أيام في العراق (6) الدخول للمنطقة الخضراء.. بـ«الألوان»

لون البطاقة يحدد مكانة صاحبها والمدخل الذي يستطيع المرور منه وضيوفه

قوس النصر في ساحة الاحتفالات ببغداد الذي يمثل كف صدام حسين تحمل السيف العربي ويلاحظ تحطيم الجزء الايسر من النصب («الشرق الاوسط»)
TT

يمر المواطن العراقي، او أي شخص آخر بالقرب من اسوار المنطقة الدولية في بغداد والتي تحمل تسمية (المنطقة الخضراء) وهو يحدق بدهشة نحو هذه الاسوار الكونكريتية العالية المدججة بأبراج المراقبة التي تصل منها فوهات بنادق القناصة السريعة والدقيقة الاطلاق. ما من عراقي او غيره مر من هناك او سمع عن المنطقة الخضراء الا وانشغل ذهنه بهذه المنطقة التي تبدو وكأنها كوكب آخر يقع وسط حياتهم. غالبية اصدقائي، هناك او هنا يسألونني مرارا عما شاهدته في المنطقة الخضراء وكيف يعيش سكانها، كما ان بعض اهالي بغداد قد نسجوا في خيالهم حكايات غير واقعية عن حياة هذه المنطقة وسكانها.

«الشرق الاوسط» في حلقتها السادسة تعلن عن اكتشافها الاولي عن هذه المنطقة التي دخلنا اليها وصورنا ما امكننا تصويره ولنعلن عبر حلقتي اليوم والغد عن تفاصيل المنطقة الخضراء.

اذا دققت النظر جيدا في اعلى البنايات المحيطة بالمنطقة الخضراء فسوف ترصد هناك ثمة قناصين اميركيين يوجهون فوهات بنادقهم الدقيقة الرصد والسريعة الاطلاق نحو جهات معينة، كما سترى اعينهم مشدودة الى نواظير دقيقة ترصد كل حركة وأصابعهم ملتصقة بزناد البنادق. هؤلاء القناصة ينتشرون فوق اسطح ابنية فندق الرشيد ومجلس الوزراء ومجلس النواب (البرلمان) العراقي، ووزارة التخطيط السابقة.

القناصة والكلاب المدربة على شم رائحة المتفجرات والقوات الاميركية الخاصة هي المسؤولة الاولى عن حماية المنطقة الخضراء، هناك ايضا في الداخل قوات اميركية وقوات مختلفة الجنسيات وشركات حماية خاصة غالبية افرادها لا يجيدون الانجليزية او العربية منها قوات من التيبت او تايلاند او جورجيا.

الاسم الرسمي للمنطقة الخضراء هو المنطقة الدولية «International Zone» وسوف تجد اللافتة التي تحمل هذا الاسم عند نقاط التفتيش المنتشرة عند بوابات وفي داخل المنطقة الدولية، وهي كما معروف المنطقة الاكثر حماية في العراق كله بسبب وجود مكاتب ومقرات سكن السفراء الاجانب وسفاراته، خاصة السفارتين الاميركية والبريطانية، وباستثناء السفارتين الالمانية التي تقع في نفس عنوانها السابق في منطقة الكرادة، والفرنسية التي تقع بنايتها قرب ساحة كهرمانة، فان جميع السفارات الغربية تقع مقراتها ومواقع سكن سفرائها في حدود المنطقة الخضراء بالاضافة طبعا الى قصور ومساكن كبار المسؤولين العراقيين بدءا برئيس الحكومة ومرورا بعدد كبير من الوزراء واعضاء مجلس النواب ونزولا الى حرس وسواق وفرق حماية رئيس الحكومتين الحالية والسابقة (الجعفري). اما رئيس الجمهورية طالباني فهو يقيم مع بعض مستشاريه خارج المنطقة الخضراء.

تحتل المنطقة الخضراء مساحة اكثر من ثلاثة احياء وجسر المعلق. وحدودها تمتد من حي القادسية وحي الكندي غربا، وجسر الجمهورية ومتنزه الزوراء شمالا، ويحتضنها نهر دجلة من الشرق والجنوب.وبذلك تكون قد احتلت مساحة حي كرادة مريم، وحي التشريع، وام العظام، اضافة الى جزء كبير من متنزه الزوراء (اكبر متنزه شعبي في بغداد) وساحة الاحتفالات الكبرى بما تضم من تماثيل ونصب وقاعات سينما ومسارح وصالات عروض تشكيلية، كما يدخل ضمن المنطقة طريق القادسية السريع ونفق فندق الرشيد والفندق ذاته ايضا والمساحات المحيطة به، وتعبر حدودها الى جانب الرصافة حيث تسيطر على الجزء المحيط بالجسر المعلق في جهة منطقة الزوية في الكرادة الشرقية.

