ندوة «الموسيقى في عالم الإسلام» في أصيلة تدعو إلى ضرورة الحد من الدور السلبي للعولمة

لسحق خصوصيات الثقافة المحلية عبر العالم

TT

انتقد باحثون عرب وأجانب، خلال افتتاح مؤتمر «الموسيقى في عالم الاسلام»، الذي انطلقت اشغاله امس في اصيلة المغربية، في سياق فعاليات موسمها الثقافي 29، وهو المؤتمر الذي يناقش علاقة الموسيقى بالحدود والقيم والمجتمع والسياسة، هيمنة المعايير النمطية الموحدة على الذوق الفني في العالم ككل، والدور الذي لعبه انتشار القيم الفنية الغربية في التقليص من طابع التعدد والاحتفاء بالخصوصيات المحلية والوطنية الذي طبع الانتاج الفني العالمي، والذي يعتبر حصيلة تراكم حضاري يعود الى آلاف السنين.

واعتبر عدد من المتدخلين ان هذا الوضع ادى الى نوع من تمرد الجمهور الغربي ذاته على مظاهر التسطيح والتنميط والاختزال التي فرضتها آليات العولمة، بهدف الوصول الى الاسواق بسهولة وتحقيق ارباح اكبر لا تحفل بسحق الخصوصيات، معتبرين ان عودة الطلب على المنتوج الفني التقليدي في السنوات الاخيرة، يعتبر نوعا من «عودة الوعي» بضرورة صياغة شكل جديد للروابط بين الحضارات والثقافات المختلفة، وبضرورة اقامة علاقات متوازنة تتجنب استمرار «الامبريالية الثقافية» لبعض الامم.

واعتبر محمد بن عيسى، امين عام مؤسسة منتدى اصيلة، عقد مؤتمر «الموسيقى في عالم الاسلام» لبنة على درب بناء علاقات مختلفة بين الشمال والجنوب من جهة، وبين دول الجنوب نفسها، في مسار «حوار حقيقي بين الشعوب والحضارات لم يسبق له ان امتد الى ميدان الموسيقى الذي هو الفن الاكثر تداولا بين مختلف الفئات الاجتماعية للبشر في ظرف خاص يتميز بما تتعرض له صورة الاسلام والمسلمين من تشويه».

ولاحظ الباحث الفرنسي، جون دورين، بدوره أن الفترة الحالية من التاريخ تتميز بكثافة توزيع الموسيقى كمنتوج تجاري وتوسّع حقل تداولها بحيث اصبحت تستهلك بكثافة غير مسبوقة، غير ان ثمة نوعا من الهيمنة المطلقة التي تمارسها كل من الموسيقى الغربية، فيما يتم اهمال باقي الخصوصيات المحلية، وتكييف الذوق العالمي مع نماذج محدودة مبسطة وممكننة وموحدة يطغى عليها الصخب والأصوات الآلية، مما جعل الاتجاه الغالب يكرس سيادة النمطية الفنية والابداعية واقبار مكونات الخصوصية المحلية في عدد من الثقافات والحضارات العريقة.

واعتبر دورين ان طغيان الميزان الغربي الموحد على الموسيقى العالمية قد اسهم في مسح خصوصيات الثقافات المحلية، فيما «ظلت الموسيقى الاسلامية معقلا صامدا امام هذه التأثيرات، بسبب نجاحها في الاحتفاظ بالمقومات العميقة لهويتها، خاصة في مناطق آسيا الوسطى التي تشهد حاليا نوعا من العودة المكثفة الى احياء تراثها القديم وترويجه على اكبر مستوى». كما لاحظ دورين انه، وفيما تشهد مجموعة كبيرة من مناطق العالم نوعا من الانبهار بالمعايير الموسيقية الغربية، فان الفن الغربي نفسه اصبح واعيا في الفترة الاخيرة بمخاطر التنميط الذي يقع فيه، والدليل على ذلك هو ما تشهده الموسيقى الغربية من مجهودات جادة لتجاوز حركيتها الذاتية والداخلية بالبحث عن استقطاب تأثيرات عالمية تتبنى معايير مختلفة عنها.

وارجع دورين النمطية الحالية التي سعى الغرب لإرسائها الى عوامل تاريخية وسياسية تتكرر كلما تكررت مسبباتها التاريخية. بمعنى ان اسطورة وحدة المعيار الفني والحضاري ليست ظاهرة جديدة، بل مارسها الصينيون قبل آلاف السنين ثم العرب من بعدهم، فيما يمارسها اليوم بشكل من الاشكال المنتوج الموسيقي المصري داخل العالم العربي نفسه، بسبب «دكتاتورية الانتاج» وسيطرة انماط موسيقية على غيرها عبر قولبة الموسيقى المحلية في اطار مبسط وموحد يستهدف الوصول الى اكبر عدد من الجمهور، قبل ان يدعو الى مقاربة الموضع من زاوية مختلفة تنشد الاحتفاء بالخصوصية الثقافية.

أما الباحث الفرنسي جون لامبير، فركزفي مداخلته على اقامة نوع من الربط بين المؤتمر الاول للموسيقى العربية الذي انعقد في القاهرة في سنة 1932 ومؤتمر «الموسيقى في عالم الاسلام» الذي ينعقد بأصيلة حاليا ويستمر الى 13 من الشهر الجاري، مذكرا بأن مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة كان اول مؤتمر موسيقي دولي يعقد خارج اوروبا، مما يعكس نوعا من الوعي الحاد بمشكل الهوية السياسية عند منظميه والمشاركين فيه، وبمشكل علاقة الفن بتشكيل الهوية الوطنية، على اعتبار ان هذا المؤتمر قد نظم اساسا بهدف اضافة لبنة تأسيسية اضافية لمفهوم الهوية العربية المتميزة عن مكونات اخرى مثل الفارسية والتركية والغربية، وبهدف المساهمة في تأسيس مفهوم العالم العربي كعنوان لهوية موحدة تتخلص من الاستعمار الغربي والوجود العثماني والتأثيرات الفارسية في نفس الوقت. كما أن هذا الحدث قد ساهم في اثارة النقاش بشكل مبكر حول تأثيرات وسائل الاتصال والاعلام الحديثة على منظومات القيم والافكار والتوجهات الفكرية والحساسيات السياسية والتاريخية، مما يعني، حسب الباحث، ان الموسيقى يمكن ان تتحول الى اداة لبناء الهوية او لهدمها، وللنقاش حول المشاكل الكبرى التي ستطرحها العولمة لاحقا على الموسيقى العالمية ككل مثل: العلاقة بين الخصوصية المحلية وتاثيرات العولمة، العلاقة بين الموسيقى والهوية الوطنية، والعلاقة بين الادوات الغربية ومثيلاتها في الدول الاخرى.