الوزير كريم غلاب.. حزن وحداد في كرنفال انتخابي

كريم غلاب (تصوير: مصطفى حبيس)
TT

ستبقى الحملة الانتخابية المنتهية اليوم، التي قادها الوزير كريم غلاب، المرشح الاستقلالي لعضوية مجلس النواب عن دائرة بن مسيك بالدار البيضاء، وهي الثانية بعد تجربة موفقة في خوض غمار الاستحقاقات البلدية، عالقة بذهنه ومقرونة بذكريات من نوع خاص، إلى أمد بعيد، كونها تزامنت مع وقوع حدث حزين في أسرته، تمثل في انتقال والده رحمة الله عليه، إلى دار البقاء على حين غرة، بينما نجله يضع الترتيبات الأخيرة لإطلاق حملته في دائرة انتخابية، لم يتردد في وصفها قبل إعلان ترشيحه بها، بالصعبة، بكل المعايير السياسية والاجتماعية.

فجأة، وجد الوزير غلاب، نفسه وقد ارتدى لباس الحداد، موزعاً بين واجب الذهاب إلى ناخبي دائرته الذين ينتظرونه في مختلف المحطات، لمحاورته والتعبير له عن مطالبهم وإبداء ملاحظاتهم على البرنامج الذي هيأه للدائرة حزب الاستقلال، الذي وضع غلاب نفسه في كفة «ميزانه» وبين واجب المرابطة في المنزل، لاستقبال المعزين الذين ظلوا يتوافدون عليه لأيام، مع ما يلزم ذلك من حسن الاستقبال، الواجب لكل من أتى مواسيا في المصاب الجلل، كيفما كان مقامه وانتماؤه الاجتماعي. فالدار التي قصدها المواسون المخففون عن الآلام، هي بيت مناضل ومسؤول استقلالي أولا، خاصة أنه الحزب المدافع عن التقاليد المغربية الأصيلة، تلك التي يتفانى المغاربة في إظهارها أثناء ظروف الشدة والمعاناة التي يتعرض لها إخوانهم من جيران وأصدقاء أو مجرد معارف.

يقول بعض أصدقائه الذين ترددوا على دار العزاء، طوال أيام الحملة الانتخابية، إن غلاب، وهو في الواقع، ذو ملامح أميل ما تكون إلى الطبيعي والخجل، بدا حريصا خلال استقبال المعزين في بيت الأسرة بالدار البيضاء، على ذكر وتعداد مناقب الوالد الراحل، طالبا الدعاء له بالرحمة، متجنبا الخوض في شأن الانتخابات وتقلباتها ومفاجأتها. كان يروي، بأسى بين وصت خفيض، ما قام به والده من مجهود من أجل أن يدرس أولاده ويحققوا له الأمنية التي وضعها في صدارة انشغالاته، في هذه الحياة: أن يكون أفراد أسرته الصغيرة، نافعين لبلادهم، قادرين على رد الجميل لها، دون أن يكفه نجاحهم في مسارهم الدراسي ووصلهم إلى ما كان يبغي لهم، عن استمراره في مزاولة نشاطه الذي اعتاد أن يكسب منه وبه لقمة العيش الكريم، في الماضي.

وربما كانت تلك نقاط الخلاف الوحيدة، إذا جاز التعبير، بينه وبينهم. هم يترجونه الرجاء تلو الآخر، أن يخلد إلى الراحة، وينعم بالثمار التي غرسها، فقد أصبح الأبناء قادرين ماديا على التكفل به وكفالة الأسرة الصغيرة، وحمل الأعباء عن كاهله، بينما ظل هو مقاوما الدعوة للكسل غير المبرر، مرددا «إن الله يحب العمل، وسعي العباد وانتشارهم في الأرض، بحثا عن الرزق»، إلى أن لقي ربه، راضيا مرضيا.

