نواب الأكثرية اللبنانية «سجناء فندق 5 نجوم».. حتى إشعار آخر

يقضون أوقاتهم بالاجتماعات السياسية ولعب الورق.. و«الأشغال اليدوية»

TT

في جناح الـ«تاور سي» من فندق الفينيسيا الشهير في بيروت، يقيم، بالإكراه، 40 نائبا من نواب الأكثرية البرلمانية في ما يشبه الإقامة الجبرية... لغاية انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، على الأقل.

لم يجد فريق الأكثرية سوى هذا الاجراء لحماية اكثريته من عمليات «القضم« التي يتعرض لها نوابه من قبل ما يسمونها «آلة القتل الجهنمية» وخصوصا «بعدما أصبح الوضع دقيقا الى حد الحاجة الى قتل عدد قليل من النواب او الوزراء لتفقد الاكثرية قدرتها على اتخاذ القرارات» كما يقول احد نواب الأكثرية من سكان «ابو غريب خمسة نجوم» وهو اللقب الذي يطلقه النواب على مقر اقامتهم الذي يعانون فيه مشاعر متناقضة تراوح بين الضيق من الاقامة الجبرية وتقييد حريتهم والاحساس بالاعتزاز للدور الذي يلعبونه من اجل وطنهم، كما يقول اكثر من واحد منهم. فكما «احتجز» الوزراء في السرايا الكبيرة منذ بدء الازمة واغتيال الوزير بيار الجميل في نوفمبر(تشرين الثاني) 2006، اقتلع النواب من بين عائلاتهم واعمالهم ودورهم الخدماتي الذي اعتاد نواب لبنان القيام به، ووضعوا في الفندق لا يخرجون منه الا للضرورة القصوى كاجتماعات البرلمان التي يغادرون اليها بمواكب مموهة وبرفقة سيارات الإسعاف والإطفاء.

الوضع الأمني ممسوك في محيط الفندق الذي يبعد امتارا قليلة عن رايات حركة «امل»، احد اطراف المعارضة الرئيسية والتي تنتشر صور مؤسسها الإمام موسى الصدر ورئيسها، رئيس البرلمان نبيه بري، على اعمدة الانارة القريبة من الفندق الذي يقع ايضا على مرمى حجر من موقع اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.

كلما اقترب المرء من محيط الفندق شعر بوطأة هذه الاجراءات التي تزداد مع كل متر باتجاهه. عشرات العناصر الأمنية باللباس المدني واللباس العسكري المتنوع الالوان، فهنا الاسود والكاكي والنبيذي والمرقط. اما السلاح فيراوح بين الآليات العسكرية المدرعة في الخارج والبنادق الحديثة المتنوعة في الداخل. الدخول الى الفندق ممنوع لغير حاملي التراخيص. النواب يقيمون في غرف مزدوجة «خفضا للمصاريف» من دون زوجاتهم واولادهم، بمعدل نائبين في كل غرفة. الزيارات الخاصة مسموحة ضمن حدود معينة، أما الإعلاميون فيتم اصطحابهم الى غرف «محايدة» للقاء النواب. وربما هذا يعفيهم من مشاهدة نواب الأمة يحضرِّون الشاي والقهوة بأنفسهم في المطبخ الصغير الملحق بغرفهم. في الغرف التي تمكنت «الشرق الأوسط» من زيارتها كانت الصورة نفسها، حلويات «دايت» تنتشر على الطاولات وبعض الفاكهة. ويمازح احد الوزراء زملاءه النواب خلال زيارة قام بها بأن الأكثرية «اذا نجت من الاغتيالات سوف تسقط نتيجة سوء الهضم». وبالاضافة الى ذلك هناك الكثير الكثير من الاوراق التي تنتشر على كل الطاولات وتتضمن مراجعات «الناخبين» ووثائق اخرى خاصة بالنواب الذين نقلوا اعمالهم «الخاصة والعامة الى هذه الغرف الصغيرة المطلة على منظر جميل للبحر الابيض المتوسط، لكنه ـ ويا للأسف ـ محجوب بستائر سميكة محظور فتحها او الظهور عبرها لاسباب امنية. ولا يشارك النواب نزلاء الفندق بأي شيء، يتناولون الطعام في غرفهم، ولديهم غرفة اجتماعات يستعملونها للقاء والتداول في ما بينهم، بالاضافة الى استعمالات اخرى. أما الرياضة، فهي النشاط الاكبر الذي يمارسه النواب في غياب الانشطة الجدية الأخرى. وهم يمارسونها اما في الصباح الباكر، او في وقت متأخر لتلافي الاختلاط مع النزلاء العاديين».

النائب مصطفى علوش هو احد «أبطال 14 اذار» بالرياضة، اذ انه من ابطال «التايكواندو» سابقا وهو احد اكثر النزلاء ارتياداً لقاعة الرياضة. ويقول احد النواب ضاحكا انه التقى ذات مرة بنزيلة كانت تمارس الرياضة، ولما عرفته غادرت بسرعة والخوف على محياها «كأنها رأت شبحا». ويضيف مقهقها:« في حالتي مشروع شبح».

والواقع ان حديث الموت لا يغيب عن السنة النواب جدا ومزاحا. خلال جلسات الصفاء يضع بعض النواب معايير وهمية للاغتيال. ويتوقعون اسماء معينة يرشحون اصحابها للموت. اما في حديث الجد، فالموت يمر فيه بسهولة ايضا، اعتاد النواب فكرة الموت ولا يزيل احدهم من رأسه امكانية ان يكون «الشهيد التالي». ويقول النائب اكرم شهيب انه عاش اياما صعبة خلال الحرب الاهلية اعوام 1975 و1982 (الاجتياح الاسرائيلي) و1984 (الحرب الاهلية مجددا) «لكن هذه المرة الأمر مختلف، هناك شعور باننا نقاتل من اجل قضية وطن». ويقول:«كل النواب كتبوا وصاياهم الأخيرة، وهم اعتادوا فكرة الموت في اي لحظة، لكن البلد يستحق ونحن لسنا اكثر قيمة من الذين رحلوا». ويضيف:« الحذر ليس خوفا او جبنا، لكنه حرص على اكمال المشوار».

