تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة السابعة) ـ الاستثناء التركي

المفكر التركي شريف ماردين لـ«الشرق الأوسط»: العلمانية التركية بدأت منذ القرن الثامن عشر على يد رجال دين عارضوا السلطان عبد الحميد

شريف ماردين
TT

المفكر التركي شريف ماردين مثل النجوم في تركيا، كتبه تختطف من المكتبات وسمعته كبيرة بين الاتراك، فهو الرجل الذي صك مفهوم «الاستثنائية التركية» Turkish Exceptionalism في محاولته لتحليل وشرح اسباب اختلاف تعامل الأتراك مع الاسلام ورؤيتهم للدولة. بالنسبة لماردين، فأن فصل الدين عن الدولة في تركيا ليس وليد حركة مصطفى كمال أتاتورك لبناء جمهورية تركية من رحم انقاض الحرب العالمية الأولى، وحرب الاستقلال، بل ان فصل شؤون الدين عن الدولة او «العلمانية» بدأت خلال حكم العثمانيين. ويقول ماردين ان العلمانية ساعتها وحتى الآن لا تعني بالنسبة للأتراك العداء للدين، بل تعني ان الدولة لدى الأتراك تتقدم على الدين بـ«مليمتر واحد». بسبب المكانة التي يحتلها مفهوم الدولة لدى الأتراك، فإن رمز الدولة وهو العلم التركي موجود في كل مكان بشوارع تركيا، داخل المطاعم، وعلى الحافلات، وفوق المباني، وعلى المراكب الشراعية في البحر، وداخل المتاجر والأسواق الشعبية.

عندما يتكلم ماردين يردد في كل عبارة «الدولة العثمانية» و«التقاليد العثمانية» و«الطريقة العثمانية»؛ فماردين، من مواليد 1927، يعتقد ان تركيا الحديثة خلال عهد أتاتورك وفي سعيها الى التحديث اتجهت بكل قدراتها لدراسة الغرب، فأهملت خصوصية التجربة العثمانية، التي يقول انه يجب على الاتراك إعادة النظر فيها ودراستها. أصول «العلمانية العثمانية» اذا صح التعبير بدأت، بحسب ماردين، مع الطبقة البيروقراطية التي خلقتها الدولة العثمانية، والتي نمت وتطورت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم خلال منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت حركة إصلاح «التنظيمات». ويعتقد ماردين الذي يدرس العلوم الاجتماعية في جامعة «صابنجي» في اسطنبول، انه منذ تلك اللحظات في تاريخ الدولة العثمانية ظهر الجدل حول فصل شؤون الدين عن شؤون الدولة؛ فحركة التنظيمات التي ظهرت عام 1839 خلال الفترة الاولي من حكم السلطان عبد المجيد كان الهدف منها المضي على خطى الاصلاحات في أوروبا. وتضمنت التنظيمات العثمانية المساواة التامة بين رعايا الدولة من المسلمين والمسيحيين وغيرهم والمحافظة على حياتهم وأملاكهم، وذلك على صعيد حرية المواطنة. وكان من ضمن القرارات التي ترتبت على هذا مد الخدمة العسكرية لغير المسلمين.

