أيام في العراق (4) أهالي الأعظمية يصفون جدارهم بـ «سور الصين العظيم»

بغداد: مناطق ساخنة.. ومناطق أكثر سخونة

جندي اميركي يوجه سلاحه نحو بغداد من خلال الهليكوبتر (أ ف ب)
TT

بين الدورة، في أقصى كرخ بغداد حيث ينحني نهر دجلة، او يدور، محتضنا جهة الرصافة، ماضيا في جريانه نحو الجنوب، وبين الاعظمية، عروس الرصافة وواحدة من اقدم واجمل احياء بغداد الراقية، من حيث رقي عوائلها، مسافة مؤثثة بالدخان والاسوار الكونكريتية الرصاصية اللون، اسوار.. تفضي الى اسوار.

الدورة محاطة بسور من نار والاعظمية بسور من الكونكريت المسلح بالحديد. ما يربط بينهما وحسب تقسيم القوات الاميركية والعراقية والحكومة ان الحيين السكنيين العتيقين يقطنهما العرب السنة. لكنك عندما تطرح هذا المفهوم على سكان الدورة والأعظمية يسخرون حزنا لهذه الفكرة «السطحية والساذجة» على حد تعبير مهندس يقطن في حي الدورة.

«الشرق الاوسط» وجدت نفسها وخلال زيارة عادية لمنطقة الدورة وسط ساحة قتال حقيقية بين القوات الاميركية ومن يسمون انفسهم بـ«المجاهدين».. في هذه الحلقة من «ايام في العراق» نختصر المسافة بين حصار الدورة وجدار الأعظمية الذي يرفضه اهالي الحي العريق.

كانت الدورة بعيدة عن مركز بغداد الكائن في قلب الرصافة لهذا فكرت الادارة البريطانية بان تبني فيه مصفى نفط الدورة الشهير وهو واحد من اقدم مصافي النفط في العراق، ألحق به وقريبا منه محطة توليد الطاقة الكهربائية، ذلك ان اختيار منطقة بعيدة لتكون مصفى للنفط بحيث لا يؤثر على السكان ولا يتأثر بوجود ناس قريبين منه.

يقال ان الادارة البريطانية هي من منحت الآشوريين ـ او الآثوريين حسب التسمية العراقية، وحسب سامي يعقوب رئيس قسم التصحيح في «الشرق الاوسط» فان الاشوريين لا ينطقون الشين ويتحول الشين عندهم الى ثاء لهذا انقلبت تسمية الاشوريين الى الاثوريين وهم في الواقع ذات القوم ومن بقايا آشور نينوى في شمال العراق ـ المهم ان البريطانيين هم من منح الاشوريين قطع اراض في مقدمة حي الدورة البعيدة وقتذاك عن مركز بغداد لتجنيبهم مشاكل التقسيم العرقي وسمي الحي الذي ما يزال قائما حتى اليوم بحي الاثوريين حيث يقع عند يسار الطريق العام النازل من بغداد باتجاه مصفى نفط الدورة او باتجاه الاحياء السكنية الكثيرة التي نشأت هناك. ويقال ايضا ان الآشوريين كان اغلبهم يعمل في مصفى نفط الدورة واختير لهم هذا الحي ليكونوا قريبين من مكان عملهم.

تقول ام جانيت، وهي قابلة مأذونة «نحن نعيش في هذا الحي منذ اكثر من ستين سنة والآن نهدد بالانتقال الى مناطق اخرى ولا نعرف الى اين نذهب». بينما يشرح صاحب دكان لبيع المواد الغذائية قائلا «انا ولدت هنا وتزوجت وزوجتي أنجبت اولادنا في هذا الحي واليوم يقولون لنا ان لا مكان لنا في الدورة ونحن من اوائل العراقيين الذين سكنوا الدورة ولا يوجد من يدافع عنا او يحمينا، فقد قتلوا ابن جارنا قبل ثلاثة اشهر لا لشيء سوى لأنه صاحب محل حلاقة رجالي، هاجمه المسلحون مساء وأمطروه بالرصاص ومعه اربعة زبائن من شباب الحي».