لا يطمئن المرشح الوزير غلاب، إلى نتيجة أية معركة سياسية، كبر أو صغر شأنها إلى أن يمسكها بين يديه. ليس النجاح في السياسة مرادفا للفوز بأرفع الشهادات والدبلومات التي أحرزها المرشح المتخرج من مدرسة القناطر والجسور، العتيدة، بباريس (فوج عام 1990) وهو ابن الرابعة والعشرين ربيعا (من مواليد 1966) بمدينة الدار البيضاء التي انتقلت إليها بعض الأسر الفاسية، المشتغلة بمهنة التجارة مثل والده الراحل، وأفراد آخرين من أسرة «آل غلاب» بعد ازدهار الحركة الاقتصادية في المدينة بدءا من أواخر الخمسينيات. يعتمد النجاح في الدراسة على الاجتهاد والمواظبة والانصراف عن ملاهي الحياة، والمنافسة الصامتة مع الأقران لنيل أعلى المعدلات والميزات وأحسن الرتب العلمية، ما يضمن ولوج سوق العمل بسهولة. تلك أمور تيسرت للطالب «غلاب» بعد تخرجه مباشرة، حيث اشتغل مستشارا في إحدى الشركات الفرنسية المعروفة لمدة أربع سنوات، آثر بعدها العودة إلى بلاده، زاهدا في إغراءات باريس وأنوارها، ليجد نفسه في مدينة «الحسيمة» المختبئة بين سلسلة جبال الريف وشاطئ المتوسط، مندوبا لوزارة التجهيز، والتي سيغادرها إلى بلدة بن سليمان، يدخل بعدهما عام 1996 لوزارة التجهيز في الرباط: مشرفا على البرامج والدراسات، ثم مديرا للطرق من 1997 إلى عام 2001 ليصبح في نفس السنة مديرا عاما للمكتب المغربي للسكة الحديدية، حمله بعدها قطار السياسة إلى منصب وزارة النقل والتجهيز في حكومة إدريس جطو.

دروس وامتحان السياسة، شيء مختلف تماما، لا تنفع فيها دائما الصراحة والصدق، بل لا بد من قدر من المناورة والمراوغة لإنزال الهزيمة بالخصوم الذين لا يتورعون من جانبهم عن استعمال كافة الأسلحة، بما فيها المحرمة انتخابيا.

ورث غلاب الوزارة عن سلفه الاستقلالي، بوعمر تغوان، الذي روج عنه بعد تعيينه المفاجئ، في حكومة التناوب الأولى، بأنه حديث العهد بالانتماء إلى حزب الاستقلال، وأن المنصب نزل عليه بردا وسلاما من السماء، لم يتركه إلا بعد أن خلف وراءه غبارا كثيفا ـ تضرر منه «الاستقلال» إلى حد ما، نتيجة الحملة الإعلامية التي استهدفت وزير التجهيز السابق، مما كان درسا وعبرة للوزير غلاب، المعروف بطبعه الهادئ المبتعد عن المشاحنات، فكان أن سلك مسلكا مغايرا. لكن على الرغم من حصيلة الإنجازات والأوراش الكبرى التي تحققت في عهده، في مجال البنيات الأساسية والتجهيزات الكبرى، وظهوره المتكرر إلى جانب العاهل المغربي في مختلف التدشينات، فإن قطاع النقل التابع له، شكل تجربة مرة للوزير الشاب. لم يجرؤ الوزراء الذين سبقوه على تحريك الملف الآسن، مخافة ردود الفعل القوية التي سيثيرها مشروع الإصلاح الذي باشره ودافع عنه غلاب منذ تعيينه، بكل ما أوتي من حجة وإقناع ومعرفة تشخيصية للواقع الميداني. حاور النقابات وجالس الجمعيات والهيئات المتصلة بالقطاع، عن حق أو باطل. لم تنفع المرونة التي أبداها، والاستعداد المعلن من جانبه، للتراجع عن بعض البنود والإجراءات التي بدت صعبة التطبيق، كما لم تؤثر نداءاته المتكررة، وتنبيهاته إلى أن حوادث السير في بلاده، وهي إحدى مشاكل النقل العويصة، تحصد آلاف الأرواح كل سنة من خيرة الشباب والكوادر التي تحتاجها البلاد، عدا آلاف المعطوبين واليتامى الذين تخلفهم وتضرر سمعة البلاد منها في الخارج لدرجة أن عاهل البلاد ضاق بها. حصيلة قاتلة تعود في الكثير منها إلى الفوضى السائدة في قطاع النقل والطرق. رغم نداءات الاستغاثة والنقر على وتر المصلحة العامة، أصر الذين راهنوا على إقبار المشروع، على إلحاق الهزيمة بالوزير، الذي اضطر في النهاية إلى تجميد مشروعه مؤقتا.

