النزوح يعيد رسم خريطة العراق الطائفية والإثنية.. ويزيدها تعقيدا

دراسة للهلال الأحمر العراقي تكشف هروب مليون شخص من بغداد وحدها

TT

بدأت الهجرة الداخلية الواسعة بإعادة صياغة المشهد الإثني والطائفي في العراق، حسب معلومات تم جمعها من آلاف العاملين في قطاع الإغاثة، لكن التنقل في المناطق الكثيفة السكان معقد بشكل مدهش، مما يجعل اعتبار تقسيم البلد إلى مناطق سنية وشيعية وكردية تتمتع بشبه حكم ذاتي أمرا صعبا.

وتشير المعلومات التي ستصدر عن منظمة الهلال الأحمر العراقية، والتي أعطيت نسخة منها إلى صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنه في بغداد وحدها هناك 170 ألف أسرة تشكل بمجموعها مليون شخص قد هربوا من بيوتهم بحثا عن الأمن والمأوى والماء والكهرباء والمدارس العاملة، أو من أجل الحصول على عمل يساعد على دعم أسرهم.

وتظهر الأرقام أن الكثير من العوائل انتقلت مرتين وثلاثا أو أكثر، فأولا هي هربت تحت وطأة خطر مباغت، ثم أجرت حسابات مستندة إلى توفر الخدمات في المدينة أو توفر المدارس لأطفالها. أما إيجاد جيران من نفس المذهب فهو واحد من عدة اعتبارات. وبشكل عام يكشف النمط السائد في الانتقال إلى أنه على الرغم من العداء الطائفي والاثني الذي أصاب البلد، فإن هناك بعض العراقيين على الأقل يفضلون العيش في مناطق متعددة الأوساط.

وجمعت منظمة الهلال الأحمر المعلومات من تقارير قدمها آلاف من عمال الإغاثة في أواخر اغسطس (آب)، وهؤلاء منتشرون في شتى أنحاء العراق وهم يقدمون مساعدات إلى ما يقرب من 280 ألف عائلة اضطرت لمغادرة مناطقها على المستوى الوطني.

وتكشف نظرة عامة للأرقام أنه منذ تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء في فبراير (شباط) 2006، بدأ نزاع طائفي حاد، حيث راح السنة ينتقلون صوب الشمال والغرب، بينما الشيعة صوب الجنوب والمسيحيون صوب الشمال النائي. لكن الصورة في المناطق المختلطة والمراكز ذات الكثافة السكانية العالية للبلد أصبحت أكثر تعقيدا.

ويكون المركز الكثيف بالسكان الواقع ما بين مناطق متجانسة طائفيا نقطة مواجهة فيما بينها، وهو المكان الذي يشير إليه بعض أنصار فكرة التقسيم كي يكون خطا للتقسيم، حيث يستطيع أن يجد العراقيون الباحثون عن السلامة أنفسهم في مناطق ذات كيان طائفي مماثل لهم.

لكن الأرقام لا تظهر الهجرة على أساس ضفتي نهر دجلة، حيث يشكل السنة الأغلبية في الضفة الغربية والشيعة يشكلون الأغلبية في الضفة الشرقية منه. بدلا من ذلك يتحرك بعض السنة إلى الضفة ذات الأغلبية الشيعية إلى مناطق علمانية إلى حد ما ومختلطة إثنيا وطائفيا والخدمات فيها أفضل، حسبما قالت كوادر الهلال الأحمر.

ففي الأسبوع الماضي اضطرت عشيرة سنية تضم 250 عائلة وتعيش في منطقة الدورة، التي تعتبر من أكثر المناطق عنفا، إلى الهروب. وبدلا من الذهاب إلى منطقة تضم أبناء طائفتها فضلت الذهاب إلى مناطق شيعية في الجنوب في أبو دشير. وتم الترحيب بها هناك من قبل عشيرة محلية واعطيت أماكن للبقاء في بيوت السكان الأصليين للمنطقة، حسبما قال بعض العاملين الميدانيين في الهلال الأحمر وفي المنظمة الدولية للهجرة.

بعض العراقيين الفقراء على سبيل المثال يهربون بسبب التطهير الاثني الذي يقوم به تنظيم «القاعدة»، في القرى الواقعة شرق ديالي، ويصبحون أمام خيارين: إما الذهاب إلى بغداد أو التوجه إلى مخيمات اللاجئين الواقعة عند أطراف المدينة وسط أناس فقراء آخرين.