في عمق الدورة، حيث ينحني نهر دجلة ويدور حول بغداد مثل ام حانية (اخذت منطقة الدورة تسميتها من دوران النهر)، وبمحاذاة جرف نهر دجلة وفي المنطقة التي تسمى (البوعيثة) نسبة الى عشائر تحمل ذات الاسم وتنتمي الى الجبور يقيمون هناك ويعملون في زراعة اراضيهم وتربية ماشيتهم وهم اصحاب اطيان وليسوا فلاحين وينتمون بعمق لهذه المنطقة التي جرد صدام وعائلته غالبيتهم من املاكهم وبنى له ولابنته رغد وبعض اقاربه القصور المطلة على دجلة والحق بها المزارع.

ما بين بداية او الاطراف الغربية التي يقيم فيها الاشوريون وبين العمق الشرقي للدورة الذي يملكه البوعيثة، كانت مناطق زراعية غير سكنية خالية ونائية غير مأهولة ولم يفكر احد بالسكن فيها لبعدها عن بغداد، كانت هناك فقط منشآت مصفى الدورة الذي يرتفع برجه ومنه يخرج لهب لم ينطفئ بالرغم من قصف هذا المصفى لمرات عدة خلال الحروب المتعاقبة سواء من قبل ايران او القوات الاميركية.

فجأة بدأت الدورة تكبر وتتسع من جهتها الغربية القريبة من حي الاشوريين حيث تم تحويل الاراضي الزراعية الى سكنية وتم بناء الاسواق والمدارس والأحياء السكنية التي صارت تزحف باتجاه البوعيثة محيطة مصفى الدورة. حدث هذا بعد ان قامت الدولة بتوزيع الاراضي السكنية على المعلمين والصحافيين والعسكريين فنشأت احياء مثل حي المعلمين وحي الاعلام وحي الضباط.. وهكذا. انتبه لهذه الحركة العمرانية خير الله طلفاح خال صدام حسين ووالد زوجته ساجدة، وكان معروفا بحبه لامتلاك الاراضي حتى ان العراقيين كانوا يقولون سخرية ان الحاج، وهذه كنيته بين العراقيين، لم يكن يملك في بغداد سوى قطعتي ارض هما الكرخ والرصافة. اشترى الحاج، خير الله، غالبية اراضي الدورة من الدولة بعد ان اعتبرت اراضي عسكرية وحسب القانون فان سعر المتر المربع في هذه الحالة يكون 60 فلسا، اي مجانا، ثم باع الحاج هذه الاراضي حسب تسعيرته في المنطقة التي كانت تحمل اسم جمعية خير الله طلفاح وهي اوسع مناطق الدورة وله (خير الله) ولابنائه فيها قصور تطل على دجلة مباشرة.

حسب هذا الايجاز لتاريخ هذه المنطقة التي يرد تعريفها في الاخبار على انها منطقة ساخنة جدا، فان غالبية سكان الدورة هم من السنة والشيعة والمسيحيين بكل طوائفهم، يوجد في الدورة الكثير من مساجد المذهبين الشيعي والسني، كما توجد فيها اكثر من اربع كنائس، احدى هذه الكنائس تدعى كنيسة السيدة مريم العذراء وكان المعماري العراقي المعروف عدنان اسود قد وضع تصميمها ونحت بعض الافاريز الحائطية فيها وتحولت الى قطعة معمارية فنية ابداعية، وللأسف لم تسلم هذه الكنيسة من تفجير دبرته جماعة تكفيرية. كما يعيش فيها الكثير من ابناء الديانتين اليزيدية والصابئة حيث يقع معبدهم (المندي) على مسافة قريبة من الدورة، في حي القادسية على ضفاف دجلة وهذه عادة الصابئة في اقامة معابدهم على ضفاف الانهر لتعميد ابناء الطائفة بماء النهر الجاري.

لم يحدث في تاريخ العراق وفي مختلف مراحله ان تم سؤال العراقي عن دينه او طائفته او مذهبه او قوميته، فعندما تمنح له قطعة ارض كونه موظفا في الدولة او عندما يشتري قطعة الارض السكنية من ماله الخاص، وانا شخصيا كنت من سكنة حي الاعلام في قلب الدورة في بداية الثمانينات وكان لنا جيران من الشيعة والسنة وكنيسة المسيحيين كانت على بعد 500 متر من بيتنا. وحتى اليوم لا احد يعرف كيف تم هذا الفرز الطائفي لسكان الدورة.