وشملت التنظيمات أيضا إصلاح التعليم في جميع مراحله، وجعل التعليم إجباريا في المدارس الأولية ومجانيا لمدة 4 سنوات ومن دون تفرقة بين الذكور والإناث أو تمييز بين المسلمين وغيرهم. وقد انفصلت مدارس الحكومة رسميا عن إشراف العلماء، ووضعت تحت إشراف وزارة المعارف. اما على صعيد الاصلاحات القانونية، فقد نصت على علانية المحاكمات، وإلغاء مصادرة الأموال والأملاك ما لم تقر ذلك المحكمة. ويرى ماردين انه تاريخيا كانت مصادر القوة في الدولة العثمانية هي الجيش والبيروقراطية ورجال الدين ومفتي الدولة العثمانية الذي كان يسمى (شيخ الاسلام)، ويقول ان هذه المصادر مازالت هي مصادر القوة في الدولة التركية اليوم، باستثناء رجال الدين، فما فعله اتاتورك كان تحويل رجال الدين من «أحد مصادر السلطة» في الدولة الى «طبقة عادية» من الموظفين الحكوميين. ويعتقد ماردين ان الدارسين الغربيين والشرقيين لم ينتبهوا الى هذه الحقائق حول طبيعة الدولة والدين في تركيا بسبب تركيز كل الدراسات على الاسلام في العالم العربي. وبحسب ماردين، فأن ما ساعد على خلق هذا الفصل بين شؤون الدين والدولة هو ان رجال الدين أنفسهم في وقت من الأوقات فصلوا أنفسهم عن الحكم بإرادتهم الحرة؛ ففي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، دعا سعيد النورسي احد قادة الطرق الدينية البارزين وغيره الى اصلاحات دستورية وتعليمية من بينها تقيد سلطات السلطان عبد الحميد الثاني وهو ما سمى بـ«المشروطية»، وانشاء جامعة في مدينة «فان» التركية للنهضة العلمية، ولما رفض السلطان عبد الحميد هذه الطلبات، دعم قادة الطرق الدينية التركية حركة «الاتحاد والترقي» التي كانت تريد اصلاحات سياسية واجتماعية وكانت تعارض السلطان عبد الحميد. وهنا نص الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» مع ماردين في اسطنبول:

* ما هي خصوصية الدولة التركية عن باقي دول المنطقة؟ ـ الاستثنائية الثقافية مفهوم تطور على يد اليكس دوكفيل الفيلسوف الفرنسي في القرن التاسع عشر، فعندما كان يتحدث عن اميركا قال ان هناك خصوصية استثنائية في الطريقة التي تطور بها المجتمع الاميركي، اذ انه لم يكن مضطرا للمرور بمرحلة العصور الوسطى التي مرت بها الدولة الاوروبية للخروج من القرون الوسطى الى عصر النهضة، وبالتالي الصراع بين الدين والدولة في اميركا لم يوجد على النطاق الذي وجد في اوروبا. بمعنى آخر المجتمع الاميركى اخذ طريقا مختصرا Short Cut، وتطوره الاجتماعي استثنائي بهذا المعنى لأن الدولة والدين لم يتواجها او يتصارعا على النحو الذي حدث في اوروبا خلال المواجهات بين الكنيسة والملوك في فرنسا وايطاليا وانجلترا. تركيا بدورها تشكل «حالة استثنائية» في المنطقة فيما يتعلق بعلاقاتها بالدين. الدولة العثمانية طوال تاريخها حرصت على إبقاء الدولة على بعد مليمترا واحدا عن الدين. كانت الدولة، أكثر أهمية للحكام العثمانيين في تلك الفترة، مقارنة بأهمية الدولة في اماكن اخرى من المنطقة في ذلك الوقت. ولهذا طورت تركيا مفهوما للدين، له خصوصية عن مفهوم الدين لدى كل دول المنطقة، يقوم على قوة الدولة، وهذا يصعب على الكثير من العرب فهمه، إذ ان الدين يأتي اولا لدى العرب، ثم الدولة، فيما تأتي الدولة اولا لدى الاتراك، متقدمة بمليمتر واحد عن الدين. وهذه خصوصية تركية حتى قبل دخول الاسلام الى تركيا، فقد كانت هناك بيروقراطية كبيرة ومتطورة، ونظام دولة قائم بالفعل، فقد كان مفهوم الدولة قويا لدى الأتراك قبل دخول الاسلام، واستمر هذا بعد دخول الاسلام. هذا ما أعنيه بالاستثنائية التركية. الغريب انه لا احد في العالم الاسلامي او الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن تركيا يعرفون هذه الحقيقة عندما يحللون حالة الدين والدولة في تركيا. وبطريقة ما هذه الاستثانية التركية مستمرة حتى الآن؛ فالدولة ما زالت تتقدم على الدين مليمترا واحدا. وبالتالي مفهوم العلمانية الذي تم اقراره في الدستور التركي عام 1924 خلال حكم اتاتورك، ليس شيئا غريبا او غير مألوف او غير متوقع اذا نظرنا الى السياق التاريخي التركي، فهو استمرار لممارسة كانت موجودة منذ الدولة العثمانية، غير أنها لم تقدر كما ينبغي.

