تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة العاشرة) ـ «الشرق الأوسط» في ديار بكر: ممنوع كلمة.. كردي

مدينة ديار بكر «جيتو» كردي.. 95% من سكانها أكراد والباقي عرب.. فيما الأتراك أقلية نادرة * يشتكي أكراد تركيا من أنه يتم تصوير الكردي في المسلسلات التلفزيونية كشخص ريفي متخلف * يقول بعض الأتراك عن الأكراد إنهم لصوص وارهابيون

TT

لا يحب الكثير من الأتراك مدينة ديار بكر «العاصمة السياسية» للأكراد في العالم، التي تقع جنوب شرقي تركيا وتعتبر ثاني أكبر مدينة في منطقة الأناضول بعد مدينة غزيانتيب. فعندما تذكر اسم ديار بكر في أنقرة أو أسطنبول او أزمير تسمع تعليقات من أتراك من بينها: «مدينة اللصوص»، «مدينة القتل والعنف»، «مدينة الفقر.. لا شيء فيها»، «مدينة التراب.. والارهابيين». في بازار اسطنبول قال تاجر تركي يبيع السجاد عندما سأله شخص عما اذا كانت أسعار السجاد الذي يصنع في ديار بكر أرخص: «من سيذهب الى ديار بكر لشراء سجاد؟ في ديار بكر لن تجد غير اللصوص». لكن الحقيقة هي أن ديار بكر ليست بهذه الصورة قط، فالمدينة جميلة لكنها تئن تحت الفقر والاهمال. وهو فقر وإهمال يصفهما أهالي ديار بكر بأنهما متعمدان من جانب أنقرة من اجل اضعاف الروح المعنوية للأكراد وشغلهم بلقمة العيش الصعبة وليس بالسياسة. اذا كان هذا هو الهدف، فالاكيدد أنه فشل. فالأكراد في ديار بكر لا يتحدثون إلا حول السياسة، وحول القضية الكردية وحزب العمال الكردستاني، ومشاكلهم مع السلطات في أنقرة، وما الذي ينبغي ان يفعلوه. أهالي ديار بكر مسيسون أكثر من الاتراك كثيرا. فإذا كان من الصعب ان تتحدث عن نشاط سياسي للطلبة الأتراك، فإن الطلبة الأكراد في ديار بكر ناشطون جدا سياسيا. وبسبب التطورات الأمنية والسياسية الأخيرة والمشاكل الاجتماعية في ديار بكر ومن بينها البطالة فإن المشهد الطبيعي هو عشرات الأكراد يجتمعون في المقاهي التي تكتظ بها المدينة يلعبون الشطرنج او الدومينو. وعندما يتعبون من اللعب يتحدثون في السياسة، وعندما يتعبون من السياسة، يستأنفون اللعب. ولا تبدو على وجوه هؤلاء الراحة او السعادة، بل التعب والانهاك. «الحياة في ديار بكر متعبة. كل الذين يحصلون على تعليم جيد، ويجدون عملا في إسطنبول أو أزمير او أنقرة من الشباب الكردي، يغادرون المدينة ولا يعودون اليها الا في المناسبات الكردية مثل عيد النوروز. ينسون في هذه المدن مشاكل الهوية، وينخرطون في البحث عن لقمة عيش.. وبعضهم لا يقول انه كردي تركي، إلا اذا فضحته طريقة نطقه للغة التركية» حسب ما قال عمر، وهو شاب كردي في العشرينيات لـ«الشرق الأوسط». ومع أن الأكراد في ديار بكر يحاولون أن تسير حياتهم بشكل طبيعي على قدر المستطاع، الا أن قلب المدينة يغلي بصراع سياسي واقتصادي وثقافي، وقلق على هوية الأكراد في تركيا. ويقول عبد الرزاق سجكين الذي يعمل في بلدية «سور ديار بكر» إحدى بلديات مدينة ديار بكر لـ«الشرق الأوسط»: «تتراجع تركيا