وللمنطقة الخضراء ثلاثة مداخل رئيسية، أي متصلة بالشوارع العامة يمكن الدخول اليها مباشرة من الشارع العام، واهم هذه المداخل هي بوابة جسر الجمهورية، او التي تقع قبيل هذا الجسر من جهة الكرخ بالقرب من بناية وزارة التخطيط سابقا، اما المدخل الثاني فيقع قرب فندق الرشيد، وهذا المدخل يقودك الى بنايتي رئاسة الوزراء وقصر المؤتمرات الذي يتخذ منه مجلس النواب (البرلمان) العراقي مقرا له، ويقع المدخل الثالث عند بداية الجسر المعلق من جهة الرصافة.

هناك ايضا مدخل اخر يحتاج الى موافقات امنية للوصول اليه، وهو مدخل القادسية.

عند كل مدخل تستقر قوة امنية كبيرة تتألف من افراد من القوات الاميركية مدججين بالأسلحة المدعومة بدبابة او قوة مدرعة ومترجمين وكلاب خاصة لشم رائحة المتفجرات.

ولعل اهم ما في موضوع المنطقة الخضراء هو الدخول اليها، فهناك من يحمل البطاقات (الباجات) التي تحمل تواقيع وتراخيص من السفارتين الاميركية والبريطانية ورئاسة مجلس الوزراء مع تخويل بالدخول في أي وقت شاء ومن اية بوابة يريد ومنحه الحق باصطحاب ضيف الى داخل المنطقة. حاملو هذه الباجات يعدون من المحظوظين جدا فهناك من يحمل باج (بطاقة) موقعة من قبل احدى السفارتين فقط او من رئاسة مجلس الوزراء اضافة الى توقيع احدى السفارتين، البريطانية او الاميركية، واضعف هذه البطاقات الموقعة من قبل رئاسة مجلس الوزراء فقط اذ لا تخول صاحبها او حاملها الا الدخول الى بناية المجلس.

وتدل الوان البطاقات، او الباجات على اهميتها، وهي تبدأ بالزرقاء ثم الخضراء فالصفراء والحمراء، على ان جميع حاملي البطاقات ومهما كانت درجاتهم الوظيفية، باستثناء الوزراء، يخضعون لتفتيش دقيق وفي احيان كثيرة يكون تفتيشا مذلا.

هذه المناطق، وقبل ان تتحول الى منطقة دولية كانت مفتوحة امام حركة الناس والباصات والسيارات الاعتيادية حتى السنوات الاولى من الثمانينات، ثم بقيت مفتوحة امام حركة السيارات الصغيرة باستثناء اجزاء بسيطة، وكانت مأهولة بالسكان من غير العاملين في القصر الجمهوري من اصحاب العقارات الكائنة هناك.

ولو اجرينا مقارنة سريعة بين المساحة التي كان يسيطر عليها صدام حسين، والمساحة التي تسيطر عليها المنطقة الدولية، الخضراء، لاكتشفنا ان اجهزة صدام حسين كانت تسيطر على اقل من ثلث المساحة المسيطر عليها حاليا من قبل القوات الاميركية والمسؤولين الاجانب والعراقيين.

كانت منطقة كرادة مريم وحتى عام 1979 مفتوحة امام العراقيين لاجتيازها سواء بسياراتهم او بواسطة باصات النقل العام الحكومية، الرقم 14، او مشيا على الاقدام، خاصة وان المنطقة تضم منازل سكنية لعوائل بغدادية ومنذ سنوات طويلة.

ومنذ ان تولى صدام حسين مسؤولية الدولة كرئيس للجمهورية تمت السيطرة تدريجيا على عموم المنطقة. اما مساكن وفلل المواطنين فقد تمت مصادرتها وتعويض مالكيها.