تنقسم الدورة طائفيا اليوم كالتالي، حي المهدي في بداية الدورة، شيعة، ثم يأتي حي الاعلام المصنف مع السنة، اما حي الميكانيك فهو مختلط من السنة والشيعة والمسيحيين الذين تم تهجير غالبيتهم بعد تفجير كنائسهم هناك، اما حي المعلمين والبوعيثة فهذه احياء سنية. وعندما نتجه جنوبا وبمحاذاة الطريق الذي يربط بين بغداد واليوسفية باتجاه مدن الحلة او كربلاء والنجف حيث يقع هور رجب تزداد المسألة تعقيدا اذ ان هذا الحي تم توزيع اراضيه لنواب الضباط (رقيب) في الجيش العراقي من غير ان يتم تصنيفهم سواء كانوا من السنة او الشيعة. ويعترف النائب ضابط المتقاعد صالح عبد الله (سني) بان عمليات تهجير قسرية مارستها جهات سنية ضد الشيعة في مناطق واسعة من الدورة التي وقعت تحت سيطرة المسلحين السنة لفترة طويلة، وما زالت بعض المناطق بأيديهم حتى اليوم.

في اليوم الرابع من زيارتي لبغداد هاتفت صديقاً لي وهو صحافي وزوجته كانت زميلة لنا واليوم هي استاذة في كلية الاداب بجامعة بغداد، مضى اكثر من 18 عاما دون ان نلتقي اذ كانا يعملان في ليبيا وعادا قبيل تغيير النظام عام 2002، اصرا على دعوتي لتناول اكلة عراقية وقت الغداء، ذلك ان دعوات العشاء اختفت في بغداد بسبب منع التجوال والظروف الامنية، واتفقنا على زيارتهما يوم السبت مبكرا لأعود مبكرا. عند الساعة العاشرة من صباح السبت كنت اعبر، مع قريب لي ساعدني في تنقلاتي بواسطة سيارته، جسر الطابقين، كان اسمه جسر القائد ذو الطابقين واليوم وبعد سيطرة المجلس الاعلى الاسلامي في العراق والذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم على الجسر من جهة الرصافة (الكرادة) صار اسمه جسر الحسنين ( الامامين الحسن والحسين).

اتجهنا نحو الدورة، لكن ما حدث هو اننا وجدنا انفسنا في ميدان يشبه ميادين المعارك، طائرات هليكوبتر اميركية تحلق بكثافة فوق الجزء الغربي من المدينة بينما دبابات ومدرعات اميركية وعراقية تسد الطرق ورجال من القوات الاميركية والعراقية يتجولون في الشوارع بكامل اسلحتهم وهم يتخذون مواقع احتياطية خشية من هجمات. انزلقنا الى شارع صغير فرعي في حي سكني، كان الشارع خاليا تماما من المارة والدكاكين مغلقة، لكننا كنا نرى ان هناك عيونا تتابع المشهد من خلال فتحات ابواب الحدائق. بعد قليل بدأ اطلاق النار من طرف واحد، اصوات اطلاق النار كانت قريبة وقوية، بعد قليل جاء الرد عليها، ميزنا اصوات اطلاق النار التي ردت كانت تنطلق من رشاشات كلاشنيكوف. وجدنا انفسنا في ورطة حقيقية، كنت اعتقد ان هذه الورطة او المفاجأة هي مجرد صدفة نادرة الحدوث، لكنني عرفت فيما بعد بان هذا المشهد يتكرر في الدورة باستمرار ويكاد يكون يوميا.

عندما حاولت الاتصال بصديقي لاعتذر منه لعدم الحضور للاسباب الراهنة اكتشفت ان هاتفي الموبايل قد مات تماما، لا يتصل ولا يستقبل مع ان هناك اشارة وجود شبكة جيدة، قال لي قريبي «لا تعتمد هنا على اشارة الشبكة فهذه اشارة وهمية او شبكة وهمية»، مشاكل الاتصال بواسطة الموبايل كثيرة ومعقدة اذ تنقطع الاتصالات وفي جميع الشبكات ليوم او اكثر من غير ان تعرف السبب او حتى من غير ان تحصل على ايضاح او اعتذار من الشبكات المعنية التي تحصد ارباحا بملايين الدولارات شهريا.

