الثأر والقتل الانتقامي ما زالا شائعين في ألبانيا .. و«أعرافهما» انتقلت من جيل إلى جيل شفاهيا

حكومة تيرانا تحاول القضاء على هذه الظاهرة قبل الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي

TT

تبتعد المنازل الحجرية البسيطة مائة خطوة عن بعضها بعضا في هذه القرية الجبلية التي يركب فيها الرجال على الدواب جالسين جنبا إلى جنب على المنحدرات الصعبة على السيارات.

وكانت اسرتا شيما والعلوشي متجاورتين وعلى علاقة طيبة لعديد من الاجيال، يتشاركون في الطعام في فترات الرخاء والضيق، ويساعدون في ادارة شؤون القرية.

اما الان فهما في حالة حرب، بدأت المواجهات بين الاسرتين قبل عامين، خلال مباراة «بلياردو» بين رجل من عشيرة العلوشي وصبي من عشيرة شيما. وعندما تصرف الصبي بطريقة غير مهذبة، ضربه الرجل بعصى البلياردو. واطلق ابو الصبي طلقة من مسدسه قال انها كانت طلقة تحذيرية، ولكنها اخترقت نافذة في الطابق الثاني من منزل العلوشي وقتلت فتاة في الثانية عشرة من عمرها.

وتسببت المواجهة، كما ذكر ابناء الاسرتين في مقابلات لهما، بنزاع دموي. وهذه العادة الالبانية تعود الى عدة قرون وتتسبب في قلق متزايد في الاوساط الحكومية ووكالات الشؤون الاجتماعية، فهناك اكثر من 800 اسرة البانية تعتبر نفسها طرفا في قضايا ثأر، طبقا للجنة المصالحة الوطنية، وهي جماعة لا تسعى للربح متخصصة في التوصل الى حل مثل هذه النزاعات.

وقال موسى شيما، 77 سنة، وهو والد القاتل «كانت مجرد حادثة وارسلنا ممثلين الى منزلهم مرات متعددة للاعتذار وطلب تخفيف غضبهم علينا. ولكنهم لم يقبلوا الاعتذار. ويقولون انهم يريدون الدم».

ويقول شقير العلوشي، والد الفتاة، وهو في الثامنة والاربعين من عمره «قتلت فتاة صغيرة. وسننتقم لها».

تجدر الاشارة الى ان النزاعات الدموية تمارس في مجتمعات متنوعة مثل الساموراي في اليابان الاقطاعية وبين مهربي الخمور في اميركا، حيث اندلع نزاع بين اسرتي هاتفيلد وماكوي في اواخر القرن التاسع عشر في منطقة جبال الاباليشيا. ولا يزال اعضاء المافيا في جنوب ايطاليا ينفذون عمليات قتل انتقامية، تسببت في 60 عملية قتل في نابولي في شهرين فقط.

ولكن ربما لا يوجد مكان في العالم الحديث تنتشر فيها عمليات القتل الانتقامي مثل مرتفعات البانيا، وهي افقر بلد في اوروبا. وتنشأ عمليات الثأر بسبب خلافات بسيطة، ويمكن ان تؤدي الى بقاء المستهدفين في بيوتهم لسنوات.

وقد حاولت الحكومة الالبانية التي تسعى للانضمام للاتحاد الاوروبي وتجري تحركات لتنشيط الاقتصاد، التخفيف من حادة ومدى انتشار عمليات الثأر. ولكن في العام الماضي ولأول مرة، خصصت ميزانية لدعم جهود المصالحة وتعيين مدرسين للاطفال الذين تبقيهم اسرهم داخل البيوت خوفا من الثأر.

ويقول رئيس وزراء البانيا صالح بريشا «يجب ان يسود حكم القانون على الاعراف. لا يمكنني القول اننا قضينا عليها، ولكن هناك تقدما».

غير ان العاملين في هذا المجال قالوا ان التحسن بطيء للغاية.

واوضح غجين ماركو، الذي يرأس لجنة المصالحة الوطنية التي تتولى تدريب الوسطاء لحل النزاعات الدموية، «مثل هذه الاشياء يجب الا تحدث في مجتمعات معاصرة، وهي تتسبب في تخلف البلاد». وتوجد على مكتبه صورة للام تريزا في كلكتا، وهي الراهبة الالبانية التي خصصت حياتها للفقراء.