* هذا عن الدولة.. ماذا عن المجتمع، هل التنوع العرقي واللغوي في المجتمع التركي اثر على فهم وطريقة التعامل مع الدين؟ ـ هذا حقيقي ايضا، وهذا العنصر امتزج مع العنصر الخاص بطبيعة الدولة في تركيا وكونا معا الاستثنائية التركية. فتجربة الاتراك الاجتماعية، والتعدد العرقي على مدار القرون الماضية اثرت على فهمهم للدين؛ فدائما كانت الدولة والدين في تركيا يعملان بشكل متواز، والنظام الحالي يمكن رؤيته مواصلة واستكمالا للحل العثماني للعلاقة بين مفهوم الدولة، وبين الدين.

* هذا يعني ضمنا انه لا خوف على الدولة التركية من سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكومة والرئاسة والبرلمان، لانه بحسب رأيك العلمانية تكونت تاريخيا بشكل طبيعي لحماية الدولة والدين في تركيا وليست مفهوما غربيا دخيلا او مستوردا، وبالتالي من الصعب على أي فصيل سياسي التخلص منها؟ ـ (يضحك) عندما نتحدث عن حزب العدالة والتنمية، لا نتحدث حول شيء واحد كبير، بل نتحدث حول مزيج من طبقات وجماعات متعددة، وهذا هو الشيء الطبيعي عند تناول أي ظاهرة سياسية او اجتماعية. هناك طبقات متعددة داخل حزب العدالة والتنمية، هناك أشخاص أكثر علمانية، هناك اشخاص أكثر تشددا. فحزب العدالة والتنمية عبارة عن مجموعة من الجماعات تحالفت معا، وطبيعيا ليس هناك اتفاق بين هؤلاء حول كل شيء، هناك خلافات في وجهات النظر. طبعا الظواهر الاجتماعية مثل حزب العدالة والتنمية تتطور أحيانا في المنطقة بطريقة غير متوقعة او من الصعب التنبؤ بها. وأنا حقيقة لا أعرف ما الذي سيحدث في المستقبل، لكنني لا اعتقد ان الجماعات الاكثر تشددا في الحزب لها اليد الطولى حاليا.

* البعض يقول ان حزب العدالة والتنمية عزز علاقاته مع الطرق الدينية في تركيا.. وان هذا هو أحد مصادر قوته؟

ـ نعم هذا صحيح. لكن الطرق الدينية في تركيا لا تشبه الطرق الدينية في شمال افريقيا، ومن المهم تأكيد أن الطرق الدينية كانت دائما لها صلة بالدولة التركية، والطرق الدينية في تركيا جزء من القوى التي شكلت حزب العدالة والتنمية. لكنها ليست مثل الطرق الدينية في القرن الأفريقي في نهاية القرن التاسع عشر.

الطرق الدينية في تركيا مثلا منظمة وحديثة، ولها آرائها الخاصة في القضايا السياسية الداخلية والعالمية، وتأثيرها يتجاوز الحدود الى خارج تركيا الى مناطق عديدة في العالم، فهناك تنظيمات تتبع للطرق الدينية تعمل بطريقة عابرة للحدود. عندما تفكرين في كل الظواهر في تركيا، بما في ذلك الطرق الدينية، فكري في ماضي صاغ خصوصية تركيا، وجعلها استثناء عما حولها، وهذا ينطبق على الطرق الدينية التي ما زالت لها حضور سياسي اليوم في اوساط السلطة.