تجرأ احد السكان وخرج مراقبا الموقف، تشبثنا به ليعلمنا عن طبيعة الحال، دعانا للاستراحة في حديقة منزله بعد ان أطمأن لنا وعرف بأنني صحافي من خارج العراق، سمح لنا بان نذكر لقبه (الجبوري)، مدرس لغة انجليزية متقاعد، قال «كنت اعمل مدرسا في ثانوية الدورة التي تقع بين حي المهدي والميكانيك واليوم لي محل للالبسة النسائية في سوق الدورة»، احضر لنا ولده عرفان الشاي «سالت عرفان عن عمره، قال انا في نهاية دراستي الاعدادية وسامتحن لأحصل على البكالوريا، وراح يشرح لنا ظروف حياتهم الصعبة فالمدرسة تغلق ابوابها لثلاثة ايام او اسبوع احيانا بسبب هذه الظروف. قال «نحن ندرس بلا كهرباء ولا حتى ماء وفي ظروف مستحيلة وعلينا ان نحصل على درجات عالية لندخل كليات مهمة، انا اريد ان ادرس الهندسة الميكانيكية ولكن كيف في ظل هذه الظروف»، اضاف قائلا «نحن حبيسو البيت، عندي حاسوب (كومبيوتر) لكن خدمات الانترنت سيئة هنا، حاليا امضي جل وقتي في الدراسة والله كريم».

قال والده مدرس اللغة الانجليزية السابق «نحن عائلة تتكون من سبعة افراد،، زوجتي ايضا كانت معلمة في مدرسة بلاط الشهداء، هذه المدرسة تعرضت لقصف صاروخي خلال الحرب العراقية الايرانية وراح فيها الكثير من الضحايا من الطالبات والمعلمات، ولي ثلاث بنات وولدان اكبرهم عرفان وأصغرهم آية عمرها تسع سنوات، البنات لا يذهبن الى مدارسهن بسبب سوء الاوضاع الامنية ونخشى ان يتعرضن للاختطاف او القتل لهذا نقوم انا وزوجتي بتدريسهن هنا بالاتفاق مع ادارات مدارسهن على ان يذهبن خلال الامتحانات الفصلية وهناك الكثير من اولياء امور الطالبات قد توصلوا لمثل هذه الحلول مع ادارات المدارس خاصة في المناطق الساخنة».

اعلمني مضيفي بان «في مثل هذه الحالات عندما يتم تطويق الدورة ومحاصرتها تقوم القوات الاميركية بالتشويش على شبكات الموبايلات كي لا يتبادل (المجاهدون) المعلومات حول وجود القوات الاميركية وعددها»، مشيرا الى ان «فترات الحصار هذه تمتد لأيام عدة ويضطر الناس الى المضي مشيا الى اعمالهم».

ولا ينكر الجبوري وجود من يسميهم بالمجاهدين، قال «نعم توجد في هذه المنطقة مقاومة عراقية ضد القوات الاميركية والعراقية وهذه المقاومة سنية ولم نسمع في الحي الذي نقيم فيه على الاقل بحالات تهجير لعوائل شيعية، وغالبا ما نجد منشورات موقعة باسماء كجيش الراشدين او جيش محمد او تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وغيرها تمنع فتح المحلات التجارية او تمنع ذهاب الناس الى اعمالهم وهكذا نحن بين سندان القوات الاميركية ومطرقة (المجاهدين)».

بعيد الساعة الواحدة ظهرا انسحبت الهليكوبترات من فضاء الدورة كما جرجرت المدرعات والقوات الاميركية والعراقية آلياتها وأفرادها وعادت الحركة الى شوارع الحي فقررنا الانسحاب الفوري من المنطقة كي لا نتعرض لحصار آخر.