ودفعت الزيادة الكبيرة في عدد المهجرين أواخر الصيف الهلال الأحمر إلى تأخير إصدار التقرير لعشرة أيام، مع مسعى المنظمة لتفحص ومراجعة الأرقام، وظلت أرقام الهلال الأحمر التي تم جمعها بشكل دوري متوافقة مع المعلومات التي جمعتها المنظمة الدولية للهجرة التابعة للامم المتحدة، وهي تجمع معلوماتها من الحكومة العراقية ومصادر أخرى.

لكن حينما جرى الاتصال بها لمناقشة كشوفها في تقرير الهلال الأحمر الأخير، قال متحدث باسم وزارة التهجير والهجرة، إنه مقتنع بأن الأرقام عالية جدا. وقال المتحدث الرسمي ستار نوروز: «نحن لا نعتبر احصائيات الهلال الأحمر أو المنظمات الدولية الأخرى رسمية».

وكرر نوروز ادعاء الحكومة المتكرر بأن آلاف الاسر عادت الى ديارها عقب بداية خطة امنية عراقية جديدة متزامنة مع زيادة عدد القوات الاميركية. إلا ان ارقام الهلال الأحمر ومنظمة الهجرة اشارت في السابق الى ان أعداد النازحين العراقيين زادت منذ الوقت الذي بدأ فيه إجراء زيادة القوات الاميركية. واعترف نوروز بأن عدد موظفي وزارة الهجرة في مختلف أنحاء العراق لا يتعدى 600، مهمتهم متابعة النازحين. وتتابع الوزارة النازحين الذين جاءوا طواعية واجتازوا سلسلة من العقبات البيروقراطية في ثلاثة مكاتب حكومية على الاقل. وأشار العاملون في الهلال الأحمر الى عدد من الأسباب خلال فصل الصيف ساهمت في الاعداد الزائدة التي تواجهها المنظمة في بغداد. ودفع القتال في ديالى الناس الى الفرار هربا من القتال بين القوات الاميركية والمقاتلين المتطرفين السنّة. وبدأ الذين فروا الى كل من الاردن وسورية العودة، لأن الدولتين بدأتا فرض متطلبات لتأشيرة الدخول بالنسبة للعراقيين الراغبين في البقاء. وبدأ السنة ايضا يفرون من منازلهم بسبب الاشتباكات بين حركات الصحوة، وهي جماعات العشائر السنيّة التي توحدت لمحاربة تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين». والعراقيون الذين يفكرون في زمن العودة من الخارج ربما يختارون نهاية الصيف بسبب اقتراب موعد فتح المدارس وتراجع أعمال العنف في بعض الأحياء السكنية، مع ازدياد وجود القوات الاميركية. ولكن عندما يعود العراقيون فإنهم سيجدون منازلهم قد نهبت او احتلت ويصبحون نازحين. ويقول مازن السلوم، الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر العراقية، ان السبب وراء كل ذلك ليس الوضع غير الآمن. فالكثير من حالات النزوح التي قاستها منظمة الهلال الأحمر في بغداد حالات ثانوية او من الدرجة الثالثة، إذ ان كثيرا من السكان كانوا قد نزحوا للمرة الأولى، وتشير السجلات الى نزوحهم مرة ثانية، وفي بعض الحالات لمرة ثالثة. وفيما الخوف من الوقوع ضحية للعنف الطائفي او العمليات العسكرية المستمرة دفعت السكان الى الحركة الأولى بفعل الرغبة في اوضاع معيشية افضل تؤدي الى اتخاذهم خطوات أخرى. يتجه البعض في البداية الى أقارب لهم خارج العاصمة بغداد، لكنهم يعودون للبحث عن عمل وللحصول على خدمات، مثل الكهرباء والماء والمدارس. ويقول ليث عبد العزيز، الذي يعمل في الهلال الأحمر العراقية، ان العملية أشبه بأمواج البحر او المد الذي يتقدم ويرجع. وأضاف عبد العزيز قائلا: ان الشتاء مقبل وان الذين نزحوا نحو القرى سيعودون الى الأماكن التي يتوفر بها سكن جيد ووقود وغذاء. إلا ان بعضا من افقر النازحين ليس لديهم أي من هذه الخيارات. معسكر بوب شام، الذي تديره منظمة الهلال الأحمر يقبع في منطقة صحراوية كانت في السابق ثكنة للجيش العراقي قصفتها القوات الاميركية عام 2003. وفتح المعسكر شمال شرق بغداد في يونيو (حزيران) اثر وصول 17 اسرة شيعية من عشيرة العنبكية فرت من ديالى. ووصل عدد الأسر الآن الى 52، اثنتين منها وصلتا يوم الاثنين الماضي. وتعيش غالبية الاسر في خيام، إلا ان عددا محدودا من الاسر لديه مأوى من غرفة واحدة مشيدة من اللبن والقش.

* خدمة «نيويورك تايمز»