* ما الذي يعنيه مصطلح «الاسلام التركي» لك؟ ـ يعني الاستثناء التركي الاختلاف عن باقي التجارب في العالم الاسلامي. هناك الكثير من الممارسات والتقاليد والافكار التي تجعل الاسلام التركي له خصوصية وشخصية مميزة منذ بدايات الدولة العثمانية؛ فالإسلام التركي هضم أفكار عصر التنوير (التفكير العقلي والحداثة والديمقراطية) عبر التصوف في نهاية القرن الثامن عشر. على سبيل المثال هناك الطريقة النقشبندية والتي دعمت حركة التنوير التركي، ودعمت الاصلاحات الدينية والدستورية في الدولة العثمانية، بدلا من ان تقف ضدها. كذلك لا بد من تذكر ان العثمانيين عندما أسسوا دولتهم الاولى سموا أنفسهم أهل الروم والبلقانيين، وهذا هام جدا؛ فالعثمانيون نظروا دوما نحو البلقان في النمسا والمجر، كان هناك تواصل لغوي وثقافي وجغرافي. هذا العنصر البلقاني مكون أساسي في ثقافة الدولة العثمانية، ولفهم طريقتها في التعامل مع الاسلام، وهذا مختلف عن تجربة غالبية البلاد الاسلامية. فقد كان هناك اتصال بين الأتراك والديانة المسيحية منذ البداية لأن الكثير من الرعايا في البلقان كانوا مسيحيين. فيما باقي العالم العربي والاسلامي ليس لديه هذا المكون البلقاني في تاريخه وثقافته. هذا المكون المسيحي جعل مفهوم الآخر لدى الأتراك يختلف عن مفهوم الآخر لدى باقي الدول الإسلامية، فالآخر لدى الأتراك لا يعني العدو.

* الايرانيون ايضا يقولون إن فلسفتهم السياسية تأثرت بالصوفية. هل ترى تشابهات بين الايرانيين والأتراك في هذا الصدد؟ ـ نعم هناك الكثير من التشابهات، الكثير لا يعرفون كيف ان افكار الفلاسفة الإيرانيين والافكار الفلسفية التي جاءت من إيران مثل «الاشراق» هضمت واستلهمت من قبل الجماعات الدينية في تركيا خلال الدولة العثمانية. الإيرانيون شعب مثقف جدا ومتفلسف، وبينهما وبين الأتراك نقاط التقاء، وبالتالي لا أعتقد ان «الاسلام الشعبوي» الموجود حاليا في ايران سيستمر طويلا. الايرانيون شعب متفلسف بالطبيعة، هناك مثقفون يثبتون هذا اليوم مثل عبد الكريم سوروش، هو نموذج للمفكر والفيلسوف الايراني المعاصر.

