النزاع على السلطة يشغل القوى السياسية والعسكرية والقضائية في باكستان

صلاحيات حل الحكومة وتعيين قادة الجيش تتقلب بين التعديلات الدستورية

TT

الحكم الاستبدادي، سواء كان عسكريا أم مدنيا، ليس وضعاً غير مألوف في باكستان. وحقيقة الامر انه منذ الاستقلال عام 1947 كان من النادر ان تحكم حكومة تمثل الشعب مباشرة. وقد اكملت باكستان دورة كاملة من ستين عاماً منذ استقلالها بتجارب عدة في أشكال الحكم البرلماني والرئاسي، سيكون لها تبعات على نظام الحكم بعد انتخابات يوم غد. وبعد عدة محاولات فاشلة لإقامة حكومة برلمانية على النمط الغربي يقودها رئيس الوزراء، تعود باكستان مرة اخرى الى ترتيب دستوري يتمتع فيه رئيس الدولة بمعظم الصلاحيات، بما في ذلك صلاحيات اقالة رئيس الوزراء وحل المجلس الاعلى للبرلمان.

وبعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، استغرقت العملية السياسية سنوات للتوصل الى دستور يقيم حكومة برلمانية. وتبنت باكستان دستورا في عام 1956 أقر الحكم البرلماني، ولكن من النوع الذي يمنح الرئيس صلاحيات أكبر من نموذج الحكومة البرلمانية على النمط الغربي.

وخلال ستين عاما من وجودها واجهت باكستان أزمات كثيرة في الحكم تنبع اساسا من عدم التوازن بين المؤسسات الذي بات الخصلة الاكثر تأثيراً على النظام السياسي الباكستاني. وكان المكون الأساسي للأزمة التي عانت منها الدولة الباكستانية هو غياب «قواعد اللعبة» التي تحدد العلاقات بين الطبقات الحاكمة، وبين المكونات المختلفة لبنية السلطة وبين الأقاليم التي تشكل فيدرالية باكستان.

وحسب تعبير المحللين والمؤرخين كان السبب الاهم لعدم ظهور «قواعد اللعبة» التجارب الكثيرة مع الدساتير والبنى السياسية المختلفة. فعلى سبيل المثال، المبادئ التي وضعت أولا في دستور عام 1956 والتي تسعى الى بنية برلمانية فيدرالية انعدمت عندما فرض دستور عام 1962 نظاما رئاسيا للحكم. وهذا انهار ايضا بفعل الحركة الجماهيرية بين عامي 1968 و1969 الموجهة ضد الحاكم العسكري الأول الجنرال أيوب خان.

وطرأ على العملية السياسية تغيراً مجدداً عندما منح دستور ذو الفقار علي بوتو الصادر عام 1973 سلطات واسعة لرئيس الوزراء في اطار نظام فيدرالي برلماني. وشرح المحلل السياسي حسن عسكري رضوي ان ذو الفقار علي بوتو ادخل بنود خاصة على الدستور عام 1973 لتأمين الدور المدني في الحكم من خلال الضمانات الدستورية ولتحديد دور المؤسسة العسكرية في الاطار المهني. وبعد طرد بوتو في انقلاب عسكري في عام 1977، عدل الجنرال ضياء الحق الدستور مرة اخرى وجعل الرئاسة سلطة اقوى يحق لها طرد رئيس الوزراء، وحل البرلمان وتعيين قادة الجيش. واعاد رئيس الوزراء السابق نواز شريف لفترة قصيرة السلطات الى منصب رئيس الوزراء وجعل رئاسة الدولة منصبا شرفيا بسحب سلطة حل الحكومة المنتخبة وسلطات لتعيين رئيس القوات المسلحة. وذكر رضوي ان «بسبب مخاوفه من انقلاب آخر، استخذم نواز شريف غالبيته البرلمانية عام 1997 لتقليص سلطات الرئيس لحل المجلس الوطني وتعيين رئيس اركان الجيش».

الا ان اصلاحات شريف الدستورية كانت قصيرة المدى حيث اعاد الجنرال مشرف باكستان مرة اخرى الى النظام الرئاسي باسترجاع سلطات فصل رئيس الوزراء وتعيين قادة الجيش. وفي الاطار الباكستاني، يعكس النزاع بين مكتب رئيس الدولة ورئيس الحكومة الدوائر التي يمثلونها. ويذكر انه بينما ينتخب الرئيس بطريقة غير مباشرة ويمثل دائما المؤسسات القوية للدولة، ينتخب رئيس الوزراء عن طريق التصويت المباشر ويمثل الدوائر الشعبية التي صوتت له.

