أميركا تخشى من انفلات أمني في البصرة مع توجه بريطانيا لسحب قواتها

مسؤول استخباراتي أميركي: البريطانيون هزموا في الجنوب

TT

بينما تنسحب القوات البريطانية من البصرة في جنوب العراق، صعدت الميليشيات الشيعية هناك معركتها ضد بعضها البعض من أجل التفوق السياسي وفرض السيطرة على موارد النفط، مما يعمق القلق لدى بعض المسؤولين الأميركيين في بغداد من أن عناصر في الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة سيقفون ضد بعضهم البعض ما أن تبدأ القوات الأميركية بالانسحاب. وتدخل ثلاث جماعات سياسية شيعية رئيسية في نزاع دموي ترك البصرة في أيدي الميليشيات والعصابات الإجرامية، التي امتدت سيطرتها إلى المكاتب البلدية وشوارع الأحياء. وتعاني المدينة من «سوء استخدام المؤسسات الرسمية وأعمال الاغتيال السياسي والثأر العشائري وفرض الأعراف الاجتماعية، سوية مع اتساع نشاط مافيات الجريمة التي تتداخل على نحو متزايد مع اللاعبين السياسيين»، وفقا لما أورده تقرير أصدرته مؤخرا مجموعة الأزمات الدولية. وبعد الإطاحة بنظام صدام حسين في ابريل (نيسان) 2003 سيطرت القوات البريطانية على المنطقة وازدهرت التجارة والفنون والجامعات. وفي فبراير (شباط) الماضي أثنى نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني على البصرة باعتبارها جزءا من العراق «حيث تمضي الأمور بصورة جيدة».

وقال مسؤول أميركي رفيع في بغداد يتمتع بخبرة مديدة بشؤون الجنوب، انه «من الصعب الآن رسم البصرة باعتبارها تمثل قصة نجاح». كما حذرت سلسلة حديثة من ألعاب الحرب أجريت لصالح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من حدوث حرب أهلية بين الشيعة بعد تقليص القوات الأميركية. وخلال السنوات الأربع الماضية، ركز موقف الإدارة من الحرب في العراق على «القاعدة» وإيران والعنف الطائفي الذي اثارتاه. ولكن في الجنوب المتجانس التكوين، حيث لا توجد من الناحية الفعلية قوات أميركية أو مقاتلو «القاعدة»، ويوجد قليل من السنة ونفوذ إيراني محدود وفق معظم الحسابات، تخوض الميليشيات الشيعية قتالا ضد بعضها البعض وكذلك ضد القوات البريطانية. وقد دشنت استراتيجية بريطانية في الخريف الماضي من أجل إنقاذ أحياء البصرة من ممارسي العنف، شبيهة بالاستراتيجية الأميركية الراهنة في بغداد، ولم تحقق نجاحا مستديما.

وقال مسؤول استخباراتي أميركي رفيع في بغداد مؤخرا، إن «البريطانيين قد هزموا في الجنوب إلى حد كبير». فهم يتخلون عن مقراتهم السابقة في قصر البصرة، حيث وصف مسؤول رسمي من لندن مؤخرا تلك المواقع باعتبارها محاطة من جانب مقاتلي الميليشيات. وهوجم مطار المدينة، حيث توجد قنصلية أميركية ويوجد 5500 من أفراد القوات البريطانية وراء متاريس من أكياس الرمل العالية، بقذائف الهاون والصواريخ ما يقرب من 600 مرة خلال الأشهر الأربعة الماضية. وكانت بريطانيا قد أرسلت 44 ألفا من أفراد قواتها إلى العراق، لتشكل القوة الثانية بعد الولايات المتحدة خلال الغزو في مارس (آذار) 2003، وركزت جهودها في الجنوب. وبمشاكل قليلة من الإرهابيين من خارج المنطقة أو العنف الطائفي، بدأ البريطانيون الانسحاب، وبحلول أوائل 2005 بقي تسعة آلاف. وأعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق مزيدا من التخفيضات في أوائل العام الحالي قبل مغادرته منصبه. وظلت الإدارة الأميركية معارضة للانتقاد العلني للانسحاب البريطاني. لكن خبيرا بريطانيا بشؤون الدفاع يعمل مستشارا في بغداد اعترف بأن الولايات المتحدة «ظلت قلقة جدا لفترة معينة بشأن انفلات القانون في البصرة أولا، وبشأن التأثير السياسي والعسكري للانسحاب البريطاني ثانيا». وأضاف الخبير أن هذا «قد جرى التعبير عنه على أعلى المستويات» من جانب الحكومة الأميركية للسلطات البريطانية.

وأشارت حكومة رئيس الوزراء البريطاني الجديد غوردن براون إلى الهدوء النسبي الحالي في ثلاث من محافظات المنطقة الأربع باعتباره دليلا على النجاح. ووفقا لمسؤول بريطاني فان براون ابلغ الرئيس جورج بوش عند لقائهما الأسبوع الماضي في كامب ديفيد من أن بريطانيا تأمل تسليم البصرة إلى العراقيين خلال الأشهر القليلة الماضية. وعلى الرغم من أن سحب مزيد من القوات محتمل، فان بريطانيا ستنسق وجودها مع واشنطن بعد تقييم سبتمبر (أيلول) المقبل من جانب الجنرال ديفيد بترايوس القائد الاميركي الأعلى في العراق. وإذ تستعد للسيطرة على البصرة أرسلت حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي جنرالات جددا لقيادة قوات الجيش والشرطة هناك. ولكن الميليشيات المتحاربة جزء من أطراف الحكومة نفسها، بما في ذلك رجل الدين مقتدى الصدر، الذي يعتقد أن جيش المهدي التابع له مسؤول عن معظم الهجمات الأخيرة على مجمع المطار، وكذلك حزب الفضيلة والمجلس الإسلامي العراقي الأعلى، الذي يعتبر اكبر حزب شيعي في البلاد. وفي مارس (آذار) الماضي انسحب حزب الفضيلة من الائتلاف الوطني الذي يضم الأحزاب الشيعية بعد فشله في الحصول على وزارة النفط التي أخذها المجلس الإسلامي الأعلى، وفي الأسبوع الماضي طرد المالكي محافظ البصرة المنتمي إلى حزب الفضيلة نتيجة لضغط المجلس. ورفض حزب الفضيلة تسليم إدارة البصرة أو إدارة مصافيها ذات المردود المالي العالي، داعيا حكومة المالكي بـ «البعث الجديد» وقدم استئنافا ضد الطرد إلى المحكمة الدستورية العراقية.