* ما هي نظرة الاتراك للعرب، هل هناك صورة ذهنية معينة؟

ـ هذا موضوع متداخل ومعقد، فليس هناك صورة ذهنية واحدة لكل العرب ثابتة عبر الزمان. فاللغة العربية لغة صعبة ولم يكن هناك تواصل بين الأتراك والعرب بسبب عدم وجود لغة مشتركة. وبالتالي اذا لم يتعلم الشخص اللغة العربية في المدرسة يجد صعوبة في تعلمها، و 99% من الشعب التركي لم تكن له اية علاقة مع العرب خلال الدولة العثمانية. فمعرفة اللغة العربية كانت حكرا على النخبة منذ الدولة العثمانية، اذا اولا هناك عائق اللغة. ثانيا، بالتالي ومع الوقت بات هناك عدد اقل فأقل يجيدون أو يعرفون اللغة العربية لدرجة ان الاصلاحي الكبير جودت باشا، كان يبحث عن شخص يجيد اللغة العربية ويمكن الثقة في ترجمته بين 1850 و 1860 وتعب جدا كي يجد شخصا مؤهلا، هناك شيء ميكانيكي هنا، ليس له علاقة بما اذا كان الاتراك يحبون العرب او لا يحبونهم، فاذا كانت اللغة غائبة يكون الاتصال غائبا ايضا. كانت هناك حالات انه حتى القضاة لا يعرفون اللغة العربية، وعندما كان قاضي يذهب الى منطقة يتحدث فيها الناس اللغة العربية، كان يضطر الى أن يأخذ معه مترجما الى ساحة المحكمة. اذا وقف الاتصال بين العرب والاتراك على النخبة التي تعرف اللغة، جعل الاتصالات منعدمة بين غالبية الشعب التركي وبين العرب، فباستثناء القرآن الكريم لم يكن هناك تواصل لغوي وبالتالي ثقافي، لكن مهما كان الانسان يحفظ القرآن، فان ما يفهمه من معانيه مسألة أخرى. ففهم آيات القرآن يحتاج الى وقت ودراسة لأن معانية مركبة، كان من الطبيعي ان نجد أطفالا في سن 8 سنوات في الاناضول يحفظون القرآن كاملا، لكن مقدار فهمهم محدود. وهذا العامل استمر تأثيره منذ البداية حتى الآن، فبينما هناك تواصل بين النخبة، ليس هناك تواصل بين عامة الشعب. لكن عموما هناك احترام للعرب، فالقرآن نزل بالعربية، لكن السؤال كيف التواصل مع العرب مع وجود لغة صعبة كالعربية. اما صورة الاتراك لدى العرب، فقد كانت هناك دائما كما يتضح من كتب التاريخ والابحاث ان هناك نزعة معادية للاتراك لانهم قوة استعمارية، لكن هذا يتغير الآن، فعدد من المؤرخين المصريين الذين ظهروا مؤخرا ومتخصصين في تاريخ الدولة العثمانية يسعون لاعادة تقييم العلاقة بين العرب وبين الدولة العثمانية، على أساس ان العلاقات التاريخية بين الاتراك والعرب لم تكن علاقات صدامية او كراهية وتوتر خلال وجود الدولة العثمانية، واعتقد ان هذه المحاولات مفيدة. هناك حاجة لزيادة الترجمة بين العربية والتركية، خصوصا الترجمة الخاصة بالتطورات اليومية، بحياة الناس، وليس فقط ترجمة الكتب الايديولوجية وما شابه، هناك سبب لضعف الترجمة وهو أن الاتراك يحبون قراءة الروايات باللغة التركية، والعرب يحبون قراءة الروايات باللغة العربية. عندما تقرأ لنجيب محفوظ بالتركية، تنتابك مشاعر وافكار مختلفة عن تلك التي تشعر بها عندما تقرأ بلغته الاصلية. ربما هذا سبب ضعف الترجمة.

* هل صحيح ان الصورة الذهنية الشائعة والشعبية عن العرب لدى الاتراك هو انهم «خونة» بسبب دعمهم للانجليز خلال الحرب العالمية الاولى، فيما صورة العرب الشائعة عن الاتراك هو أنهم «مستعمرون غلاظ»؟ ـ الصورة متداخلة بين هاتين الصورتين. ففي القرن التاسع عشر كان هناك جانبان للصورة؛ فعندما تحالف شريف مكة مع الانجليز ضد الاتراك، وسقطت دمشق في يد قائد القوات البريطانية الجنرال اللنبي، شعر الاتراك بالخيانة، وهذا ربما مازال موجودا حتى اليوم لدى الكثير من الاتراك، فهناك كتاب صدر في تركيا قبل فترة يتحدث عن خيانة العرب للاتراك وتعاونهم مع اللنبي. لكن الامر معقد جدا؛ فعلى المستوى الشعبي كانت الصورة الذهنية أفضل، فجدي كان يتحدث العربية والفارسية والفرنسية الى جانب التركية طبعا، وكانت معرفته بالثقافة العربية كبيرة، وعندما كنت صغيرا سمعت اللغة العربية في بيتنا، يتحدث بها جدي. كذلك هناك الاجواء السائدة عندما ولدت الدولة القومية في تركيا بعد الحرب العالمية الاولى، كل هذا لم يساعد.

* كلما نشبت ازمة في تركيا يرجعها المحللون بشكل آلي الى ما يسمى بأزمة هوية بين الشرق والاسلام من ناحية وبين الغرب من ناحية اخرى.. هل تركيا تعاني أزمة هوية؟ ـ انها ليست ازمة، ولا داعي لان تكون ازمة هوية (يضحك). تصبح أزمة فقط عند ظروف معينة، عندما يحاول هذا الطرف او ذلك ان يستغلها او يستخدمها. ولدينا في تركيا الامكانيات كي لا يتحول وجودنا الثقافي والجغرافي والسياسي بين الشرق والغرب الى ازمة هوية. العلمانية في تركيا ليست ايديولوجية، انها الطريقة التي يحيى بها الناس يوميا. فلدينا مواطنون لا يشربون الكحوليات، لكن لدينا ايضا مواطنون يشربون بشكل عادي، وهؤلاء يعيشون الى جانب هؤلاء من دون مشكلة. الذين يشربون الكحول لا يقولون انهم غير متدينين، بل هم مسلمون، ويقولون انهم مسلمون. الاتراك وصلوا الى حل توافقي، تحدث المشاكل عندما يرفض احد الاطراف هذا الحل التوافقي.