تدريجيا عن الاصلاحات الثقافية القليلة التي اتخذتها لصالح الأكراد بهدف الانضمام للاتحاد الاوروبي. واليوم لا يوجد غير بث لساعات قليلة في الاسبوع باللغة الكردية على التلفزيون التركي. الاكراد لا يعتقدون ان هذا يكفي، فهذا ليس اعترافا بالهوية الكردية. هذه علاجات مؤقتة». ديار بكر هي جزء من كردستان تركيا، التي تشكل نحو ثلث مساحة تركيا. وتعتبر جزء من منطقة جبال كردستان وهي موطن غالبية أكراد العالم. وتتوزع جبال كردستان بين مناطق شمال العراق، وشمال غربي إيران، وشمال شرقي سورية، وجنوب شرقي تركيا. لكن العرق الكردي يوجد ايضا في جنوب غربي ارمينيا ولبنان واذربيجان. وإذا كانت مشاعر الأكراد ملتهبة حاليا بسبب احتمالات التدخل التركي في شمال العراق للقضاء على معاقل حزب العمال الكردستاني، فإن هذا ليس جديدا، اذ يشعر الاكراد عموما أن هناك تحالفا دوليا ضدهم كـ«شعب» منذ الحرب العالمية الأولى عندما اتفقت القوى الكبرى على تقسيم منطقة كردستان، والشعب الكردي بين العراق وإيران وسورية وتركيا، وذلك خلال مؤتمر لوزان عام 1922. لم تظهر مشاكل الأكراد مع السلطات التركية الا بعد حكم مصطفى كمال أتاتورك، الذي جعل، بعد بناء الدولة التركية الحديثة، الثقافة واللغة التركية هي اللغة والثقافة الوحيدة المعترف بها، فتم اغلاق المدارس الكردية ومنع استخدام اللغة في المؤسسات الحكومية سواء مكاتب رسمية او مدارس او كتب او صحف او مجلات. كما منع تشكيل أي احزاب سياسية. ولان الجمهورية التركية كانت في سنواتها الاول، اي طرية العود نسبيا، فقد استطاع أكراد تركيا ومعهم أقليات اخرى من بينها الشركس والعرب والأرمن القيام بانتفاضة على يد الزعيم الكردي سعيد بيران (1865 ـ 1925) من أجل الحصول على حرياتهم وحقوقهم الثقافية، لكن هذه الانتفاضة سرعان ما تم قمعها واعدم بيران مع معاونيه في 30 مايو (آيار) عام 1925. وبعد هذه الانتفاضة، شددت السلطات التركية قبضتها على الأكراد، وبحسب مصادر غربية فإن عدد القتلى الأكراد طوال العقود التسعة الماضية بلغ أكثر من مليون. عدد أكراد تركيا اليوم غير معروف على وجه الدقة، والتقديرات تشير الى انهم يشكلون نحو 30% او 40% من سكان تركيا البالغ عددهم نحو 75 مليون نسمة، اي أن عددهم نحو 20 مليون نسمة. وتعد ديار بكر في نظر الكثير من أكراد العالم «عاصمتهم السياسية»، فمنها خرج حزب العمال الكردستاني الذي يتواجه مع السلطات التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي بهدف ضمان الحقوق الثقافية الكردية، والحفاظ على هويتهم. عندما تسأل أي كردي في ديار بكر اليوم: هل تعتبر نفسك تركيا ـ كرديا ام كرديا ـ تركيا ؟ تأتي الاجابة فورا كرديا ـ تركيا. ولا يكره الأكراد اي عبارة لأتاتورك بقدر كرههم لعبارة: سعيد من قال انا تركي. ولا يحب الأكراد سياسيا بقدر حبهم للرئيس السابق تورغوت اوزال (1927 ـ 1993) الذي استخدم كلمة «كردي» لاول مرة في الخطاب السياسي الرسمي التركي عام 1991 بعد صعود قضية الاكراد على قمة قضايا السياسة الدولية، ثم قرار اوزال رفع الحظر الكلي على استخدام اللغة الكردية، واستبداله بحظر جزئي. لكن هذه الحقوق الثقافية التي عمل اوزال على ادخالها لم تؤت ثمارها. فاليوم كلمة كردي ما زالت ممنوعة في تركيا، فمثلا عندما تأتي اخبار الأكراد في التلفزيون الرسمي التركي لا يذكر تعبير «أكراد ديار بكر» بل «أهالي المنطقة». ويقول جلال أكين من المركز الثقافي الكردي لـ«الشرق الأوسط» ان وصف «كردي» ممنوع استخدامه حتى اليوم إلى درجة أن المركز الثقافي الكردي في ديار بكر اسمه (المركز الثقافي). ومركز الفنون الكردي في ديار بكر اسمه (مركز الفنون)، ومراكز تعليم الموسيقى الكردية اسماؤها «مراكز تعليم الموسيقى» فقط. ويوضح أكين ان المركز الثقافي الكردي انشئ عام 2002 من أجل تعليم الجيل الجديد من الأكراد الثقافة والفن الكردي. ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «الشباب الأكراد اليوم يريدون الشهرة السريعة. الباب السريع للشهرة هو الغناء بالتركي وليس بالكردي. ما نحاول أن نحققه هنا هو تعليم الشباب الكردي الفن الكردي الاصيل، والتمسك به وعدم السير وراء التيار والغناء باللغة التركية. فالحقيقة أن كل المغنين المهمين في تركيا اليوم هم أكراد غنوا بالتركي». ويتابع أكين «لا أحد يدعمنا ماليا في المركز. كل المدرسين يعملون متطوعين بلا مقابل. لكن نحن نحتاج مساعدة الأكراد القادرين على المساعدة. فحتى أصغر مركز ثقافي يحتاج مالا. اردنا إنشاء استوديو لتسجيل الأغاني الكردية، لكن هذا يحتاج الى مال ايضا»، موضحا أن هناك استوديو صغيرا أنشئ في المدينة يتم فيه تسجيل الأغاني الكردية، وتوزيعها بشكل غير قانوني، لأنه لا يمكن توزيعها عبر شركات التوزيع التركية الرسمية. عندما انهى أكين كلامه جاء شاب كردي ومعه عود وغنى أغنية كردية مطلعها «انا وحيد يا أمي»، كانت أغنية حزينة. وقال أكين «أغاني الأكراد بها حزن كثير». وكما ان كلمة «كردي» ممنوعة، فإن كلمة «كردستاني» ممنوعة ايضا. ويقول سردار سينغول مستشار الشؤون الخارجية في مكتب عمدة ديار بكر لـ«الشرق الأوسط» انه اضطر لاستكمال دراسته للدكتوراه خارج تركيا، لان الجامعات التركية لم تقبل مناقشة اطروحته التي تضمنت كلمة «كردستاني». وقال سينغول موضحا «عام 2001 قررت أن استكمل دراستي للدكتوراه في الانثروبولوجي. توجهت بأوراقي الى جامعة (هاكتيب) وهي جامعة ليبرالية مناخها العلمي منفتح. تقدمت للامتحان النظري ونجحت. وبعد ذلك كان ينبغي ان انجح في اختبار شفوي ومقابلة مع أساتذة بالقسم. في المقابلة سألني الأساتذة حول اطروحتي للدكتوراه، فقلت لهم إنني أريد دراسة مدارس كردستان تركيا، موضحا ان الموضوع مهم لأنه لا يمكن دراسة عملية التحديث في كردستان بدون دراسة تأثير المدارس. سألني الاساتذة بعدما أنهيت كلامي: هل ستستخدم كلمة كردي، أو كردستاني، في رسالتك؟ فرددت: بالطبع. نظروا الي لفترة وجيزة، ثم قال احدهم: من الأفضل لك ألا تستخدم هذه الكلمات. فقلت له: لماذا؟ هذا قسم للدراسات الانثروبولوجية. هل تريدون محو العرق الكردي من الدراسات الاكاديمية. فردوا علي: بالطبع لا.. لكننا نعتقد ان كلمتي «كردي» و«كردستان» ممنوع استخدامها في الدراسات الاكاديمية. اذا استخدمت كلمتي كردي او كردستاني سيغلق القسم ونذهب جميعا للسجن. هذا مثال حديث. لدي مثال آخر قديم. هناك عالم اجتماع كردي اسمه اسماعيل بسكيشي، استخدم كلمة كردي في رسالته للماجستير قبل 30 عاما، فسجن 20 عاما». ويقول سينغول إن من ضمن الممنوعات مع كلمتي «كردي» و«كردستاني»، حروفا كردية، موضحا ان حرف «دبليو» مثلا ممنوع رسميا استخدامها لأنه ليس لها مقابل في الأبجدية التركية، ومن يستخدمها يحاكم امام القضاء. ويشعر أهالي ديار بكر بالاستياء من الطريقة التي تصور بها الحكومات التركية المسألة الكردية حتى اليوم، وآخرها كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الذي قال إن الأكراد لا يعرفون ماذا يريدون. وقال سردار سينغول «اردوغان لا يعرف ما الذي يقوله.. نحن نريد هويتنا وحقوقنا الثقافية وأولها التحدث بلغتنا الام. قلنا هذا لمئة عام. لماذا يصعب عليهم فهمه؟ لماذا تتحارب الهويات.. انا كردي، ولدت بلغة اخرى غير التركية.. فلماذا ينبغي ان ألغي هويتي الكردية لاكون تركيا؟ لماذا لا استطيع ان احتفظ بهويتي الكردية وأكون مواطنا تركيا في نفس الوقت». مدينة ديار بكر «غيتو» كردي، فأكثر من 95% من سكانها أكراد، والباقي عرب، فيما الأتراك هناك أقلية نادرة. وهي بسبب اوضاعها السياسية والاقتصادية بدأت تعاني في الأعوام الماضية من تزايد معدلات الهجرة منها، خصوصا هجرة العقول الشابة. بنيامين وهو شاب كردي في أوائل العشرينيات من ديار بكرـ قال لـ«الشرق الأوسط» انه كان يريد دراسة الطب، فتقدم بطلبات لمنح دراسية الى حكومة كردستان العراق، التي قال إنها تعطي منحا دراسية لأكراد تركيا للدراسة في جامعات شمال العراق. وأضاف بنيامين: «أحب ديار بكر.. لكنني أتمنى الدراسة بالخارج. نعاني هنا من انتهاك لمبادئ حقوق الانسان. في السجون التركية هناك اطفال أكراد في السجن. عانينا من المذابح ومن التهجير القسري. 400 قرية كردية هجرت من سكانها في سبتمبر (آيلول) عام 1980، بعد الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان افرين. ووقتها اقتيد مهدي زنا، الزعيم الكردي، الذي كان ساعتها عمدة ديار بكر، الى السجن وحبس 15 عاما، طبعا لم يكن هناك خيار.. عناصر حزب العمال الكردستاني فرت الى الجبال بعد الانقلاب وبدأت نشاطات مسلحة ضد الجيش. ما الذي تتوقعونه من الناس؟». ديار بكر مدينة بلا ألوان، صحراوية ومناخها حار وجاف ومترتب، او هكذا تبدو لان اغلب شوارعها غير مرصوفة، كما انها على عكس المدن التركية، غير نظيفة. فأكوام القمامة والمياه الآسنة تتراكم في الشوارع. وعندما توجه اتهامات بالإهمال الى عمدة ديار بكر عثمان بيدرمير او غيره من مسؤولي بلديات ديار بكر، تكون الاجابة ان الدولة التركية تعطي «ميزانية مسيسة» الى ديار بكر، لا تمكن العمدة او المسؤولين المحليين من القيام بدورهم، او اقامة اي مشروعات جديدة، او تحسين مستوى اداء البنية التحتية. وعندما تزور ديار بكر ستجد دائما من يسألك: اي ديار بكر زرتها؟ فالمدينة في الواقع مدينتان. المدينة القديمة بأسوارها التاريخية الطويلة، والتي تعد ثاني اطول أسوار في العالم بعد سور الصين العظيم. قلب المدينة القديمة عبارة عن ازقة ضيقة جدا تزدحم بالبيوت واجساد العابرين بصعوبة، وعلى الرغم من ان شوارع المدينة القديمة غير مسفلتة، والوضع الاقتصادي صعب، كما يبدو من شكل المباني، ونسبة البطالة، الا ان تاريخ المدينة يظهر في عمارتها المميزة. والمدينة الثانية هي المدينة المفترض أنها حديثة، والتي لا يميزها شيء سوى عدة طرق طويلة مرصوفة، وعمارات عالية مبنية بالوان زاهية كالاصفر والاحمر. وفي وسط المدينة الحديث مبنى كبير جدا لحزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الجذور الاسلامية الذي تتردد اتهامات له بين الأكراد انه يسعى الى تعزيز الحركة الاسلامية في ديار بكر، لمواجهة القوميين الأكراد. وقد يلاحظ البعض ارتفاع نسبة الحجاب في ديار بكر مقارنة بباقي المدن التركية، لكن الحقيقة ان الملابس التقليدية للنساء في المنطقة تتميز بالحشمة، وتغطية الرأس جزء من هذه الحشمة، وبالتالي لا يمكن استنتاج زيادة نفوذ الاسلاميين في المدينة، التي لم تقطع علاقتهما بالعالم الخارجي، اذ يوجد بها مطعمان حديثان لـ«بيرغر كينغ»، و«ماكدونالدز». وهذا الجزء الحديث من المدينة يسكنه الموظفون الحكوميون وأكراد الطبقة الوسطى. وتعاني المدينة من ضعف بنائها الاقتصادي، والكثير من السياسيين الأكراد يتهمون الحكومة في انقرة بتعمد إهمال ديار بكر اقتصاديا، ففي المدينة توجد مصانع نسيج وصناعات غذائية صغيرة، لا تستطيع ان تستوعب الايادي العاملة، وبالتالي تعاني ديار بكر من نسبة فقر وبطالة عالية جدا، مقارنة بباقي المدن التركية. ومتوسط الدخل الشهري فيها بين 100 دولار الى 500 دولار، وهذا يعادل أقل من نصف الدخل الشهري للأتراك في باقي تركيا. هذا الوضع الاقتصادي يظهر في حالة المنازل والمباني والعربات التي تسير في الشوارع، وفي حالة البنية التحتية، خصوصا المياه والكهرباء. وبسبب ان الكثير من القرى التركية أخلي من سكانها خلال فترة المواجهات بين الجيش التركي وعناصر حزب العمال الكردستاني، فان البنية التحتية للمدن الكردية بائسة للغاية، والطرق مهملة. وبسبب الفقر والمشاكل التي تتولد منه توجد في ديار بكر ظواهر اجتماعية مثيرة للقلق من بينها التسول وتشرد الاطفال وتسربهم من التعليم لدرجة ان الحكومة التركية بالتعاون مع بلدية ديار بكر بدأت قبل سنوات مشروعا بعنوان «هيا يا بنات نذهب للمدرسة»، لحث الاسر الفقيرة في ديار بكر على إرسال بناتهن الى التعليم، بدلا من العمل في المصانع او التسول. ويعترف الاكراد ان نسبة الجريمة