تجدر الاشارة الى ان القواعد التي تحكم النزاعات الدموية في البانيا انتقلت من جيل لجيل شفهيا، في اطار الاعراف التي يطلق عليها باللغة الالبانية «قانون»، الذي يصف ممارسات الحياة اليومية. وبالرغم من التخلي عن الاعراف المتعلقة بالحياة الزوجية، مثل حصول الزوج على رصاصة مع مهره لمعاقبة أي خيانة زوجية محتملة، او نعت المرأة بالوعاء القادر على العيش مدى الحياة، فإن تلك المتعلقة بالانتقام لا تزال مطبقة في المناطق المتخلفة في البلاد. وتنص المادة 126 على «يدفع ثمن الدم بالدم». ويقر الانتقام لاي قتل.

وقد سعى حكام البلاد، من العثمانيين الذين حكموا البلاد لمدة اربعة قرون، الى الدكتاتور الشيوعي انور خوجة، الذي حكم لمدة 40 سنة حتى وفاته في عام 1985، القضاء على تلك الاعراف وتطبيق القوانين العادية. الا ان الاعراف التي سبقت وصول العثمانيين، ولم تطبع حتى اوائل القرن العشرين، بقيت في الظل، وظهرت مرة اخرى عقب سقوط الشيوعية عام 1992. وتتوفر نسخ من قانون الاعراف في الاكشاك والمكتبات في جميع انحاء البلاد.

ويقول عصمت اليزي البالغ من العمر 87 سنة وهو بروفسور قانون في جامعة تيرانا، درس الاعراف لمدة 50 سنة «عندما لا يوجد نظام يحظى بالاحترام يشغل العرف الفراغ». وقال ان نظام الاعراف، الذي ظهر بعد وفاة خوجة مدمر بالنسبة لالبانيا، لانه يسمح بالانتقام من أي فرد من افراد اسرة القاتل، حتى لو كان طفلا في المهد». واضاف «لقد تعرض قانون الاعراف للفساد، والذي كان من المفروض انهاء العنف».

وقال اليزي ان النزاعات الدموية المعاصرة تبدأ كما يلي: تحدث جريمة قتل تطالب اسرة الضحية بتعويض، ثم يلجأ افراد اسرة القاتل الى بيوتهم ـ التي لا يمكن انتهاكها طبقا لقانون الاعراف ـ لمدة 40 يوما على الاقل ويطلبون العفو، واذا تم منح العفو او قتل شخص اخر انتقاما، ينتهي الثأر، وإلا تستمر العزلة للابد.

وفي السنوات الاخيرة، ومع نزوح العديد من سكان المناطق الجبلية إلى المناطق المتطورة بحثا عن الوظائف، ظهر الثأر في تيرانا العاصمة، وفي عدد من المدن الاخرى. وواحدة من هذه الاسر، التي طلبت عدم الاشارة الى اسمها، تعيش في الطابق العلوي من عمارة سكنية قديمة جنوب تيرانا.

ولدى بيتر ولدان جوستين في التاسعة عشرة من عمره والتين في السادسة عشرة من عمره، يتميزان بالشحوب. فمنذ قتل عمهما جارا في نزاع قبل خمس سنوات، بقى الثلاثة في المنزل، ولم يخرجا منه الا مرة واحدة في محاولة فاشلة للوصول الى اليونان.

وقد سعى بيتر منذ فترة لاخراج اسرته من البلاد. ويحتفظ بملف برتقالي يحمل نسخ الخطابات التي كتبها في السنوات الاخيرة لجماعات المساعدات والمسؤولين الالبان والاجانب. وقال في خطاب بتاريخ 19 يونيو (حزيران) 2003 بعث به للسفارة الاميركية في تيرانا «نحن في خطر ونتعرض لتهديدات من اسرة الضحية. رجاء ساعدونا وانقذوا هذه الاسرة وامنحونا الفرصة للذهاب للخارج». وقال انه لم يتلق اية ردود على الخطابات.

وقد انتقل ماركو رئيس لجنة المصالحة، الى الريف مع مجموعات من المتطوعين وموظفي الحكومة، لمحاولة التوسط في هذه المشكلة. وهي مهمة يمكن ان تكون خطيرة. ففي مدينة شكودر في شمال البلاد، التي تعتبر عاصمة المنطقة التي تتبع قوانين الاعراف، قتل وسيط معروف في عام 2004.

وبمساعدة من اليونسيف ومائة الف دولار من الحكومة الالبانية تمكن بويا وغيره من تدريب 32 مدرسا على تعليم 60 طفلا في منازلهم في مدينة تعاني فيها كل اسرة من الثأر. وفي العام الماضي، نظم معرض للاعمال الفنية التي نفذها الاطفال. ومن بين الاعمال المعروضة لوحة لطائر في قفص واخرى يكسر فيها طفل بندقية على ركبيته.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الاوسط»