غالبية سكان حلبجة ضد إعدام المجيد في بلدتهم.. وضحية يتساءل: ما الفائدة ما دمت لا أرى شيئا؟

«الشرق الأوسط» تحاور أبناء البلدة التي أصبحت رمزا لحملة الإبادة بحق الأكراد

TT

شهد معظم مدن اقليم كردستان العراق احتفالات جماهيرية حاشدة في الساحات والميادين العامة، وخصوصا بلدة حلبجة الواقعة على بعد نحو (90) كيلومترا شرق مدينة السليمانية، ومناطق (كرميان) التي طالتها حملات الأنفال، التي نفذتها قوات النظام العراقي السابق، والتي أودت بحياة نحو (182) ألف مواطن كردي حسب الاحصاءات الرسمية معظمهم، من الأطفال والنساء والشيوخ، علاوة على تدمير اكثر من (4500) قرية وقصبة كردية أواخر عامي 87 و1988، وذلك احتفاء بإنزال القصاص بحق المتهم الاول في القضية علي حسن المجيد، ابن عم الرئيس السابق صدام حسين والملقب كرديا بـ«علي الكيمياوي»، نسبة الى استخدامه الاسلحة الكيماوية في ضرب حلبجة في 16 مارس (آذار) 1988.

«الشرق الاوسط» زارت حلبجة واستطلعت آراء الكثير من ذوي الضحايا والمصابين، بخصوص مشاعرهم حيال انزال القصاص في من تسببوا في خنق الآلاف من ابنائهم وذويهم وأقاربهم، وتدمير بلدتهم تدميرا شبه كامل. وقد تباينت الآراء حول مكان تنفيذ حكم الإعدام بالمجيد ورفاقه بين داعين الى تنفيذه في حلبجة ورافضين لذلك، وكذلك حول آلية محاكمتهم على قضية الأنفال وتجاهل قضية حلبجة، لأسباب مختلفة ايضا.

قائممقام البلدة فؤاد صالح رضا قال ان غالبية السكان رفضت اعدام المجيد في حلبجة، لجملة من الاسباب «منها أننا شعب مسالم ومضح بالآلاف من الشهداء، وبحاجة الى تعاطف ومؤازرة الشعوب والدول، والخيرين في العالم من اجل بلسمة جراحاتنا وبناء بلدتنا المدمرة ولسنا بصدد الثار والانتقام من الذين خنقوا ابناءنا وأهالينا ودمروا منازلنا وبلدتنا. كما لا نريد مطلقا ان نوحي للعالم بأننا حاقدون بقدر ما نرغب في ان نظهر للعالم اجمع مدى حرصنا على احترام حقوق الانسان وتكريس الديمقراطية وحكم القانون في بلادنا، وبالتالي نقل صورة حضارية عن شعبنا المسالم الى العالم كله». وأكد ان قرار رفض اعدام المجيد في حلبجة، كان قرارا جماهيريا بحتا، انعكس فيما بعد على موقف وقرار القيادة السياسية الكردية بهذا الصدد ايضا. اما عن شعوره فقال «انني سعيد جدا لأن العدالة اخذت مجراها الحقيقي في العراق».

اما آراس عابد اكرم، 42 عاما، الذي فقد (12) فردا من أسرته بمن فيهم والداه واخوته، فقد روى شعوره لحظة وقوع الكارثة في يوم 16 /3 / 1988 وهو يشاهد سقوط افراد اسرته الواحد تلو الآخر، وقال «وقتها شعرت بان النظام العراقي السابق يريد ان يقضي على الشعب الكردي تماما وبالذات سكان حلبجة، التي كانت وقتذاك معقلا للثورة الكردية وحضنا للمعارضة العراقية». واضاف «كنت أتمنى ان يعاقب (المجيد) على قضية حلبجة، وان يتم اعدامه في هذه البدة، ليكون عبرة للتاريخ، لأنني فقدت بسببه أعز الناس في حياتي».

وفيما يخص مستوى الخدمات المقدمة لسكان البلدة، قال اكرم ان حكومة الاقليم انجزت الكثير من المشاريع الخدمية والعمرانية في البلدة «ولكنها ما زالت دون مستوى الطموح، نظرا للدمار الهائل الذي لحق بحلبجة والذي يحتاج الى امكانات وجهود كبيرة لإعادة بنائها. اذ ان البلدة ما زالت تفتقر الى مستشفى خاص لمعالجة المصابين بالأسلحة الكيماوية الذين يفارقون الحياة الواحد تلو الآخر متأثرين بإصاباتهم المستديمة والمستعصية، كما ان عوائل الشهداء ما زالوا يكابدون ظروفا معيشية صعبة نظرا لقلة الرواتب التقاعدية المخصصة لهم».