لم تتبن الحكومة التي هو عضو فيها، موقفا داعما له، بل المفارقة الغريبة، أن الحزب الذي ينتمي له غلاب (الاستقلال) لم يظهر روحا قتالية في الذود عن الوزير ومشروعه، وانساقت جريدة «العلم» لسان الحزب، مع تيار النقد والمعارضة له. خاطر غلاب، مغلبا مصلحة البلاد العليا، بعرض مشروع إصلاح، في توقيت وظرف سياسي صعب، قبيل الانتخابات التشريعية، مؤمنا أن أي إصلاح جذري وشامل لقطاع حيوي، راكم المشاكل، من شأنه أن يثير ردود أفعال ويمش مصالح المتشبثين بالامتيازات الذين يجنون أرباحا من نشاط النقل، دون أن يشتغلوا به مباشرة. استطاع هؤلاء التأثير وإغراء المأجورين الحقيقيين الذين ليست لهم أية امتيازات مثل فئة أرباب سيارات الأجرة وسائقي الشاحنات وحافلات النقل وأصحاب مراكز تعليم السياقة.... قدم «المستغلون المستفيدون» الوزير بصورة القاطع لأرزاق شريحة ضعيفة في المجتمع، تكسب قوتها من التعب وسهر الليالي والمبيت في الطرقات. لم يكترثوا بكون الإصلاح، يسعى إلى تأهيل القطاع وتحديثه، ما سيعود بالنفع على المدى المتوسط، على العاملين به، لا سيما بعد كسر الاحتكارات والقضاء على اقتصاد الريع السائد في قطاع أفسدته وزارة الداخلية في الماضي، إذ لم تخصص وزارة له إلا في عقد السبعينيات من القرن الماضي. قبلها كان النقل موزعا بين وزارتي الأشغال العمومية والداخلية. وهو المدر للدخل المرتفع غير المشروع من الرخص والتفويتات الموزعة ذات اليمين والذات الشمال على من لا يستحقها في أغلب الأحيان.

لا تواجه غلاب وموعد الاقتراع على الأبواب، احتمالات سيئة، فكونه وكيل لائحة حزبه في الدائرة، فإن ذلك يمكن أن يضمن له ببعض اليسر، دخول مجلس النواب الذي اعتاد أن يجيب فيه وهو وزير على أسئلة ممثلي الأمة الذين يطالبون الوزير بالإكثار من شق الطرق وتشييد الجسور وتوفير التجهيزات الأساسية. يتلقى الطلبات من نواب حزبه ومن أطراف الإتلاف الحكومي ومن المعارضة على حد سواء. يكمل الاستماع إليهم في ردهات مجلس النواب، يمدهم برقم هاتفه، مشددا أن لا يترددوا في زيارته بالوزارة لاستكمال الحوار.

يؤمن غلاب، المصنف ضمن خانة «التكنوقراط» أن تلك الصفة ليست قدحية، لكن مزاياها المعنوية، لا تكتمل إلا إذا كان الحامل لها، منغرسا في تربة بلاده، من خلال الانخراط في العمل الحزبي أو الجمعوي على الأقل، ليكون قريبا من نبض الناس. يطمح غلاب إلى الانتقال من الدفاع عن مصالح ومطالب سكان بلدية «سباتة» التي هو عضو في مجلسها الحالي، إلى التعبير عن انتظارات المواطنين تحت قبة وفي باحة مجلس النواب. إذا نجح المرشح في كسب رهانه، فسيدخل السرور على والده الراحل أولا، وإذا أخفق، فلن تكون الجولة الأخيرة، في معركة السياسة المحفزة، في جميع الأحوال، على الاستمرار في النضال. حظ سعيد، معالي الوزير.