العراقيون يحيون عادة عزف الموسيقى في منازلهم بعد إغلاق دور السينما وحظر التجول

عوائل ضحايا انفجار «الكرادة» يتحدون الظروف الأمنية ويسهرون حتى الفجر

عباس فاضل من خريجي المعهد العالي للموسيقى في بغداد وقد حول شقته في وسط المدينة إلى مدرسة لتدريس الموسيقى لمساعدة الناس على الترفيه عن أنفسهم بعد إغلاق دور السينما والمسرح في البلاد (ا.ف.ب)
TT

نجحت مؤسسة إعلامية عراقية لأول مرة في جمع أكبر عدد ممكن من العوائل البغدادية في منطقة الكرادة، أكثر المواقع المنكوبة بسبب التفجير الارهابي، الذي وقع في 21 أغسطس (آب) الماضي، إثر تفجير شاحنة مفخخة محملة بمادة الجاز، مخلفا اكثر من 221 ضحية و425 جريحا وتدمير خمسة منازل بالكامل و85 شقة في عمارة الانباري، وعدد من السيارات والمحال التجارية، كما لا يزال ثمانية اشخاص تحت الانقاض، بحسب رواية اهالي المنطقة. الأمسية التي اقيمت بمناسبة يوم السلام العالمي، وتنظيم مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، شارك فيها اكثر من 1500 من رجال الاعلام والسياسة وعوائل الضحايا والمواطنين، الذين تحدوا الظرف الامني القاهر ليشاركوا في أمسية للسلام وإعادة البناء.

واشار الحضور الى انها الأمسية الأولى منذ سقوط النظام، مجسدة إصرار وارادة العراقيين على الرغم من الوضع الامني الصعب، حيث استطاعت مؤسسة المدى بالتعاون مع المجلس العراقي للسلم والتضامن وجمعية الامل العراقية والمجلس البلدي لقاطع الكرادة، ان تحيي دور مؤسسات المجتمع المدني وتستعيد دور المواطنين في صنع حركة الحياة عبر أمسية اقيمت تحت شعار «من اجل السلام وإعادة البناء».

وقالت غادة العاملي مديرة مؤسسة المدى للثقافة والفنون في بغداد لـ«الشرق الأوسط» »ان مؤسسة المدى وهي تقيم هذا النشاط الثقافي الفني في واحد من مساءات بغداد، انما تريد ان تسهم في إعادة الحياة الى ليل بغداد الجميل، مثلما أسهمت المساءات السابقة في إضفاء ألق آخر الى ما تتحلى به عاصمتنا الحبيبة من ألق أزلي»، مشيرة الى ان «الجمهور استنكر غياب قنوات الاعلام التي تدعي تغطيتها للاحداث المهمة عن هذا النشاط، على الرغم من دعوتها الى نقل هذا المشهد الايجابي من الحياة العراقية».

وتضمنت الأمسية، التي استمرت حتى الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة أول من أمس، إعداد 1500 وجبة افطار لأهالي الكرادة، والعديد من الفعاليات الفنية والرياضية، مثل عرض مسرحيه «يوم من هذا الوطن»، و«لعبة الزور خانه»، وقصائد عن الوحدة الوطنية، فيما شاركت فرقة المربعات البغدادية ببعض من أعمالها، إضافة إلى إقامة مباراة للعبة «المحيبس» بين فريقي الكرادة والزعفرانية، اقيمت جميعها بين بقايا عمارة الانباري التي هدمها الانفجار. وقالت هناء ادور رئيسة جمعية الامل العراقية إن «اقامة هذه الامسية هو تحد للارهاب وتأكيد على ان الشعب العراقي بلد للتعايش السلمي»، مضيفة في حديثها لـ«الشرق الأوسط» ان «هذا جزء من التضامن مع ضحايا الانفجار الارهابي، لاسيما واننا متضامنون مع ضحايا انفجارات سنجار وتلعفر والانبار وكربلاء والنجف وديالى». وشددت ادور على ضرورة نشر ثقافة الحوار والتسامح ونبذ جميع الخلافات، موضحة ان منظمات المجتمع المدني ستكون حاضرة في كل مكان وستكون اليد والساعد للشعب العراقي.

هذا وقد أحيى العراقيون وتزامنا مع اغلاق دور السينما وانحسار المسارح وفرض حظر التجول الذي قضى على الحياة الليلية في بغداد، عادة قديمة للترفيه عن أنفسهم، عبر ممارسة عزف الموسيقى في منازلهم. ويقول رغيد وهو صاحب آخر متجر لبيع الآلات الموسيقية في وسط بغداد «معظم زبائني اليوم من الهواة بعد ان كان الموسيقيون الكبار في العراق هم من روادنا، لكنهم غادروا البلاد بسبب الاحداث الراهنة».

