فؤاد عالي الهمة.. من اختبار الفعالية الأمنية إلى تجريب الشرعية الانتخابية

فؤاد عالي الهمة
TT

على مبعدة أقل من شهر، عن إجراء الانتخابات التشريعية يوم السابع من الشهر المقبل، وأقل من أسبوعين من عقد الجولة الثانية من المفاوضات المباشرة بين المغرب وجبهة البوليساريو، في نيويورك، بخصوص نزاع الصحراء، أقدم العاهل المغربي الملك محمد السادس، على إجراء، يعد بكل المعاني والقراءات، حدث صيف 2007 الأكبر، حين قبل أول من أمس ملتمس، الإعفاء من المهام الحكومية الرسمية الذي رفعه إليه فؤاد عالي الهمة، الوزير المنتدب في الداخلية، بذريعة الترشح لخوض الانتخابات التشريعية، للظفر مجددا بالمقعد البرلماني عن دائرة بلدة بني جرير وقبائل الرحامنة (ناحية مراكش) التي يتحدر منها الوزير النافذ، الذي سبق أن فاز به في عقد الثمانينات من القرن الماضي، مرشحا باسم حزب الاتحاد الدستوري المعارض حاليا، والذي كانت المعارضة السابقة تدعي أن الحزب من صنيعة الادارة، بإغداق ومباركة من وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، الذي ادعى أنه أنجح الهمة الذي كان يتدرب انذاك في وزارة الداخلية.

ومن الطبيعي أن يفتح القرار المفاجئ، شهية المعلقين والملاحظين وحتى الفضوليين، الذين باتوا منذ الإعلان عنه يضربون أخماسا في أسداس، كونه أتى في سياق توقيت خاص، ويمس أحد ركائز النظام الأساسيين. وحتى لو تم الافتراض أن الإعفاء، مسألة مرتبة ومتفق عليها مسبقا، بل ربما تندرج في سياق عودة أقوى للوزير المقال، ليتصدر المشهد السياسي في المغرب بعد الانتخابات التشريعية، كأن يبوأ على سبيل المثال لا الحصر، مسؤولية رئاسة الحكومة. إذ في حالة تمكنه من الدخول إلى مجلس النواب من أبواب الديمقراطية والشفافية، فإن الهمة، سيحظى بمشروعيتين، تتمثل الأولى في ثقة ملك البلاد الذي يعرف وزيره الوفي، خير المعرفة باعتباره رفيق الدراسة والشريك في رسم معالم العهد الجديد منذ اللحظات الأولى التي آلت فيها مقاليد الحكم إلى الملك محمد السادس. أما الشرعية الثانية المكملة، فستمنحها له صناديق الاقتراع الشعبي السري، ما يفتح الطريق أمامه لتولي الإشراف على الجهاز التنفيذي. وبذلك سيحل إشكالا قد يواجه ملك البلاد، في حالة ما إذا أفرزت الاستحقاقات المقبلة خارطة مستنسخة للمشهد السياسي الحالي، إذ سيتعذر عليه إرضاء مطمح ورغبة بعض القادة الحزبيين الذين يأملون أن يقود التشكيلة الحكومية المقبلة، واحد منهم أو الأقل من أحزاب الغالبية المنتظرة.

الذين يشككون في هذا السيناريو، يستندون إلى دلائل وقرائن، من بينها أن العهد الجديد، الذي ما فتئ يشدد على الحداثة والقطع مع أساليب الحكم العتيقة، سيصعب عليه أن يرتد عن الشعارات التي ظلت عماد خطبه وجوهر قراراته منذ صيف عام 1999 بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني، ذلك أن سيناريو إلباس الهمة رداء الشرعية البرلمانية، محفوف بنوع من المخاطرة السياسية، من شأنها فتح الأبواب أمام النبش في السجل السياسي الأبيض لعهد الملك محمد السادس، كونه سيعيد المغرب بمعنى من المعاني إلى ممارسات شابت عهد والده، أعاقت انبثاق ديمقراطية شفافة، تتيح إمكانية تداول النخب على السلطة، خاصة أنه في إمكانه أن يسند الوزارة الأولى للوزير الهمة أو غيره من دون أن يغادر المقترح للمنصب، مقعده في مجلس النواب في حالة فوزه. إن الدستور المغربي واضح تمام الوضوح بخصوص هذه المسألة، وكل الأحزاب لا تجادل في هذا المعطى الدستوري، مكتفية بالتمنيات في أن يكون رئيس الحكومة ذا معطف حزبي. فلماذا إذن يعرض الهمة نفسه، وهو المقرب أشد القرب من العاهل المغربي، إلى امتحان انتخابي غير مضمون النتائج، ليس انتقاصا من قيمة وحظوظ الوزير السابق، ولكن عودته مرشحا إلى دائرة بلدته، سيسلط عليها وعليه أضواء الأحزاب والملاحظين الأجانب وسيفتح آذان وأسماع هيئات المجتمع المدني في المغرب الميالة إلى التصعيد، كلما رأت خللا أو تصرفا غير عادي، ما يفترض أنها ستنقل مكاتبها إلى بلدة بني جرير لمتابعة حلقات مسلسل مثير.

