أيام في العراق (7)«احذر أمامك قوة مميتة»

صور تنشر للمرة الأولى لمشروع بناء أكبر سفارة أميركية في العالم

واجهة اكبر قاعدة اميركية في العالم («الشرق الأوسط»)
TT

مزاج جندي أميركي غاضب لوجوده في العراق منذ ما يقرب من 4 سنوات، بينما يتذكر عائلته المقيمة حاليا في ولاية بعيدة من القارة الأميركية، وكلب اختصاصه شم رائحة المتفجرات، هو الآخر غاضب للتحولات الجوية غير المناسبة بالنسبة له بالرغم من تخصيص اكثر من 4 آلاف دولار وسيارة دفع رباعي حديثة ومكيفة ومجند مفتول العضلات لخدمته، ورشاشات سريعة الاطلاق ودقيقة التهديف هي التي تتحكم في دخولك الى المنطقة الخضراء.

«الشرق الأوسط» التي تنفرد كأول مطبوعة تتجول داخل المنطقة المحرمة، تنقل في هذه الحلقة تفاصيل دقيقة عن عمليات التفتيش لمن يدخل المنطقة الدولية، مع صور خاصة لأكبر بناية للسفارة الأميركية في العالم والتي تثير انزعاج العراقيين، كونها تحتل أكبر واجهة على نهر دجلة لم تضع القوات الأميركية عند مداخل المنطقة الدولية، المسماة بالمنطقة الخضراء، عبارة دانتي الشهيرة والتي وضعها عند بوابة فردوسه «ادخلوها آمنين»، ولم اقرأ عند واجهات المداخل أية عبارة ترحيب سواء باللغة العربية أو الانجليزية، بل هناك عبارات تحذير شرسة من موت محدق يحيط بمن يقترب من مداخل هذه المنطقة المحرمة، مثل «قف قوة مميتة امامك» أو «قف انت على مقربة من قوة سريعة الإطلاق» و«لا تقترب اكثر من 200 مترا.. قوة مميتة»، هذا يضاف الى ملامح وجوه عناصر القوات الأميركية أو غيرها من الجنسيات، بما فيها العراقية التي لا تنم عن اية مشاعر ارتياح لوصولك الى أي مدخل من مداخل المنطقة الدولية.

لافتة حديدية بلون أسود تحمل تعليمات مشددة بلون أبيض، وبعضها مشددة للغاية بلون أحمر تستقبل عادة الزائر الى المنطقة الخضراء. سنختار الدخول من خلال بوابة القادسية والتي كان صاحبي السائق يصر على انها اكثر سهولة من بقية المداخل.

تقع هذه البوابة شرق المنطقة الخضراء، وتصل اليها من خلال مدخل أمني في حي القادسية. كان على السائق ان يحذر من خروج أو مرور مفاجئ لرتل من ناقلات الجنود المدرعة (همفي) او الدبابات الأميركية، فهؤلاء سيفتحون النار مباشرة اذا لم نتوقف على جانب الطريق من غير ان يهتموا سواء أكانوا داخل المنطقة الخضراء أم في الشارع العام. مع بداية توجهنا الى نقطة التفتيش مر رتل من سيارات الشوفرليه الرباعية الدفع البيضاء ذات الزجاج الداكن تماما والذي يمنع رؤية من في داخل السيارة، توقف السائق مرة اخرى على جانب الطريق ليسمح لرتل السيارات البيضاء بالمرور، كانت هناك اكثر من سيارة مكشوفة تحمل اشخاصا مدججين بالأسلحة ويضعون نظارات شمسية سوداء موجهين فوهات بنادقهم نحو الآخرين تسبق السيارات البيضاء، ومثل هذه تسير خلف الرتل، ومن غير ان أسأل السائق اوضح قائلا «هذه سيارات الشركات الأمنية الخاصة، وهم لا يقلون خطورة عن الجنود الأميركيين، اذ يطلقون النار كيفما شاؤوا خاصة خلال مرورهم بالشوارع والأسواق العامة لزرع الرعب في قلوب الناس، وليجبروا سائقي السيارات الاخرى على افراغ الطريق لهم. سكت السائق ثم استطرد قائلا «الله يكون في عون الناس، اذا مر رتل اميركي فعلى الآخرين التوقف، وهم يخشون تصرفا طائشا من جندي اميركي قد يفتح النار، ويقتل عشوائيا، وهو ما يسمونه بالقتل الخطأ، وتعويض العراقي الذي يقتل خطأ ليس اكثر من 2000 دولار اميركي، تصور أن سعر العراقي ألفا دولار، أي اقل من سعر سيارة متواضعة ومستعملة، وروى لي أكثر من حادثة من هذا القبيل أودت بحياة عراقيين ابرياء، قال، كان آخر ما حدث امامي قبل شهر بالقرب من محطة تعبئة بانزين (البترول) في منطقة الصليخ وبالقرب من سوق يسمونه محليا بـ«سوق السمكة» لشبه شكله المعماري بالسمكة. كان الوقت صباحا عندما شاهدنا عن بعد رتلا أميركيا قادما باتجاه الطريق السريع لمنطقة الصليخ، وكان الرتل يسير باتجاه معاكس لاتجاه الطريق الطبيعي، وهم غالبا ما يفعلون ذلك لضمان افراغ الطريق اولا ولمفاجأة الآخرين ولإحباط اية محاولة لاعتراضهم، في الاتجاه المقابل، والحديث للسائق، جاءت سيارة تويوتا بيضاء وكانت سائقتها، حيث تحققنا فيما بعد ان من كان يقود هذه السيارة امرأة في الستين من عمرها، وكانت تسير باتجاهها الصحيح عندما فوجئت برتل المدرعات الاميركية بمواجهتها.

