزم بالوفاء بما تعهدت به إن كان على صعيد جنوب السودان أو دارفور لاحقاً، بل ان الحكومة الأميركية حجبت قطع الغيار عن القطارات وهي الوسيلة الواصلة بين أنحاء دارفور، والنقل في دارفور يعتمد على السكك الحديدية حيث توجد أكبر خطوطها والتي أعلنت الحكومة السودانية قدرتها على حمايتها بما لديها من قدرات. وبالمجمل فإن الدول مرتفعة النبرة والتي ادعت وتدعي حرصها على حماية حقوق الإنسان أخفقت في أداء واجبها الإنساني والذي من أجله تم تصعيد منها لأزمة دارفور. وقد جرى التصدي للحملة العدائية والتصعيدية بشأن دارفور وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية والتي كانت بعض الدوائر فيها مهووسة بما جرى في11 سبتمبر 2001م فصورت أن العرب يقتلون ويسحلون الأفارقة في السودان، ومقصد تلك الدوائر تعبئة الأميركان السود ضد العرب وضد السودان.

يقول الدكتور قطبي المهدي، السياسي والإعلامي السوداني، في مقال له عن المحكمة الجنائية الدولية وقانونية محاكمة سودانيين فيها رغم أن السودان ليس عضوا وغير مصادق على قانون المحكمة، يقول الدكتور قطبي المهدي «إن المعركة ليست معركة قانونية أو غير قانونية وإنما هي جملة معارك مفتعلة تقودنا واحدة تلو الأخرى إلى المعركة الحقيقية، وهي المعركة المتعلقة بمصير السودان، وإن الناشطين ضد السودان في أميركا وغيرها لا يعنيهم أن المحكمة مختصة أو غير مختصة وإنما المطلوب أن ترسخ في المخيلة والرأي العام العالمي ما تحقق الآن». ويخلص الدكتور قطبي المهدي إلى أن أحد الأهداف تكريس لصورة العرب والمسلمين كمتوحشين وقتلة، وربط صورة الانتحاري في فلسطين بصورة الجنجويد في دارفور، وهدف آخر هو نزع هذا البلد الكبير الغني من انتمائه العربي الإسلامي وإعطاؤه هوية أخرى، مضيفاً أن إسرائيل تدرك أن امتدادات العالم العربي أصبحت في العراق والسودان. ومن هنا يمكن للمتتبع الحصيف ان يدرك سر تركز الحملة العدائية في أوساط منظمات الزنوجة في أميركا... وبحمد الله فإن العديدين من هؤلاء عرفوا الحقائق بمرور الوقت، وحضر كثيرون منهم إلى السودان وقارنوا بين ما سمعوه وبين ما رأوه، ومما حرصت على الإشارة إليه دائماً منذ اندلاع الحرب في دارفور وللموفدين أو من التقيتهم في الدوائر الغربية أن لا أحد منهم تحدث عن مسؤولية التمرد في بدء الحرب والاعتداءات. وللحقيقة فإن المنظمة الدولية للأمم المتحدة بأذرعها المختلفة اعترفت وأقرت بحدوث تقدم ملحوظ في الأمن في أوساط المعسكرات وقرى دارفور وأن مستويات الصحة والغذاء معقولة، كما اعترفت بظهور نتائج جهد الحكومة. وشهدت بتحسن الأوضاع كذلك وفود ومبعوثون من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ووفود الأطباء العرب والأطباء المصريون والعلماء المسلمون.

وبمثلما شكل الأمن المحور الأساسي لاهتمام المنظمة الدولية ومجلس الأمن الدولي ومجلس الأمن والسلم الأفريقي، فقد تضافرت جهود حكومة السودان مع ذلك بتأكيدها على فرض سلطة الدولة واستفادت فى ذلك من المتقاعدين من القوات النظامية من ابناء ولايات دارفور. وتساوت مع الجانب الأمني الجوانب الأخرى، خصوصا كافة الجوانب الإنسانية المتمثلة فضلا عن الحماية والأمن، في تنشيط التعاهدات الاجتماعية وحفظ الحقوق المحلية من أراض وسكن وزراعة وتوفير متطلبات الحياة الكريمة، فتم استيعاب أعداد كبيرة من خريجي كليات الطب والمعلمين للعمل في المرافق الصحية والتعليمية بدارفور، وسعت الحكومة لتحسين الأوضاع الخدمية كافة في المدن والقرى لتكون جاذبة لمن نزحوا إلى المعسكرات بفعل التدهور الأمني الذي حدث.

وفي رأيي انه برغم عدم وجود معايير علمية محددة متفق عليها لقياس مدى تحسن الأوضاع، وفي خضم تقارير المنظمات الدولية المتضاربة الأرقام والمكثرة من الأرقام الوهمية، إلا أن من يكرر زياراته إلى دارفور ويطلع على الواقع والأرض لا يمكنه أن يعارك الحقيقة القائلة بحدوث تحسن فائق في مجمل الأوضاع الأمنية والإنسانية.

* مستشار الرئيس السوداني ووزير الخارجية السابق 1