تميل القراءات المخالفة، إلى التعامل مع الإعفاء، وهو التعبير المهذب في القاموس المخزني (الحكم)، على أنها تعبير عن شكل من أشكال الغضب وعدم الرضى، عن أداء الوزير الهمة ومحصلة أعماله أو على الأقل معالجته لملفات بعينها، منذ أن أصبح اللاعب الأبرز في ساحة السلطة بالمغرب، لدرجة أن أصواتا تعلو وتخفت أحيانا، ترى في تخويل الوزير الهمة صلاحيات مطلقة، سلوكا يتناقض مع فلسفة العهد الجديد. ومن المناسب في هذا السياق، استحضار ما ورد في خطاب الملك محمد السادس في ذكرى الجلوس، حينما أضفى على نفسه صفة المواطن بل المناضل، ما فهم أنه انحياز منه للناس البسطاء الذين يخاطبهم كمواطنين، مستعملا عبارة «شعبي العزيز» وليس «رعايانا الاوفياء». وربما كانت تلك إشارة من الملك الشاب إلى أنه لا يوجد رجل قوي في البلاد، ولا ينبغي أن يكون، لأنه يعرف أكثر من غيره أن تمركز السلطات في يد واحدة لا يجلب إلا المشاكل. ولو كانت المسؤوليات موزعة بين الكفاءات الوطنية، لما عاش المغرب في عهد والده، فترة سنوات الرصاص، التي ما زال يعاني من تبعاتها إلى الآن. كما أن احتكار المسؤوليات ولعب كل الأدوار، وادعاء امتلاك مفتاح صندوق الأسرار، يثير في الغالب حفيظة وغيرة بل وامتعاض وحسد الدوائر المقربة من مصادر القرار. إنهم يتساءلون: لماذا هو وليس نحن؟ وهو شعور إنساني طبيعي. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى ما تداولته صحف مغربية على مدى السنوات الماضي من قصص وحكايات جرت في الطوابق العليا من عمارة السلطة، أبطالها بعض رجالات العهد الجديد، ويفهم منها أن التناغم ليس تاما بينهم، ما فتح الخيال أمام قراءات وتأويلات واستنتاجات متسرعة.

جرت العادة ألا يفرط النظام الملكي المغربي خلال كل الأزمنة، في من يصفهم «الخدام الأوفياء» وحتى إن طالهم الغضب، فقد يمتد أياما أو سنوات أو يمحي أثر من يصيبه من المشهد نهائيا. وهناك أمثلة لمقربين من قمة السلطة اعتقد الناس في الماضي أنهم ذهبوا إلى غير رجعة، نتيجة ثورة «صاحب المظل» عليهم كما يقول المغاربة، لكنهم سرعان ما عادوا وسط دهشة الجميع، ليضطلعوا بأدوار أكبر أو أقل في السر أو العلن. وفي هذا الصدد من المناسب التذكير أن الوزير الهمة نفسه، ربما هبت عليه رياح في أوقات، لم تزحزحه في حينها عن مكانه، إلى أن أتى الصيف القائظ، فاستطاعت النسمات الباردة المنعشة أن تهزه بقوة.

ستكون الأيام القليلة المقبلة، بكل تأكيد، حبلى بالمفاجآت السارة والضارة. وسيعيد الكثيرون ممن ربطوا أجندتهم وضبطوا ساعاتهم وفق توقيت ومزاج الوزير الهمة، أن يراجعوا حساباتهم وتقديراتهم، وعلى افتراض أن الرجل عائد بقوة، وهذا أمر وارد، فإن خطواته في الميادين التي سيجري فيها ستكون أكثر بطئا، وأكثر انتباها لمن يزاحمه في السباق، فرادى أو جماعات. وردت في خطاب العاهل المغربي الأخير، إشارات قوية بل مجلجلة، لم تنتبه إليها الطبقة السياسية المشدودة إلى الانتخابات الوشيكة. قال الملك محمد السادس ما معناه إن المغرب سيكون بعد الانتخابات على موعد مع إصلاحات مؤسساتية أضفى عليها صفة «الأسمى» فهل يكون رجل ثقة الملك قربانا للإصلاح الذي باشره قبل الانتخابات، أم أنه تهيييء واختبار للوزير المعفى ليكون أحد المنفذين الآتيين. وفي جميع الأحوال، فإن إعفاء الهمة أو إقالته أو اختبار صبره وتحمله، يعد إيذانا بتطبيق منظومة جديدة في وزارة الداخلية المغربية، من دون أن يعني القرار محو برامجها بالكامل.