حي كرادة مريم من الاحياء السكنية البغدادية القديمة، وسمي كذلك لوجود كنيسة مريم العذراء هناك، وجغرافياً يحتل واحدة من اجمل مناطق بغداد وعلى ضفاف نهر دجلة وغالبية فيلاته بنيت اما قبيل العهد الملكي في العراق (1921ـ1958) وخلاله وبعده. ويعد القصر الذي سمي فيما بعد بالقصر الجمهوري اهم بناية فيه حيث بني هذا القصر في العهد الملكي ليتزوج فيه الملك فيصل الثاني في ذات العام الذي قتل فيه، قتل مع عائلته في 14 يوليو (تموز) 1958، وعلى مقربة منه يقع مجلس الوزراء العراقي في العهد الملكي والذي اتخذ منه صدام حسين مكتبا له عندما كان نائبا للرئيس احمد حسن البكر وتحول بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 الى مقر لوزارة الدفاع، هناك ايضا تقع فيلا صباح نجل رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري السعيد والتي كان يسكنها أرشد ياسين زوج الاخت غير الشقيقة لصدام ومرافقه الاقدم.يذكر ان صدام حسين لم يكن يحب او يفضل البقاء في القصر الجمهوري، وعندما تسلم مسوؤلياته كرئيس للجمهورية ابقى على مكاتبه في مجلس الوزراء السابق وصار يستقبل كبار الزوار العرب والاجانب والمسؤولين العراقيين في القصر الجمهوري الذي لم ينم فيه، فالمعروف عن الرئيس العراقي السابق عدم اتخاذه من مقر او مسكن كان لغيره، لهذا بنى عدة قصور في بغداد لإقامته فقط بينما بقيت عائلته في قصر الرضوانية القريب من المطار الاثير الى نفسه والذي يضم بحيرات ومزارع ومسابح، وأكثر الظن ان صدام حسين كان معتقلا في احدى غرف قصره الذي تحول الى قاعدة عسكرية اميركية بعد الاحتلال في ابريل (نيسان)، حيث يمكن رؤيته من خلال نوافذ الطائرة قبل ان تحط في مطار بغداد الدولي. والحق صدام حسين الكثير من الابنية بالقصر الجمهوري الذي كان يعرف بذي القبة الخضراء ومنها نواد رياضية صارت اليوم نوادي مخصصة للسفارتين الاميركية والبريطانية.

وتتخذ السفارة الاميركية من القصر الجمهوري، الذي هو احد مشاريع مجلس الاعمار في عهد نوري السعيد، مقرا لها. اضاف صدام ابنية كثيرة الى منطقة كرادة مريم، منها قصور الضيافة وقصور كبار المسؤولين على نهر دجلة، وثلاثة قصور مهمة، هي، قصر السجود وقصر السلام وقصر عدنان، ولكل قصر عمارته الخاصة التي تمتاز بالفخامة والسعة وتنوع حدائقها. كانت بعض هذه القصور تستخدم كقصور ضيافة لكبار الزوار، وبعضها لاستقبال المهنئين في المناسبات الخاصة، بينما استخدم الرئيس العراقي السابق قصر السجود كاحد المواقع التي يسكنها، وشق البحيرات وسط المنطقة، هي ذات البحيرات التي يصطاد فيها حراس الحكومة والمسؤولين الجدد اسماك الزينة لشوائها واكلها، وفي زيارتي الاخيرة شاهدت احدى هذه البحيرات وقد تحولت الى بركة آسنة حيث تتجمع فيها الزبالة واختفت الأوزات البيضاء التي كانت تسبح في هذه البحيرات والتي كنت قد شاهدتها في زيارة سابقة، وهناك من أسر لي بان حرس الحكومة والمسؤولين قد ذبحوا الاوزات وحولوها الى وجبات غذائية، والعهدة على من نقل لي هذه التفاصيل.

كانت ساحة الاحتفالات الكبرى التي تتميز بشرفتها الشهيرة التي كان يحيي من خلالها الرئيس العراقي السابق قوات الجيش العراقي في المناسبات الوطنية، او لتحية المواطنين في مناسبات خاصة مثل عيد ميلاده. وغالبا ما تظهر هذه الشرفة في الافلام الاخبارية والصور الصحافية. وتشتهر هذه الساحة ببوابتها المسماة بقوس النصر والتي تجسدها منحوتتان ضخمتان لنسخة حقيقية من كف صدام وهو يحمل السيف العربي بينما تناثرت عند ارضية النصب خوذ حقيقية لجنود ايرانيين تم نقلها من ساحات معارك الحرب العراقية الايرانية والتي كانت تسمى رسميا واعلاميا بـ«قادسية صدام» احتذاء بقادسية سعد بن ابي وقاص.

يذكر ان النحات العراقي الراحل خالد الرحال هو من صمم فكرة قوس النصر على ان تكون نسخة حقيقية من كف صدام هي التي تحمل السيف العربي بينما اقترح صدام بنفسه فكرة الخوذ العسكرية الايرانية.

وإذا كانت هذه المنطقة في عهد صدام ممنوعة الى حد ما على العراقيين، فانها تحولت في عهد الاحتلال الى منطقة محرمة جدا وللغاية على العراقيين. وهذا يعني ان القوات الاميركية اضافت الى المنطقة المحرمة مساحات جديدة وحرمت العراقيين من استخدام الجسر المعلق البالغ الاهمية في اختصار المسافة بين مناطق الكرخ والرصافة، كذلك حرمت على العراقيين استخدام طريق القادسية السريع والنفق الذي يربط بين ساحة النسور وفندق الرشيد ومن ثم العبور من خلال جسر الجمهورية الى ساحة التحرير في قلب رصافة بغداد، ناهيكم عن حرمان العوائل البغدادية من التنزه في جزء كبير ومهم من متنزه الزوراء وساحة الاحتفالات الكبرى.