في ليلة ذات اليوم كنت في حديث مع عضو مجلس النواب مثال الآلوسي في منزله عن الاوضاع السياسية في العراق عندما ظهر عدد من العراقيات والعراقيين على شاشة احدى الفضائيات العراقية وهم يشكون من اقامة جدار الأعظمية العازل، كانوا جميعهم من اهالي الاعظمية، واعتبروا هذا الجدار عارا على العراقيين وسيشكل بالنسبة لهم سجنا كبيرا. حدق الآلوسي في شاشة التلفزيون قبل ان ينفجر غضبا وقال «ارايتم الى اين وصلت الاوضاع السياسية.. والله هذا عيب على العراق والعراقيين ان يقسموا بغداد الى احياء سنية وأخرى شيعية بعدما اطلقوا هذه الصفات الطائفية على المحافظات. نحن كلنا عراقيون ماذا يعني هذا شيعي وذاك سني»، كان يجلس معنا احد اعضاء حزب الامة العراقية الذي يتزعمه الآلوسي، قال «انا سني لكنني متزوج من شيعية منذ سنوات طويلة فهل هذا يعني اني يجب ان اقاتل أخوال اولادي او هم يقاتلون زوج اختهم، هذا عيب».

يصف اهالي الاعظمية السور الذي فرض عليهم بسور الصين العظيم، وبعضهم يشبهه بالأسوار المفروضة حول المدن الفلسطينية من قبل السلطات الاسرائيلية. وعلى العموم فهو سور كونكريتي بلون الاسمنت عال وعازل للمنطقة عن باقي مناطق بغداد.

استمدت الأعظمية اسمها من الامام الاعظم، النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة المولود في الكوفة سنة (80 هـ 699م)، وهو شيخ احد المذاهب السنية الاربع، الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي، والذي يقوم مرقده ومسجده في الركن الرئيسي للاعظمية في جهة الرصافة من بغداد مقابلا للامام موسى الكاظم الذي يقع ضريحه ومسجده في جهة الكرخ وما يفصل بين الكاظمية والاعظمية نهر دجلة ويربط بينهما جسر الائمة.

ويعود تاريخ الاعظمية الى العصر العباسي حيث تذكر المصادر التاريخية ان الخلفاء العباسيين واغنياء بغداد كانوا يقيمون اماسي السمر والغناء في قصور شبه سرية في بساتين الاعظمية التي كانت بعيدة عن اعين العامة، بل ان قصر ام حبيب ابنة هارون الرشيد يقوم حتى اليوم في الباب المعظم على نهر دجلة عند اطراف الاعظمية وقتذاك.

تتألف الاعظمية من احياء سكنية مشهورة مثل راغبة خاتون والسفينة ومحلة الشيوخ وشارع طه والكسرة والمقبرة الملكية وراس الحواش والصليخ. يسكن هذه الاحياء عوائل بغدادية اصيلة سنية وشيعية لكن الغالبية فيها من العرب السنة الذين يتبعون مذهبيا الامام ابو حنيفة، وتضم احياء سكنية راقية ومترفة الى جانب احيائها المتواضعة لكنها ليست فقيرة.

وعرف عن الرجال من اهالي الاعظمية اجادتهم ترتيل وتجويد القرآن الكريم حيث تتلمذ غالبيتهم على ايدي شيوخ كبار في مسجد الامام الاعظم، والبعض من هؤلاء تحول الى قراءة المقام العراقي واشتهر به، بل ان خريجي مدرسة الأعظمية لقراءة المقام العراقي هم الافضل اليوم ويأتي في مقدمتهم حسين الأعظمي وسعد الأعظمي.

كما اشتهر رجال الأعظمية ومنذ وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتفوقهم في رياضة (الزورخانة) الشعبية ورياضتي الملاكمة والمصارعة لهذا نجد ان اول ناد رياضي في بغداد تم بناؤه في الأعظمية وهو قائم حتى اليوم باسم النادي الاولمبي.

لقد أغرى موقع الأعظمية وخاصة المناطق المحاذية لنهر دجلة الرئيس العراقي السابق صدام حسين على ان يبني لزوجته الاولى ساجدة خير الله ثلاثة قصور مقتطعا من اراضي متنزه كورنيش الأعظمية الذي كان مخصصا لعامة الناس اضافة الى ثلاثة قصور لقادة بعثيين ومنع أي عراقي من شراء العقارات في الاعظمية ما لم يكن من اهالي المنطقة ذاتها.

تتوسط الجهة الجنوبية للاعظمية ساحة (ميدان) عنتر التي كانت تضم تمثالا لعنتر بن شداد منفذ بأسلوب تجريدي وتم نقل التمثال الى متنزه الزوراء والغاء الساحة التي تؤدي الى كورنيش الاعظمية غربا ومركز الاعظمية وحي الصليخ شمالا وشارع المشاتل والطريق السريع شرقا، هذا على افتراض اننا نترك خلف ظهرنا منطقة الكسرة التي كانت تضم بنايات البلاط الملكي.