ويعترف نائب «بعبدا ـ عاليه»، هنري حلو، بأنه لا يخاف عندما يكون في المبنى «لكن عندما نتجول نخاف من كل شيء حولنا، وننظر الى كل سيارة متوقفة على انها لغم محتمل». ويقول:«انهم لا يلعبون معنا. نحن نواجه قتلة بكل معنى الكلمة. ولن يتوانوا عن فعل أي شيء ليصلوا الى اهدافهم». ويضيف: «نحن في خضم صراع كبير وسنناضل من اجل القضية التي نعمل من اجلها. نحن في فندق 5 نجوم، لكننا نحس أننا في سجن 5 نجوم. ومع هذا فنحن مستمرون في الدفاع عن الديمقراطية في بلدنا». الى متى البقاء؟ يجيب:«حتى نشعر ان حياتنا ليست في خطر، او على الاقل حتى انتخاب الرئيس».

ويشير حلو الى انه يتابع اعماله من مقر اقامته «المؤقت» معظم ساعات الصباح حيث يزوره موظفو مكتبه مع الاوراق التي يجب ان يوقعها. اما اوقات الفراغ فيقضيها في قراءات متنوعة، وهو يقرأ حاليا كتابا عن «تاريخ لبنان». واذا كان بامكان معظم النواب نقل اعمالهم الخاصة وادارتها من مقر اقامتهم، الا ان هذا الامر مستحيل عمليا بالنسبة الى اخرين، كالنواب الاطباء أمثال النائب باسم الشاب احد اشهر الجراحين اللبنانيين الذي اعتاد اجراء عشرات العمليات الجراحية اسبوعيا، ويخشى ان تكل يداه نتيجة عدم الممارسة.

هل يتوقع ان يتم انتخاب رئيس في الجلسة المقبلة، يقول حلو:« انه سؤال كبير لا أمتلك إجابة عنه. لا اشعر اننا سننتهي الى اتفاق قبل هذا التاريخ، وخصوصا بعد الكلام الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله». مشيرا الى انه بعد هذا التاريخ يصبح من حق 14 اذار انتخاب رئيس بالنصف زائد واحد. ويعتبر ان هذا «ليس الخيار الافضل، لكنه افضل من الفراغ». يعيش حلو في الفندق وحده فيما تعيش عائلته في منزله في الحازمية. يقول ان صدره يضيق احيانا ويصاب بالإحباط بسبب المكوث في الفندق. ويضيف:« احيانا اخرى أقرر الذهاب الى منزلي وأضع حولي 30 حارسا، لكنني اعدل عن ذلك خوفا على عائلتي».

أصعب المواقف التي مرت على حلو كانت عندما قرر الذهاب للإقامة في الفندق. سيارة عسكرية مصفحة أتت لنقله من المنزل وكان امامه اقل من 10 دقائق لجمع ما تيسر من حاجياته. وقفت ابنته الكبيرة الى جانبه تبكي، فأحس بالعجز. ويقول:« لم ارد ان أخيف أولادي لكن ما حصل قد حصل».

وعندما حلت ذكرى ميلاد ابنته عجز حلو عن مشاركتها، لكن زوجته كانت تنبئه بـ«المستجدات» وتخبره في احدى رسائلها ان رفيقات ابنته نمن في المنزل في الغرفة التي كان يستخدمها كمكتب له. وقبيل الاحتفال كانت ابنته زارته في الفندق. زوجة حلو فرنسية، لكنه يقول انها تأقلمت مع الوضع الحالي. والعلاقة مع رجال الامن تتأرجح بين «الحلو والمر»، ويقول حلو:«كنا نجادلهم في البداية، لكن في نهاية المطاف لا بد من ان نطيعهم لأنهم ادرى منا بصالحنا الامني». أوقات الفراغ الكثيرة وأجواء التهديد القائم تدفع بالنواب الى ابتكار طرق كثيرة للتسلية، فالنواب الارمن مثلا أصبحوا مشهورين باستضافة «لعبة ورق» ليليا. كما انهم مشهورون بـ«الاشغال اليدوية» ايضا، اذ ابتكر النائبان سيرج طور سركيسيان واغوب قصارجيان قفصا وضعا داخله صورتيهما الى جانب صورة النائب وائل ابو فاعور، وخارجه صور النواب الاخرين... نزلاء القفص.

يقول النائب اكرم شهيب:«المفارقة اننا اكثرية، ويقال اننا متسلطون ولا نقبل المشاركة، فيما نحن قيد الاحتجاز والمعارضة حرة التحرك. اما في سورية فالمعارضة اما في السجن او المنفى».

وهو يعتب بشدة على رئيس البرلمان نبيه بري «الذي يفترض به ان يكون رئيسا لنا جميعا، يعلم اننا مهددون ومسجونون، لكنه لم يجر اتصالا واحدا بنا او بعث لنا برسالة تضامن». ويضيف:« عندما دخل الرئيس بري الجلسة الماضية لم نقف له عتباً. فقد كنا نحس بأننا غرباء في المجلس الذي يفترض به ان يكون مجلسنا الذي انتخبنا الشعب لتمثيله فيه، لكننا بدلا من ذلك نرى ان وجوه امن «حزب الله» وحركة «امل» وشرطة المجلس والقوة الامنية المولجة حماية المجلس هي ذاتها».