وفيما يتعلق بأعمال الفوضى التي حدثت في البلدة العام الماضي في يوم الذكرى السنوية لفاجعتها، والتي اسفرت عن إضرام النيران في النصب التذكاري لشهداء الفاجعة، قال أكرم «ان اضرام النيران في ذلك الرمز المقدس كان اكبر خطأ ارتكبه اهالي البلدة»، مؤكدا أن العملية «كانت عبارة عن رد فعل جماهيري غاضب حيال التصرفات غير القانونية لرجال الامن بحق سكان البلدة الذين خرجوا في مسيرة سلمية للمطالبة بالمزيد من الخدمات»، نافيا «وجود اياد خارجية وراء ذلك مطلقا».

حكمت فائق عارف، 37 عاما، الذي فقد (10) من أفراد أسرته بمن فيهم والداه وإخوته، سرد لنا ما جرى لأسرته وقال «كنت وقت ذاك مقاتلا ضمن قوات البيشمركة في منطقة قره داغ ولم اشاهد ايا من افراد اسرتي لحظة استشهادهم، بل سمعت بخبر موتهم جميعا بعد ستة اشهر من وقوع الكارثة، الامر الذي يحز في نفسي كثيرا ويعذبني نفسيا باستمرار»، داعيا السلطات المحلية «الى ابداء اهتمام اكبر باوضاع عوائل الشهداء وذويهم لتمكينهم من مواجهة أعباء الحياة الثقيلة دون عوز». وأعرب عن سعادته العميقة لصدور الحكم بإعدام المجيد، لكنه أكد معارضته الشديدة لإعدامه على ارض حلبجة التي قال «انها يجب ان تبقى طاهرة لا يدنسها الاشرار ولو كان ذلك من اجل اعدامهم».

محمد مصطفى احمد، 40 عاما، الذي فقد 11 فردا من أسرته بمن فيهم والداه واخوته، روى لنا بحرقة وألم المشاهد المروعة لضرب البلدة بالقنابل السامة قائلا: «عندما امطرت الطائرات بلدتنا بالغازات الخانقة، ذات الروائح الزكية، ادركنا على الفور بأنها أسلحة كيماوية سامة فهممنا بالفرار انا واخواني الاربعة بعد ان لقي والداي واخواتي حتفهم على الفور في سرداب منزلنا متأثرين بالغازات الخانقة.. وفي طريق هروبنا تساقط اخواني الواحد تلو الآخر أمام عيني بعد ان تقيأوا الدماء وقد شاهدت في الطريق مئات الجثث المتناثرة هنا وهناك، والعشرات من المصابين الذين كانوا يصرخون من الألم والحرقة في أعينهم وعلى اجسادهم والعشرات ممن فقدوا ابصارهم ونطقهم وهم في سكرات الموت الاخيرة في منظر بشع ومؤلم أشبه بيوم القيامة، لا يمكن لي نسيانه، لاسيما منظر ابن شقيقي الرضيع الذي مات بين احضاني وهو يرتجف ويلفظ انفاسه الاخيرة ويصرخ بأعلى صوته من شدة الألم بفعل الغاز السام، والذي مازال يرن في اسماعي وسيبقى الى الابد. ولولا اسعاف القرويين لي الذين سارعوا الى إجلائي لمت مع اشقائي، لاسيما وانني كنت فاقدا للبصر والتركيز العقلي، وقد تلقيت العلاج المستمر في مستشفيات ايران لأشهر طويلة». وأبدى محمد أسفه الشديد لعدم محاكمة «المجيد على قضية حلبجة تحديدا»، وقال «انه من المخجل والمعيب للقيادة الكردية وللمسؤولين الكرد في بغداد وكردستان ان يتم الغاء قضية حلبجة الكارثية من اجندة محاكمات رموز النظام السابق، رغم كونها قضية تخص فاجعة فريدة من نوعها في التاريخ، وباتت هوية للشعب الكردي مثل فاجعة هيروشيما وناكازاكي بالنسبة للشعب الياباني».