في ديار بكر عالية، وان هناك سرقات فعلا، لكن عبد الرزاق سجكين الذي يعمل في بلدية «سور ديار بكر» قال لـ«الشرق الأوسط» موضحا: «عندما تم تهجير 4 آلاف قرية كردية بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان أفرين، توجه الكثير من الاكراد الى ديار بكر بشكل عشوائي للإقامة هناك. المشكلة ان حياتهم في القرى كانت افضل كثيرا، كانت هناك زراعة وتربية حيوانات على الاراضي التي كانوا يمتلكونها. بعد التهجير القسري، بات الكثيرون بسبب تفشي البطالة مضطرين للسرقة». وقال كردي، تحدث لـ«الشرق الأوسط» بشرط عدم الكشف عن هويته: «هربت من تركيا الى سورية مطلع التسعينيات بسبب الظروف الامنية، ثم عدت قبل 3 سنوات. الان أريد ان اغادر مجددا بسبب الظروف المادية والمضايقات. لو لم يكن لدي عائلة لكنت هربت الان. أعيش بغير اسمي الحقيقي للهروب من الملاحقات الأمنية. هناك اطفال في ديار بكر اليوم يتحدثون التركية فقط، فيما اباؤهم وأمهاتهم يتحدثون الكردية فقط. لا أريد ان أكون أنا وأبنائي في هذا الوضع». ويشتكي الأكراد في تركيا حتى اليوم من أنه لا يتم تصوير الكردي في المسلسلات التلفزيونية او الافلام كمحام او طبيب مثلا، «فالكردي يظهر غالبا كشخص مثير للمتاعب أو ريفيا متخلفا، لكن لا يقال انه كردي، اذا ظهر شخص قروي متخلف يتحدث التركية بلكنة، فهو كردي.. هذه هي الصورة المشوهة عن الاكراد التي نشتكي منها» وبسبب هذه الدعاية وغيرها، يضيف عبد الرازق سجكين «ان الأكراد أنفسهم بدأوا يتأثرون بها، ولهذا يحاولون التحدث بالتركية بدون اللكنة الكردية، لان اللكنة الكردية تؤدي الى فرزهم اجتماعيا وثقافيا وتصعب عليهم فرص العمل والحياة وسط الاتراك. ويتابع «ان الكثير من الأكراد يتعمد ان يخفي أنه كردي عندما يتجه الى العمل في اسطنبول او ازمير او انقرة». لكن بعض الاتراك يرون ان هذا غير صحيح، وتقول جوتشكه غل وهي شابة تركية لم تزر في حياتها ديار بكر، ولا تريد زيارتها بسبب ما سمعته عن أهلها: «الكثير من المناصب البيروقراطية العالية يشغلها اكراد، ولا احد يسألهم عن أصلهم». الشكوى الأساسية للأكراد اليوم هي عدم الاعتراف بهم كهوية وشعب وعدم الاعتراف بحقوقهم الثقافية. ويقول عبد الله دمير باش، رئيس بلدية سور ديار بكر، لـ«الشرق الأوسط»، ان كلام أنقرة عن السماح بفصول تدرس باللغة الكردية لا أساس له عمليا، موضحا «هذه الفصول التي يتحدثون عنها برسوم مالية، هي حصص اضافية. يعني شرطان يجعلان اي شخص يهرب منها. فالكردي يعلم ابنه الكردية في المنزل بسبب استخدام اللغة بشكل طبيعي، فلماذا يرسله الى حصص برسوم مالية؟ هذه حيلة من أنقرة كي تقول للعالم: نحن اسسنا فصولا باللغة الكردية ولم يحضرها أحد». وحقيقة توجد صعوبة في استمرار الصحف او المجلات التي تستخدم اللغة الكردية، واذا وجدت صحيفة جيدة فإنها تواجه خطر الإغلاق، وعندما تغلق تعاود الصدور من جديد تحت اسم جديد، فمثلا خلال العشر سنوات الماضية، منعت صحيفة «ولات» أي (الوطن)، من الصدور، فصدرت مجددا تحت اسم «ولاتي مه» أي (وطننا)، وعندما منعت صدرت مجددا تحت اسم «آزاديا ولات» أي (حرية الوطن)، ويرأس تحريرها الطيب تمل، وهي الان الجريدة الكردية الوحيدة في كل تركيا. وقال عدد من صحافيي الجريدة لـ«الشرق الاوسط»: «المشكلة أنه بسبب التضييق غير المحتمل على حريات التعبير لدينا، هرب الكثير من الصحافيين الأكراد إلى الخارج. الصعوبات كثيرة جدا. نحن توزيعنا اليومي في حدود 10 الاف نسخة، العشرة آلاف نسخة هذه توزع باليد لان شركات التوزيع ترفض توزيع الصحف الكردية». وفي مبنى الصحيفة الذي زارته «الشرق الاوسط» كانت هناك صور معلقة على الحائط لشباب وأطفال، قال المسؤولون عن تحرير الصحيفة «انهم شهداء» رجال الامن التركي، موضحين ان عددا من الصحافيين والصبية الذين يوزعون الصحيفة قتلوا بإطلاق النار عليهم، وأنه برغم تحقيقات السلطات التركية لم يتم توجيه الاتهامات إلى أي شخص أو جهة.

وفي ديار بكر توجد مجلة ثقافية كردية وحيدة تصدر كل ثلاثة أشهر أسمها «الحرف». وقال مدير تحريرها عمر آزاد لـ«الشرق الأوسط»: «صدرنا عام 2004، وهدفنا هو حماية اللغة الكردية. نركز على الثفافة والفن والشعر والرواية الكردية. كذلك نطبع بعض الكتب الصغيرة بين الحين والآخر. فلأننا نمول أنفسنا. نطبع كتابا، وعندما نبيعه نطبع كتابا اخر. لا نحقق اي مكاسب مادية من كتبنا او المجلة. الحقيقة اننا ندفع من جيوبنا». وبسبب عدم وجود برامج كثيرة باللغة الكردية في التلفزيون التركي، فإن الاكراد يشاهدون غالبا المحطات التلفزيونية الفضائية الكردية التي تبث من الخارج، ومنها تلفزيون «روج» أي «الشمس» أو «اليوم» الذي يبث من بلجيكا، ويقوم أكراد أتراك بتمويله جزئيا. ومع أن السلطات التركية عملت على إعاقة استقبال تلفزيون «روج» داخل تركيا، الا ان الأكراد في ديار بكر كما يقولون طوروا وسيلة للتغلب على الرقابة الحكومية. ما الذي يريده الأكراد؟ الاجابة هي «الاعتراف بالهوية، مقابل الاندماج. فلا يمكن ان نندمج كليا في الدولة التركية، وتتوقف كل نشاطات حزب العمال الكردستاني، ما لم يتم الاعتراف بالحقوق الثقافية للأكراد. مطالبنا بسيطة، وليس من المستحيل تحقيقها. نريد الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية، واستخدامها في المدارس. لكن البعض في الدوائر العلمانية والقومية المتشددة يرفض هذا تماما، على أساس ان هذا سيؤدي الى انفصال الأكراد وتفكيك الدولة». يقول سجكين، مشددا على ان غالبية أكراد تركيا لا تطلب او تريد الانفصال بدولة مستقلة. واذا كان الأكراد يشعرون بمرارة بسبب اي شيء، فهو حتما طريقة تعامل المجتمع الدولي مع قضيتهم. ويقول عبد الرزاق سجكين «منذ زمن لم اشعر ان قضيتنا عادلة لان الاعلام التركي دأب على تصويرنا كارهابيين، لم نصدق طبعا اننا ارهابيون، لكننا احيانا ننسى كم ان مطالبنا عادلة وانسانية لان الدعم الخارجي لنا محدود».

* غدا : عمدة ديار بكر: كيف نحل المشكلة؟