ومن الملامح البارزة للتركيبة السياسية الحالي في باكستان الدمج بين منصب رئيس الدولة ورئاسة هيئة الاركان في شخص الرئيس الجنرال برويز مشرف، الذي وصف هذا الجانب بـ«وحدة القيادة». ويقول مشرف ان «وحدة القيادة» امر جوهري في مواجهة التهديدات الأمنية الخارجية التي تواجهها باكستان. ودمج الرئاسة مع قيادة الجيش منحت مشرف سلطات واسعة للتعامل مع الضغوط السياسية التي ظل يواجهها على مدى ثماني سنوات في السلطة. لهذا السبب تركزت حملة المعارضة بكاملها خلال العامين الأخيرين ضد احتفاظ مشرف بالرئاسة وقيادة الجيش. واعلان الجنرال مشرف تعيين رئيس جديد لهيئة اركان الجيش هذا الاسبوع قد يعني ظهور مركز سلطة جديد في السياسة الباكستانية بمرور الزمن في الوقت الذين يبدأ فيه المسؤولون التفكير في المسائل الحاسمة المتعلقة بالأمن الداخلي للبلاد ودور الجيش في التعامل مع التعسكر المتزايد في المجتمع الباكستاني. ويذكر ان قائد الجيش لا يتمتع بدور دستوري او رسمي في عملية اتخاذ القرار في باكستان. ولكن بسبب النفوذ الهائل للجيش ووكالات الاستخبارات في الدوائر السياسية، كان من المعتاد ان تستشير حكومات متعاقبة الجيش قبل اتخاذ أي قرار له اهمية وطنية. وقال امين عام الحزب الحاكم مشاهد حسين: «علينا تحديد قوانين اللعبة من اجل عمل المؤسسات المختلفة بطريقة سلسة ومن اجل بناء علاقات منسجمة بين القوى السياسية المتنافسة».

ويتوقع مسؤولون حكوميون ان تعيين رئيس جديد لهيئة الاركان يعني سحب الجيش رسميا من المشاركة في الحكومة. ولكن ذلك لا يعني ان الجيش الباكستاني سينسحب من اللعبة السياسية، فقد تتطلب الاحداث تدخل السلطات العسكرية. فعلى سبيل المثال، لعب قادة الجيش خلال الفترة التي اعقبت مقتل الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق في حادث تحكم طائرة عام 1988 دوراً حاسماً.

وعلى صعيد آخر، شهدت الأشهر السبعة الأخيرة ظهور مركز قوة يتمثل برئيس القضاء والمحكمة العليا في السياسة الباكستانية. ويعطي الدستور الباكستاني سلطات واسعة للقضاة والمحاكم العليا لتمحيص القرارات الحكومية والقوانين التي يسنّها البرلمان. وعملياً، يعني ذلك أن المحكمة العليا قادرة على رد أي قرار تتخذه الحكومة الباكستانية إذا كانت لا تتماشى مع القانون.

مع ذلك فإن المحكمة العليا والقضاة والسلطة القضائية لم تمتلك الشجاعة الكافية لفرض نفسها أما مالقوة المتزايدة التي تمتلكها السلطة التنفيذية للدولة، حتى مؤخراً. وتبدل موقف القضاة عند اقالة رئيس القضاة يوم 9 مارس (اذار) الماضي وما ترتب عليه من بروز حركة محامين ضد حكومة الرئيس مشرف.

ومنذ أن رفضت المحكمة العليا قرار مشرف اقالة رئيس القضاة افتخار محمد تشاودري، تراجعت قوة مشرف بطريقة ملحوظة. وقال رئيس جمعية قضاة المحكمة العليا منير مالك: «رأينا ولادة محكمة عليا جديدة يوم 20 يوليو (تموز) الماضي عندما اعادت المحكمة القاضة تشاودري الى الشعب الباكستاني والذين اظهروا رفضهم لذراع الحكومة التنفيذي القوي».

وتمكن الرئيس أن ينجو بفارق قليل من قرار اتخذه هيئة المحكمة العليا المتكونة من تسعة قضاة حينما واجه تحد من قبل أحزاب المعارضة التي احتجت على مشاركته بالانتخابات الرئاسية بينما يستمر في عمله كرئيس لهيئة الأركان العسكرية.

وفي الفترة الأخيرة فإن المحكمة العليا جعلت الوكالات الاستخباراتية موضوعا للمحاسبة عن طريق تبني قضايا مفقودين كان أهاليهم قد زعموا أنهم أخذوا من قبل الوكالات الاستخباراتية. وحاليا ينظر رئيس القضاة تشودري بمئات من قضايا المفقودين وأصدر تصريحات حادة ضد عمل هذه الوكالات.

وتصل السياسة الباكستانية مرة أخرى إلى النقطة التي يصبح تحديد «قواعد اللعبة» مسألة مهمة لتحقيق العمل المرن لمراكز السلطة في المرحلة المقبلة. وبات تحديد »قواعد اللعبة» ذات أهمية متزايدة مع ظهور الإشارات بأزمة جديدة ظلت تغلي لفترة طويلة تحت السطح قد تطفح بعد الانتخابات.