الدكتور حيدر عبد الشافي.. الطبيب والمناضل والزعيم الوطني الذي رفض التنازلات المجانية

د. حيدر عبد الشافي
TT

قد يدون في كتب التاريخ في الآتي من الأيام، ان حيدر عبد الشافي هو أفضل زعيم لم يتح للشعب الفلسطيني أن يختاره لقيادته. فالرجل المثقف الهادئ المتزن، الذي جمع بين العلم والنضال، والتضحية في مساعدة المحتاج والصمود في وجه المحتل والغاصب، بين التفاوض الموضوعي المدروس والاصرار على رفض الفساد والمحسوبية والتفريط في المبادئ، يعد «شخصية وطنية فذة» عند أي فلسطيني بغض النظر عن انتمائه السياسي. ولئن تأخرت شهرة عبد الشافي على المستويين العربي والدولي الى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، عندما ترأس الوفد الفلسطيني الى مؤتمر مدريد، فهو شخصية لامعة في قطاع غزة منذ زمن بعيد اذ نشط في المعترك السياسي قيادياً يسارياً ذا شعبية ومكانة مرموقتين.

وانتخب نائباً في المجلس التشريعي الفلسطيني عن غزة بأعلى الاصوات. لكنه استقال من عضوية المجلس بسبب خلافه مع الرئيس الراحل ياسر عرفات على أسلوب عمل السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي يونيو (حزيران) 2002 شارك في تأسيس «المبادرة الوطنية الفلسطينية». ولد حيدر بن محيي الدين عبد الشافي عام 1919 في مدينة غزة، وتلقى علومه الابتدائية في غزة، ثم أرسل الى الكلية العربية في القدس لمتابعة دراسته الثانوية. ولدى تخرجه في الكلية العربية، عام 1936، توجه الى لبنان حيث التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وفيها درس الطب والجراحة. وابان دراسته في الجامعة تعرف الى حركة القوميين العرب التي أبصرت النور فيها، والتحق بصفوف الحركة لبعض الوقت.

تخرج طبيباً عام 1943، وتوجه للعمل على الأثر الى مدينة يافا، حيث وظف في مستشفى البلدية التابعة لسلطة الانتداب البريطاني. وأمضى سنوات الحرب العالمية الثانية في عدة أماكن داخل فلسطين وشرق الأردن. وبعدما وضعت الحرب أوزارها ترك الجيش وفتح لنفسه عيادة خاصة في غزة، ومن شارك بتأسيس الجمعية الطبية الفلسطينية عام 1945.

بعدها غادر عبد الشافي غزة الى الولايات المتحدة، حيث تخصص في الجراحة العامة بأحد المستشفيات الكبرى بمدينة دايتون في ولاية أوهايو، ثم عاد اليها عام 1954 وكان القطاع قد وضع تحت الادارة المصرية. وعمل جراحاً في مستشفى تل الزهور التابع للادارة المصرية. وخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، احتلت اسرائيل غزة، ونصّبت على مدينة غزة مجلساً بلدياً لادارة شؤونها واختارت عبد الشافي ضمن اعضائه، ولكنه رفض.

وبعد الانسحاب الاسرائيلي، تزوج عبد الشافي من هدى الخالدي من أسرة مقدسية، وهو أب لثلاثة أبناء اكبرهم الدكتور صلاح يقيمون في غزة وبنت واحدة. منظمة التحرير الفلسطينية

* عام 1960 عاد عبد الشافي الى مزاولة عمله الطبي الخاص. لكنه اختير عام 1962 رئيساً للسلطة التشريعية للقطاع حتى عام 1964، عندما شارك في أول مؤتمر وطني فلسطيني عقد ذلك العام في مدينة القدس، وهو المؤتمر الذي أسست فيه منظمة التحرير الفلسطينية تحت رئاسة أحمد الشقيري.

وبين 1964 و1965 خدم عبد الشافي عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعزز منذ ذلك الحين، بفضل نشاطيه الطبي والسياسي الوطني مواقعه الشعبية في معقله السياسي ومسقط رأسه غزة، صار بحلول 1966 الزعيم الأبرز في القطاع.

وبعد احتلال اسرائيل غزة للمرة الثانية في عام 1967، عمل طبيباً متطوعاً في مستشفى الشفاء بغزة واعتقلته السلطات الاسرائيلية لبعض الوقت بتهمة تأييد سياسات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أسسها صديقه وزميله الطبيب الدكتور جورج حبش.

وواصل عبد الشافي بعد اطلاق سراحه تحدي سلطات الاحتلال، رافضاً أي شكل من أشكال التعاون معها، فنفته بأوامر مباشرة من وزير الدفاع في حينه موشيه دايان الى قرية نخل بوسط شبه جزيرة سيناء لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثم الى لبنان يوم 12 سبتمبر (أيلول) عام 1970 مع خمسة من الزعماء الوطنيين، رداً على اقدام الجبهة الشعبية على اختطاف 3 طائرات مدنية نسفت لاحقاً في الصحراء الأردنية. عام 1972 أسس عبد الشافي، وأدار جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة وجعلها مسرحاً للعون الطبي والنشاطات الاجتماعية والثقافية. شارك في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك الى مؤتمر مدريد عام 1991. ومن ثم أسندت اليه مهمة رئاسة الوفد الفلسطيني المفاوض في مباحثات واشنطن في العاصمة الأميركية على امتداد 22 شهراً خلال عامي 1992 و1993. استقال عبد الشافي استقال من الوفد في ابريل (نيسان) 1993 بسبب استمرار الخلاف على عقدة المستوطنات الاسرائيلية التي رفض أن تسوية لا تنص على ازالتها. وبعد مناشدته وقبوله العودة الى مائدة التفاوض، فإنه استقال وانسحب مجدداً في الشهر التالي.

انتخب في عام 1996عضوا في المجلس التشريعي بأعلى الاصوات. واختير لرئاسة اللجنة السياسية في المجلس. وفي 30 مارس (آذار) 1998 انسحب من المجلس على أساس انه يستحيل على المجلس بالنظر الى سلطاته المحدودة احداث اي تغيير نحو الأفضل في وضع الفلسطينيين، ودعا الى مزيد من الديمقراطية داخل السلطة الوطنية الفلسطينية وانشاء قيادة وحدة وطنية تجمع تحت لوائها كل الفصائل والتيارات. وأيد لاحقاً «انتفاضة الأقصى» (الانتفاضة الثانية) معتبراً أنها «رفض طبيعي تلقائي لعشر سنوات من التفاوض العقيم مع اسرائيل، التي استغلت كل الفرص حالات أمر واقع على الأرض. كما شكك بصدقية «خريطة الطريق» التي تدعمها الولايات المتحدة.

وظل عبد الشافي يواصل نشلاطة السياسي رغم كبر سنه، حتى السنة الأخيرة من عمره، حيث اقعده مرض سرطان المعدة، الى توفي فجر أمس.