اما لقمان عبد القادر محمد، 39 عاما، ويرأس جمعية غير حكومية لضحايا القصف الكيماوي وفقد احدى عينيه وأصيب بجروح مستديمة في كل أنحاء جسده وتوقفت 70 % من فعالية جهازه التنفسي، حسب تقارير الاطباء المعالجين له ومات ستة من افراد اسرته بمن فيهم زوجته ووالدته وأربعة من اشقائه، فقد روى لنا واقعة مقتل افراد اسرته مفعمة بحسرات وغصة عميقة قائلا «أثناء قصف البلدة سقطت قذيفة كيماوية في باحة بيتنا فهربنا على اثرها بعد ان استنشقنا مرغمين انفاسا عميقة من الغاز السام، وعند وصولنا الى منطقة عبابيلي القريبة فقدنا جميعا ابصارنا وحواسنا وسارع اقاربنا هناك الى نقلنا للمستشفيات الايرانية، وهناك توفيت والدتي وأشقائي الاربعة وزوجتي، وتم دفنهم في مقبرة (بهشتي زهراء) في طهران، اما انا فتم نقلي مع ستة آخرين من المصابين الى المانيا لتلقي العلاج اولا واطلاع العالم اجمع على هول ما جرى في حلبجة وقتذاك».

محمد رضا عبد الله، 72 عاما، التقيناه وهو في طريقه الى بيته في احد شوارع حلبجة، فتحدث الينا قائلا: «فقدت (8) من افراد عائلتي في تلك الفاجعة المشؤومة التي نجوت من الموت فيها، عن طريق الصدفة؛ اذ كنت مسافرا يوم حدوثها، وعندما عدت من السفر وجدت المدينة خاوية على عروشها وقد مات جميع افراد اسرتي». وقال «ان إعدام المجيد هو هدية وتكريم بالنسبة اليه لأنه سيموت مرة واحدة اما نحن فنموت يوميا عشرات المرات حسرة وألما على أبنائنا وأهلنا وأحبائنا الذين قضوا بسبب هذا الوحش المتجبر والظالم». ورفض اعدامه في حلبجة قائلا انه لا يريد ان يرى الوجه الاجرامي القبيح لعدوه اللدود ولو كان معلقا في حبل المشنقة.

محمد علي احمد رمضان، 76 عاما، دعا الى محاكمة ومعاقبة «كل الذين شاركوا المجيد جريمته بضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي، بدءا من أصغر ضابط وانتهاء بأكبر مسؤول عن تلك الجريمة». اما محمد حامي المصاب بالعمى التام والتخلف العقلي شبه الكامل جراء استنشاق الغازات السامة، فقد التقيناه وسط سوق حلبجة وهو يتسول متكئا على عكازه وسألناه عن عمره وشعوره بخصوص إعدام المجيد فأجاب بتلكؤ «لا اتذكر تاريخ ميلادي، وما الفائدة من اعدام المجيد وصدام ما دمت لا أرى شيئا وبالكاد احصل على لقمة الخبز».

أما السيدة اقليمة محمد احمد، 38 عاما، التي فقدت بصرها التام وزوجها وابنها الوحيد خلال الكارثة والعائدة لتوها من رحلة علاج ناجح لإحدى عينيها؛ فقد اعربت عن عميق سرورها لقرار اعدام المجيد وقالت انها كانت تتمنى ان يكون منظر شنق المجيد في حلبجة «اول مشهد» تراه عينها الوحيدة بعد ان استعادت بصرها.

العجوز آمنة حمه كريم صالح، 69 عاما، من سكنة مجمع (رزكاري) القريب من بلدة (كلار) التي فقدت اثنين من اولادها خلال عمليات الانفال، اكدت ان اعدام المجيد سيطفئ النار المتقدة في صدرها منذ عشرين عاما وسيشفي غليلها، لكنها تساءلت باندهاش وعفوية شديدين قائلة «هل إعدام ذلك المجرم سيعيد لي والدي». لكن عثمان شاباز احمد، 58 عاما، الساكن في مجمع (شورش) القريب من بلدة جمجمال والذي فقد زوجته و(5) من اطفاله الصغار خلال حملات الأنفال، فقد أعرب عن عميق سروره لإعدام المجيد الذي وصفه بـ«السفاح»، متمنيا أن يطول القصاص ايضا كل الذين ساعدوه في تنفيذ حملته الدموية.