المشكلة ان القوات الاميركية لم تحافظ على المناطق الاضافية التي ضمتها الى المنطقة الخضراء بل الحقت الخراب بساحة الاحتفالات الكبرى بما في ذلك بناية الشرفة الشهيرة وقاعات الاستقبال كما نال الخراب القصور الرئاسية الذي تسيطر عليها القوات الاميركية وتستخدمها كمقرات لاجهزتها الامنية والمخابراتية.

علي العقابي، معاون مدير أمن المنطقة الدولية، المنطقة الخضراء، يؤكد لنا وهو يشير الى خارطة المنطقة الخضراء، بأنهم لا يتوفرون على الرقم الحقيقي لمساحة المنطقة الدولية، وربما وجود مثل هذه المعلومة ولكن قيد السجلات الامنية فقط.

ويكتفي العقابي بالقول بأنها «منطقة واسعة»، موضحا لـ«الشرق الأوسط» بان «المنطقة الخضراء تضم منازل خاصة ويملكها عراقيون مقيمون في هذه المنطقة منذ سنوات طويلة وهناك من عاد الى منزله الذي كان ملكا له ثم تمت مصادرته في عهد صدام ووافق على تسلم مبلغ بدل البيت رغما عنه وهؤلاء أحرار في املاكهم».

في مقهى قريب جلسنا نشرب الشاي العراقي المطيب بالهيل، يقع المقهى ضمن سوق كبير تابع لمجمع سكني كان مخصصا في عهد صدام حسين للقصر الجمهوري وخصصت شققه الضخمة لموظفي وضباط القصر الجمهوري. وحسب العقابي فان «هذا المجمع والذي يحمل تسمية مجمع القادسية فانه تابع للدولة وشققه مؤجرة ببدل ايجارات رمزية لموظفي ديوان رئاسة الوزراء ولبعض اعضاء مجلس النواب (البرلمان) العراقي وموظفي البرلمان».

ويوضح العقابي قائلا «عندما سقط نظام صدام حسين خرجت عوائل بعض الضباط وموظفي القصر، لكنها سرعان ما عادت الى شققها بعدما شعروا هنا بالامان وعدم التعرض لهم، وهناك نفر من العراقيين الذين سيطروا على بيوت وفيلات ضخمة وعلى قسم من شقق المنطقة بالقوة مع انهم لم يكونوا من سكان المنطقة في يوم ما، وهؤلاء من اطلق عليهم شعبيا تسمية (الحواسم) حيث تم اخراجهم بصورة قانونية».

يقول العقابي ان «كل عمارة تتكون من اربعة طوابق، وبدل ايجارات الشقق التي تقع في الطابقين الاول والثاني هي 10% من راتب الموظف او الساكن، و4% بالنسبة لسكنة الطابقين الثالث والرابع، وكل شقة تتألف من ثلاث غرف نوم وصالة كبيرة»، مشيرا الى ان «هذا المجمع يضم جميع اطياف الشعب العراقي وليست هناك اية تفرقة فالجميع يعيشون بسلام هنا». ويضم مجمع القادسية حسبما يذكر معاون مدير أمن المنطقة الدولية 750 شقة، أي هنا تسكن 750 عائلة يتوزع اولادهم وبناتهم على سبعة مدارس ابتدائية وثانوية، كما يضم المجمع مستشفى وأسواقا بمحلات غذائية واستهلاكية ومحلات للملابس والمواد الاليكترونية وصالونات حلاقة نسائية ورجالية ومخابز ومقاهي ومطاعم: هذا يعني ان كل شيء متوفر لسكان المجمع وهم لا يحتاجون الذهاب الى خارج المنطقة الخضراء خاصة وان غالبية سكان المجمع هم من موظفي رئاسة الوزراء والبرلمان اللذين يقعان في المنطقة الخضراء».

الا ان هذا لا يعني ان العوائل التي تسكن في هذا المجمع او في بيوت اخرى في المنطقة الدولية هم سجناء هنا، يقول العقابي «هناك هويات تعريف (باجات) صادرة عن الجهات الامنية في المنطقة، وهي باجات زرقاء تمنح للساكنين، وهناك من يعمل في رئاسة الوزراء او في دوائر اخرى داخل او خارج المنطقة الخضراء ويحمل «باج» تعريفيا خاصا به يمكنه من الخروج والدخول الى المنطقة»، ويضيف قائلا «اذا كان للعائلة ضيف من خارج المنطقة الخضراء فبامكان الساكن هنا استقباله على مسؤوليته الخاصة بعد ان يُظهر باجه وان يعرف بالضيف من خلال بطاقة تعريفية».