* ما الذي تبقى في تركيا اليوم من الميراث الثقافي والاجتماعي للدولة العثمانية؟ ـ للأسف ليس الكثير، وهذا لأن الثقافة تحتاج الى انعاش وبحث ومعرفة محورها وجوهرها. الآن لدينا في تركيا الكثير من رجال الدين، هؤلاء لم يتم تربيتهم بناء على الثقافة والافكار التي كانت موجودة خلال الدولة العثمانية، بل تعاليم اليوم. هناك الكثير من الكلام حول الثقافة العثمانية، لكن هناك القليل جدا المكتوب اليوم حول جوهر العمارة في العصر العثماني على سبيل المثال. لتكوين ثقافة حول موضوع معين، لا بد من تراكم معرفة حوله، وللأسف هذا لا يحدث في تركيا اليوم. وقد حدث هذا الانقطاع لانه سادت في تركيا فكرة انه لكي تصبح عصريا، الهدف الذي بات أساسيا لدى الأتراك، لا بد ان يدرس الأتراك الشعوب التي اصبحت متقدمة، وهذا يأخذ وقتا، وبالتالي لم يعد الاتراك يدرسون التاريخ العثماني بطريقة معمقة، وهذا افرز اليوم ما اعتقد انه عدم معرفة حقيقة بهذه الفترة.

* كلما تحدث احد عن خصوصية الحالة التركية، يذكر اتاتورك بالكثير من التقدير والاعتراف بالفضل.. لماذا اتاتورك ما زال حاضرا على المسرح السياسي بهذه القوه حتى اليوم؟ ـ اتاتورك شخصية اسطورية لدى الاتراك، انه مثل توماس جيفرسون في الولايات المتحدة. انه المؤسس، انه القائد والزعيم، انه الشخص الذي أنقذ ما تبقى من الامبراطورية العثمانية، وهذه كانت مهمة صعبة جدا. الكثير من الاتراك يرون في اتاتورك «المخلص» او «المنقذ» لهم، ولما تبقى من اراضي الامبراطورية. هذا جانب، جانب آخر، انه أسس تركيا الجديدة، أي لم يستطع فقط انقاذ البقايا، بل أسس عليها تركيا كما نعرفها اليوم، الكثير من الاتراك ينظرون اليه بوصفه الشخص الذي قدم لتركيا وهي خارجة من اضعف لحظاتها أفكار التنوير والتحديث. هو كان يستخدم نظام التلغراف الذي اسسه السلطان عبد الحميد، لكنه كان شجاعا لدرجة انه وقف في وجه قوات التحالف، وما من احد كان يعتقد بإمكانية وقوف تركيا في وجه هذه البلاد. شخصية اتاتورك تتميز بتصميم هائل. فأحد معاني التصميم هو القدرة على التفكير في المستقبل، ما الذي سيكون مناسبا للاتراك، كيف سيمكن زرع هذه الافكار والمبادئ الجديدة؟ اتاتورك كان شخصا استثنائيا؛ ففي العالم يمكن ان نجد جنرالات جيش ممتازين، لكن جنرال جيش يستطيع ان يفكر في التحديث، ويضع دستورا، ويصنع دولة ديمقراطية هذا نادر جدا. اذا أخذنا في الاعتبار أن كل هذا حدث خلال العشرينيات والثلاثينات من القرن العشرين، فان هذا يجعل شخصية اتاتورك مثيرة أكثر للإعجاب. كذلك قدرته على التنبؤ بالذي سيحدث في المستقبل.

* غدا: لو كان اتاتورك حيا