عند يمين ساحة عنتر يبدأ خط سور الأعظمية الذي يعزل شارع المشاتل ومن ثم الطريق السريع عن الأعظمية، او بالأحرى يعزلها عن هذه المناطق ثم يمتد شمالا حتى تخوم الصليخ، وفي الجهة الغربية من الأعظمية يعزل هذا السور المدينة عن نهر دجلة.

يعلو السور بارتفاع ستة اقدام ومبني من الكونكريت المسلح ولم يكتمل حتى الان في جميع اجزائه بل تعمل الفرق الهندسية في القوات الاميركية ليلا لإكماله بعيدا عن ضجيج النهار واحتمالات السيارات المفخخة والانتحاريين.

على ان سور الاعظمية هو ليس اول الاسوار التي عزلت بين مناطق بغداد المتلاصقة بحميمية، فهناك السور الذي يفصل منطقة الحارثية قرب ساحة الاحتفالات الكبرى في جانب الكرخ عن حدود المنطقة الخضراء. سور الاعظمية اثار الكثير من الاحتجاجات السياسية والاجتماعية سواء من قبل اهالي الأعظمية او غيرهم. عدنان الدليمي رئيس كتلة التوافق في مجلس النواب (الرلمان) العراقي، قال «إن الجدار الذي سيفصل حي الأعظمية عن المناطق المجاورة ذات الأغلبية الشيعية، سيولد المزيد من النزاع في المدينة»، واصفا هذا الجدار بـ«الكارثة».. وأضاف الدليمي قائلا «إن جدار الأعظمية سيفصل الحي عن بقية أنحاء بغداد ويؤدي لمزيد من العنف في المدينة».

الجيش الاميركي برر قيام هذا الجدار على انه «يهدف لمنع تصاعد أعمال العنف الطائفي بين السنة والشيعة في المدينة، وأن الأعظمية ستصبح لدى انتهاء العمل في الجدار مسيجة بجدار فاصل عليه بوابات يحرسها رجال شرطة عراقيون يراقبون الدخول إليها والخروج منها».

وفي تصريحات صحافية للكابتن سكوت مكليرن من كتيبة الإسناد 407 التي تقوم ببناء الجدار قائلا: «إن المسلحين الشيعة يأتون إلى هنا لمهاجمة السنة ويرد السنة بعمليات انتقامية». وكانت هذه الكتيبة قد بدأت في عملية البناء في العاشر من ابريل، ويمارس الجنود الأميركيون مهمتهم كل ليلة لإنجاز المشروع بأسرع ما يمكن.

وحسب بيان للجيش الأميركي فإن «الجدار الخرساني سيشمل حواجز فاصلة بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف وإنه «جزء رئيسي من الاستراتيجية الجديدة التي تتبعها القوات الأميركية والعراقية لكسر دائرة العنف التي تعيشها بغداد».

ماجد عبد العزيز صاحب محل مواد كهربائية في منطقة راس الحواش في وسط الأعظمية وصف جدار الاعظمية بـ«الجدار العازل الذي حول منطقتنا المنفتحة على النهر والبساتين وعلى بقية الاحياء البغدادية الى سجن كبير يحاصرها بلونه الكونكريتي القاتم الكريه»، واضاف عبد العزيز قائلا لـ«الشرق الأوسط» ان «هذا الجدار هو عقوبة لأهالي الأعظمية وليس حماية لهم».

أم تحسين، امرأة في اواسط الخمسينات من عمرها كانت تنتظر وصول ولدها من جامعته عند باب بيتها، قالت لنا «ممن يحموننا بواسطة هذا الجدار، الاعظمية فيها سنة وشيعة ومسيحيون عرب واكراد، انا شيعية واسكن هنا منذ تزوجت قبل اكثر من 30 عاما ولم اتعرض لاية مضايقة او يتعرض جيراني لمضايقات بل نحن تحولنا الى عائلة واحدة»، وقبل ان تغلق بابا حديقة بيتها قالت «اخشى ان يقيموا غدا جدراناً عالية بين بيت وآخر».