ويضيف رغيد وهو حاصل على شهادة الماجستير في الفنون الموسيقية من اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد لوكالة الصحافة الفرنسية «كنا نبيع في زمن النظام السابق الآلات الموسيقية الى العديد من الفرق الموسيقية التي كانت تنتشر في البلاد، لكننا اليوم نبيع الآلات فقط للهواة الذين يرغبون في تعلم العزف في منازلهم او لغرض التسلية».

اللافت ان شوارع بغداد تصبح خالية قبل الساعة الثامنة مساء بسبب تدهور الاوضاع الامنية وحظر التجول، مما يدفع البعض الى اللجوء الى الآلات الموسيقية لقضاء الوقت والتغلب على الملل.

واضاف رغيد الذي ورث هذه المهنة من والده وقبله جده ان «اسباب انحسار الفن والموسيقى تعود ايضا الى اتجاه البلد الى منحى ديني متطرف يرفض الفن والفنانين».

وتابع ان «الفنانين والفرق الموسيقية المحلية تعرضت الى تهديدات كثيرة لترك عملها فيما تعرض فنانون معروفون الى الضرب في انحاء متفرقة من البلاد على يد جماعات تنتمي الى احزاب دينية واخرى اسلامية متطرفة».

يشار الى ان معظم المطربين والفرق الموسيقية غادرت العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ويعملون حاليا في بلدان الجوار وخصوصا في الاردن وسورية.

وأوضح رغيد أن الشبان من الهواة «يقبلون على شراء الغيتار الذي لا يحتاج الى الكهرباء نظرا الى انقطاع التيار الكهربائي معظم الاوقات في بغداد»، مشيرا في الوقت نفسه الى ان معظم زبائنه هم «من خريجي المعاهد الفنية والهواة ومحبي الموسيقى الغربية».

ويتراوح سعر بعض الآلات الغربية مثل الغيتار الكوري الصنع بين ستين الى تسعين دولارا وسعر الاورغن الاندونيسي او الصيني الصنع بين مائة و700 دولار. اما الكمان الصيني وهو آلة شرقية فيبلغ سعره خمسين دولارا.

وقال رغيد ان «العائلات المثقفة توجه أولادها الى الموسيقى لتهذيب النفس»، مشيرا الى ان «هؤلاء تأثروا ببرامج شهيرة مثل سوبر ستار وستار اكاديمي في لبنان» الذي فازت به العراقية شذى حسون، 26 عاما، بالمرتبة الاولى في النسخة الرابعة منه في مارس (آذار) الماضي.

ويؤكد هذا الشاب الذي ينتمي الى عائلة مسيحية غادر معظم افرادها العراق، تعلقه بوطنه وعدم رغبته في الهجرة قائلا «أسعى الى اعادة الحياة في هذا البلد الذي دمرته المفخخات وأعمال العنف».

ويؤكد ان اغلب المحال المتخصصة ببيع الآلات الموسيقية أغلقت أبوابها في المناطق الساخنة «كان لدي معرضان لبيع الآلات اثنان في بغداد والآن أغلق أحدهما».

بدوره قال عباس فاضل كاظم مدرس الموسيقى للهواة إن «أكثر الذين يدرسون الموسيقى ويمارسون هواية الاستمتاع بها يفضلون البقاء في منازلهم خوفا من اعمال العنف اليومي».

وأضاف «هناك آخرون ممن ليس لديهم التزامات عمل يقضون يومهم في تعلم الموسيقى وبالتالي يقتلون وقت فراغهم».

وأوضح انه يشرف الآن على تعليم اكثر من 15 طالبا في منزله كل شهر عبر دورات فنية تتضمن سبل تعلم الموسيقى وكيفية التعامل مع الآلة الموسيقية والعزف عليها. وقال كاظم «نركز اولا في هذه الدورات على تعلم المقام العراقي وهو لون غنائي بغدادي وبعد ان يتمكن الهواة ينطلقون لتعلم أشياء جديدة لأنهم سيصبحون قادرين على اكتساب المزيد من الفنون الموسيقية».

وتحلم زينة حاتم، 16 عاما، ان تصبح عازفة وتقول «انا ادرس الآن فنون الموسيقى لأنه فن جميل وممتع ولدي طموح ان اصبح عازفة ولي ثقة بتحقيق ذلك». وتضيف زينة «بعد تحسن الاوضاع الامنية والحياتية في بغداد سأبحث عن فرصة عمل مع فرق موسيقية عراقية». وتتابع وهي تلامس آلة الاورغن «الفن الموسيقي شيء جميل وعلي تعلم الكثير من الموسيقى والعزف».

وكانت بغداد تزخر بالمتاجر التي تختص ببيع الآلات الموسيقية وكان شارع الرشيد الشهير بمكتباته في وسط بغداد، يقصده الفنانون العراقيون والاجانب لشراء الآلات ومنها آلة العود الشرقية التي تتميز بزخارفها الخشبية. اما اليوم فقد أغلقت هذه المحال أبوابها وأصبح الشارع العريق شبه خال بسبب إغلاق أحد منافذه من قبل القوات الأمنية.