ويستطرد السائق قائلا، كان من الطبيعي ان ترتبك، وكان أي سائق مهما كانت خبرته في قيادة سيارته او ضبط اعصابه واستجماع شجاعته سيرتبك مثلما فعلت هذه السيدة التي توقفت فجأة لافساح الطريق امام الرتل الأميركي، لكننا انتبهنا على صوت اطلاق النار من رشاشة المدرعة الأميركية باتجاه السيارة التويوتا التي جمدت حركتها تماما، ترجل بعض الجنود الأميركان لفحص السيارة ليكتشفوا انها سيدة في الستين من عمرها كانت في طريقها الى محطة تعبئة البانزين، وقد استقرت رصاصة كبيرة في رقبتها اضافة الى بضع رصاصات استقرت في عجلات وهيكل السيارة.

يقول السائق، اقتربنا من السيارة وطلبنا سيارة الإسعاف بالرغم من اننا كنا متأكدين من وفاة السيدة، التي عرفت فيما بعد اسمها، روباك، عن طريق زوجها الذي اكد انه تسلم رسالة اعتذار من القوات الأميركية لقتلهم زوجته عن طريق الخطأ مع تعويض مادي قدره الفا دولار اميركي.. تصور هذا هو سعرنا لدى الأميركان. ويوضح السائق، قائلا، واذا مر رتل شركات الحماية الخاصة، زرعوا الرعب في نفوس الناس، اذ يجب ان تخلى الشوارع لهم، واذا مر مسؤول حكومي او عضو في البرلمان، فإن حمايته تطلق النار في الجو لإجبار السائقين على التنحي من الطريق، أي حياة هذه يعيشها العراقيون.

التزمت الصمت وأنا أراقب بدقة الاجراءات الأمنية التي سترافق دخولنا الى المنطقة الخضراء. توقفنا على مبعدة 300 متر من نقطة التفتيش، وأغلقنا هواتفنا الجوالة، ثم فتحنا غطاءها وعزلنا عنها البطاريات ووضعناها في مقدمة السيارة ثم ترجلنا كأننا متهمون. ابتعدنا عن السيارة بأمر من جندي اميركي كان يتقدم نحونا بحذر كبير، وهو يوجه فوهة بندقيته نحونا «هذا الاجراء طبيعي جدا»، علق صاحبي السائق، تأكد الجندي من أن الموبايلات معزولة عن بطارياتها، واننا لا نحمل أي سلاح، امرنا بالتقدم نحو نقطة التفتيش.