وأدى الصراع على السلطة في بغداد إلى قتال حقيقي في البصرة؛ إذ نقلت الميليشيات تحالفها مع بعضها البعض ومع البريطانيين وإيران مع بدء قتالها فيما بينها للسيطرة على المناطق والمصادر المالية. ومع تصاعد حدة قتال الشوارع والاغتيالات اضطر أكثر سكان البصرة البقاء في بيوتهم وظلوا يخافون من القواعد الإسلامية التي فرضتها الميليشيات المتقاتلة.

وعلى الرغم من حضور إيران المتغلغل ونفوذها من خلال المساعدات الإنسانية والأسلحة والأموال، فإن المسؤولين الأميركيين والخبراء الأجانب يرون أن الأحزاب العراقية تستخدم إيران أكثر من العكس. فللعراقيين في الجنوب ذكريات كثيرة عن الحرب العراقية ـ الإيرانية خلال الثمانينات من القرن الماضي، وحينما «يريد الشيعي الجنوبي أن يشتم شخصا آخر يقول عنه إنه إيراني»، حسبما قال مسؤول أميركي. وأضاف أن الولايات المتحدة «قلقة دائما حول النفوذ الإيراني، لكن، هناك فارق ما بين النفوذ والسيطرة. سيكون من الصعب جدا للإيرانيين تحقيق السيطرة».

ووصفت مجموعة الأزمات الدولية إيران وبريطانيا والولايات المتحدة بأنها مشوشة على قدر واحد مما يجري في البصرة؛ فخلال زيارة أخيرة لها قال مسؤول أميركي إنه لم يكن قادرا على مقابلة مسؤولين محليين خارج قاعدة المطار أو السفر إلى ما وراء طريق مأمون ما بين القاعدة والقصر. وهناك ما يقرب من 200 أميركي داخل وخارج المدينة بمن فيهم أولئك المعينون للعمل في مكتب السفارة وهناك بعض الموظفين المدنيين الذين يقدمون دعما أو لهم عقود أمن أو يعملون حراسا.

وبدأ «كابوس» البصرة بترك آثار مدمرة على اقتصاد العراق، حسبما قال خوان كول الخبير في شؤون الشرق الأوسط من جامعة مشيغن. ومع احتوائها لثلثي مصادر النفط العراقية، تحتل البصرة موقعا لا يمكن الاستغناء عنه في تصدير النفط، مع قدرة تصل إلى 1.8 مليون برميل نفط في اليوم. وأكثر العنف السائد في البصرة هو «حول من يحصل على أي حصة من مصادر العراق الاقتصادية»، حسبما قال استراتيجي عسكري أميركي في العراق. ويتم تمويل الميليشيات والعصابات الإجرامية جزئيا من النفط المهرب إلى خارج العراق، حتى لو كان البلد لا يمتلك وقودا كافيا لتوفير الكهرباء لأغلبية شعبه. وقدمت صناعة النفط ومرافق الميناء جائزة كبيرة للممثلين السياسيين المحليين، حسبما جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية. وتسعى العملية الأمنية الأميركية الحالية إلى «تنظيف ومسك وبناء» بغداد وضواحيها، وهي نسخة مماثلة للعملية السابقة «السندباد» التي قامت بها القوات العراقية والبريطانية في البصرة من سبتمبر (أيلول) 2006 إلى مارس الماضي تحت شعار «تنظيف ومسك وإعادة إعمار مدنية». وعلى الرغم من أن عملية «السندباد» نجحت في البداية في تقليل عدد الجرائم والاغتيالات السياسية، لكن الهجمات زادت في الربيع، مما أجبر القوات البريطانية إلى الانسحاب إلى داخل ثكناتهم.

وكان البريطانيون في بداية الاحتلال يمقتون استخدام القوات الأميركية لدوريات مدرعة ووحدات محمية بشكل ثقيل. وكان هدف الأسلوب البريطاني المتمثل بدوريات ذات تسليح خفيف وتسير على الأقدام مثلما هو الحال في آيرلندا الشمالية هو تجنب خلق مشاعر معادية لهم بين السكان المحليين وتشجيعهم على التعاون. وأطرى تقرير عام 2005 الذي قدمته لجنة الدفاع لبرلمان المملكة المتحدة أداء الجيش البريطاني وحث الوزارة لاستخدام نفوذها كي يتبنى الأميركيون أسلوبا أقل عدوانية.

وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قال قائد القوة الجوية المارشال جوك ستيراب، إن تجربة البصرة كانت ناجحة. لكنه اعترف بأن الحكم يعتمد على «الطريقة التي تؤول فيها المهمة أولا. أنا أجد الكثير من الناس يمتلكون طموحات غير واقعية». وقال إن المهمة هي «إيصال المكان والناس إلى مستوى يتمكن معه العراقيون أن يديروا هذا الجزء من العراق، إذا كانوا يريدون القيام بذلك».

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»