تركنا السيارة عند نقطة التفتيش، واتجهنا الى غرفة مجاورة كان فيها مترجم عراقي شاب يحمل لقبا اميركيا هو مايكل، فتشنا جيدا وسأل عن بطاقاتنا التعريفية، وفيما أصرت مجندة اميركية تقف بالقرب منه، على الاحتفاظ بجواز سفري، لأنني لا أحمل باج دخول، بل ادخل بصفتي ضيفا، حيث تقتضي التعليمات ان أمنح جواز سفري أو بطاقة الهوية، واعادتها لي عندما اترك المنطقة الخضراء في تصرف يجبر الضيف على عدم البقاء طويلا في المنطقة، واذا ما بقيت البطاقة أو الجواز لثلاثة ايام لديهم، فإنهم يتلفون الجواز أو البطاقة ويحققون مع المرافق الذي ادخلني على مسؤوليته. تعاطف مايكل العراقي معي، عندما عرف انني صحافي والجهة التي سأذهب اليها، تظاهر بأنه أخذ جواز سفري ثم اعاده لي من تحت الطاولة في غفلة من المجندة الأميركية وهو يبتسم. خلال هذا الوقت كان الكلب المتخصص بتنفس رائحة البارود أو الأسلحة يشم مقاعد وصندوق ومحرك السيارة، وكل ما فيها من اشياء.

كان هناك طابور طويل من السيارات التي سبقتنا، ولا احد يستطيع ان يدفع الكلب للاستعجال فهو «يؤدي عمله على احسن ما يكون»، مثلما قال مجند أميركي مسؤول عن الكلب، واصفا اياه وباللغة الانجليزية بـGoog Boy، اذن علينا ان ننتظر مزاج الكلب «الشمام» حتى يسمح لنا بمواصلة طريقنا الى داخل المنطقة الخضراء.

همس صاحب السائق في أذني موضحا أن «الراتب الشهري المخصص لهذا الكلب هو اربعة آلاف دولار، وتم تخصيص جندي لمرافقته وسيارة كبيرة ذات دفع رباعي ومكيفة ينتظر او يستريح فيها، بينما يؤدي عمله»، ويستطرد قائلا «أما سعره فيتراوح ما بين 350 الى 400 الف دولار اميركي، ولكن ليس من السهل ايجاده، ويجب ان تطلبه مقدما، من شركات في جنوب افريقيا خاصة».

خضعنا نحن ايضا لسلطة الكلب (الشمام) قبيل ان يسمح لنا بركوب السيارة ومواصلة طريقنا الى الداخل، عند ذاك استطعنا اعادة ترتيب هواتفنا الجوالة. من المستحسن ان نعرف ان المنطقة الدولية هي عبارة عن مقاطعات ومناطق، مقسمة في الداخل الى حارات بواسطة جدران من الخرسانة، وبوابات حديدية وحراسات مشددة. وهذا يعني ان دخولنا الى المنطقة الخضراء لا يعني بأي حال من الاحوال حريتنا في التجوال، بل علينا التوجه الى منطقة محددة، وعندما نريد دخول بوابات او الوصول الى اقسام اخرى، فيجب ان نتوفر على دليل أو مرافق آخر يحمل بطاقة (باج) تخوله دخول هذه المنطقة.

ولعل اكثر المناطق تشددا في حراستها وتسويرها بالجدران الخرسانية العالية، هي السفارة الاميركية ومسكن السفير الأميركي، وهذا يعني بناية القصر الجمهوري وبعض من ملحقاته.

وتتخذ السفارة الاميركية من القصر الجمهوري، الذي هو احد مشاريع مجلس الإعمار في عهد نوري السعيد، مقرا لها ولم تتخل عنه بالرغم من دعوات الحكومة العراقية لتخليته، باعتباره رمزا وطنيا ومبنى سياديا. وكان أول رئيس للعراق بعد صدام حسين، وهو غازي الياور قد طالب بتخلية القصر الجمهوري، وذلك عام 2004 وقد وعدته الإدارة الأميركية بإعادته للعراقيين خلال ستة اشهر، بعد انجاز اصلاحات بما تم تخريبه من قبل الوجود الأميركي في القصر، كما فاتح الياور الرئيس الاميركي جورج بوش عن ضرورة ان تخلي الادارة الاميركية القصر الجمهوري، الذي يعتبره العراقيون رمزا وطنيا، وشكا استمرار سيطرة القوات الاميركية على القصر الجمهوري في اول لقاء تم بين الاثنين في واشنطن. والغريب ان الرئيس بوش أعرب عن عدم علمه بهذا الموضوع. وما يزال القصر الجمهوري عبارة عن سفارة ومقرا للادارة الاميركية في العراق، حتى يتم الانتهاء من بناء السفارة الاميركية حسبما وضح لـ«الشرق الأوسط» مسؤول حكومي عراقي.

التحصينات المفروضة اليوم حول القصر الجمهوري باعتباره السفارة الاميركية، اكثر قوة من التحصينات التي كانت مفروضة عليه، عندما كان صدام حسين رئيسا للعراق، ففي السابق لم يكن محاطا بتلك الجدران الخرسانية العالية الرصاصية اللون والمدججة بابراج المراقبة. الذين لهم الحق في الوصول الى القصر الجمهوري، هم من يعملون حصرا في السفارة الاميركية والحاملين لبطاقات (باجات) صادرة عن السفارة فقط.

أما منزل السفير الأميركي والواقع قريبا من القصر، والذي كان أحد القصور التي يستريح فيها الرئيس العراقي السابق، فهو يقع بين زحمة من الأسوار الكونكريتية والتي تشكل متاهة ليس من السهل الدخول اليها على الاطلاق، بسبب زحمة الجنود ورجال شركات الحماية الخاصة وكلاب الحراسة المحيطين بالمبنى، والقناصة الموزعين فوق الأبنية المحيطة.

في الجانب الجنوبي من المنطقة الخضراء، أو المنطقة الدولية، وعلى طول ضفاف دجلة يمتد بناء كبير جدا محاطا حاليا بالسرية التامة، ذلك هو مشروع بناء اضخم سفارة للولايات المتحدة في العالم. هناك العراقيون لا يهمسون، بل يتحدثون جهارا، وبعض الصحف تناولت موضوع هذه السفارة التي اقتطعت من بغداد وفي عهد الاحتلال، الاميركي اجمل وأطول ضفة على نهر دجلة.

يقول مهندس معماري عراقي «كنا نعترض على صدام حسين لأنه بنى معضم قصوره على نهر دجلة، وحرم اهل بغداد من الاطلالة على نهرهم، وها هي السفارة الاميركية تحرمنا ثانية من ان نطل على النهر، الذي يعد عصب الحياة البغدادية»، مشيرا الى انه كان بالامكان فتح كورنيش جميل بحدائق واسعة، بدلا من هذا البناء الخرساني القبيح، لا سيما أن الإدارة الاميركة تستطيع ان تبني سفارتها في منطقة خالية في ضواحي بغداد، وتؤمن لها الحماية الكافية».

الخوف حسب المهندس الذي فضل عدم نشر اسمه، والذي له أبنية متميزة ببغداد، هو «ان يتم منع الناس من استخدام النهر قبالة السفارة، ومصادرة الشارع العام الذي يمر قرب السفارة، ومنع المواطنين من التنزه على كورنيش الكرادة في الجهة المقابلة للسفارة لأسباب أمنية».

سكان المنطقة الخضراء انفسهم، من العراقيين الذين يملكون الدور التي يقيمون فيها، شكوا من هذه الكتل الخرسانية «القبيحة» على وصف احدهم وهو مسؤول أمني في المنطقة اخضراء، كونها ستمنعنا من الاستمتاع بمنظر نهر دجلة الذي اصبح مسورا من كل الجهات، واسيرا هو الآخر لدى القوات الاميركية.

ويؤكد هذا المسؤول الامني، الذي فضل عدم نشر اسمه أن «أعمال البناء في مشروع السفارة تتم بصورة سرية تامة وعادة ما تتم ليلا، وغير مسموح لأي عامل عراقي بالعمل في هذا المشروع، بل ان شركات أجنبية تأتي بعمالها لانجاز المشروع. ويستطرد المسؤول الأمني قائلا «هذا يعني أن العامل العراقي لم ولن يستفيد من انجاز هذا المشروع الضخم، ويمكن حتى بعد افتتاح اكبر سفارة بالعالم في بغداد، سيتم حرمان الموظفين العراقيين من العمل لديها.