قصة المسلمين في بريطانيا

المركز الثقافي الإسلامي في لندن.. تمويل سعودي ومجلس أمناء من السفراء العرب

مسجد ريجنت بارك («الشرق الأوسط»)
TT

عقدت بريطانيا روابط تجارية وسياسية وثيقة مع العالم الإسلامي منذ مئات السنين، لكن المسلمين لم يستقروا في هذا البلد إلا بعد افتتاح قناة السويس عام 1869. وكان أول الوافدين من البحارة اليمنيين الذين أقاموا تجمعا لهم على الشاطئ الشمالي الشرقي لانجلترا، خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. واستقر غيرهم من البحارة المسلمين في مختلف المرافئ المنتشرة في البلاد، بما فيها ليفربول وكارديف، وكذلك في اسكتلندا. ومنذ تلك الأيام، تحولت بريطانيا إلى أمة متعددة الثقافات والأعراق تضم إحدى أكبر الجاليات الإسلامية في أوروبا الغربية. وباتت علاقات أعضاء هذه الجالية تربط بريطانيا بكل بلدان العالم الإسلامي تقريبا. فهؤلاء وغيرهم من الطلاب ورجال الأعمال والسياح الذين يزورون بريطانيا على مدار السنة، بالإضافة إلى السياح البريطانيين الذين يسافرون إلى الخارج، يوثقون اليوم الاتصال بين بريطانيا والدول الإسلامية أكثر من أي وقت مضى. وقد شددت الحكومة البريطانية على أهمية الاحترام المتبادل والتفاهم بين بريطانيا وبلدان العالم الإسلامي وعلى ضرورة اعتراف الغرب بالقيم الدينية والثقافية والاجتماعية الإسلامية التقليدية. كذلك، تعتبر تنمية الاحترام المتبادل والتفاهم بين شتى الجاليات في بريطانيا أمرا حيويا لتحقيق علاقات طيبة في ما بينها. وقد التزمت بريطانيا مبدأ تأمين التساوي في الفرص لجميع مواطنيها بصرف النظر عن لون بشرتهم أو عرقهم أو دينهم. ولا يتوقع البتة من المسلمين ولا من أي فريق آخر في الواقع أن يتخلوا عن إيمانهم أو تقاليدهم؛ فالحكومة البريطانية تعتبر أنه على كل مواطن أن يشعر بالانتماء إلى بريطانيا مهما كان أصله. ولقد حرص المسلمون الأوائل على إبقاء ديانتهم حيّة في النفوس. وانعكس هذا في حماستهم لبناء المساجد، وتوفير أماكن لاجتماعاتهم التي يخصصونها للدعوة والإرشاد، المحاضرات، ولتعليم أبنائهم القرآن الكريم. وتأسس أول مسجد في عام 1860 بكارديف.

وهناك اليوم نحو1500 مسجد في عموم المملكة المتحدة، والعشرات من المراكز الإسلامية التي تقدم خدمات مختلفة للجالية، مثل خدمات عقود الزواج والأحوال الشخصية والنصائح للعوائل، وكذلك تتولى دفن الموتى. وأفضل مثال هو المركز الثقافي المركزي المعروف بـ«مسجد ريجينت بارك» في وسط لندن، الذي يعد منارة علم وثقافة ومعرفة للم شمل أبناء الجالية المسلمة، وتحرص المملكة العربية السعودية على تمويل هذا المركز فيما مجلس أمنائه يشكل من السفراء العرب بلندن. ويقوم المركز ايضا بتنظيم صفوف دراسية للأولاد من سن السادسة إلى السادسة عشرة في عطلة نهاية الأسبوع. وهي تدرّس اللغة العربية، القرآن الكريم والدراسات الإسلامية. وخدماتها مجانية، وهي تقدم لغير المسلمين أيضا كجزء من أعمال الدعوة. ويملك المسلمون الحرية التامة في أداء مناسكهم وصلواتهم وأعيادهم. وهذا ما يلاحظ بجلاء في شهر رمضان المبارك. ومعظم مساجد لندن توفر طعام الإفطار، ويأتي إليها الصائمون لإنهاء صومهم.

وقد شيد البحارة اليمنيون في بداية السبعينات من القرن الماضي أول مسجدين في بريطانيا، وذلك في مدينتي كارديف وساوث شيلدز. كما أن المسجد الذي أفتتح في ووكينغ في مقاطعة ساري في عام 1890 وتحول في السنوات الأولى من هذا القرن إلى مركز اجتماعي لمسلمي بريطانيا لا يزال حتى اليوم مركزا للصلاة والعبادة. وتتراوح المساجد في بريطانيا الآن من حيث الحجم من منازل عادية ومبان تجارية جرى تحويلها إلى مساجد كبيرة الحجم مثل المسجد المركزي في حديقة ريجنت بارك العامة في لندن الذي يعد أحد أكبر المساجد الموجودة خارج العالم الإسلامي. وكانت المقترحات ببناء مسجد مركزي في لندن قد قدمت قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن لم يتم تخصيص موقع لبناء المركز الثقافي الإسلامي المتاخم لحديقة ريجنت بارك إلا عام 1945، في مقابل تخصيص موقع في القاهرة لبناء كاتدرائية انغليكانية جديدة. استقطبت مسابقة دولية لبناء المسجد 52 تصميما من 17 بلدا مختلفا وفاز بها المهندس المعماري البريطاني الراحل السير فريدريك غيبرد. وافتتح المسجد المركزي والمركز الثقافي الإسلامي عام 1978. أما الأمناء عليه فهم السفراء المسلمون في لندن. ويتردد على المسجد أكبر جماعة من المصلين في بريطانيا في يوم الجمعة. ويقدم المركز الثقافي الاسلامي، التعليم الديني الإسلامي ويؤمن الخدمات الاجتماعية بما في ذلك النصح والإرشاد في مسائل الزواج والمشورة القانونية ومساعدة المرضى والعائلات والسجناء. ويحضر الكبار والصغار على السواء فصولا لتعليم اللغة العربية ودراسة القرآن الكريم وسواهما من العلوم الدينية. كما تعطى دروس أخرى في التاريخ الإسلامي واللغات الدارجة في العالم الإسلامي، وتعليم كيفية قراءة القرآن الكريم بما يعرف بعلم التجويد على يد الائمة للسيدات والرجال، كما توجد هناك دورات للتعريف بالاسلام لمعتنقي الاسلام وغير المسلمين الذين يهتمون بمعرفة الاسلام. وتعقد الكثير من الدورات في عطلات نهاية الاسبوع حتى يتسنى لأكبر عدد ممكن من المسلمين وغيرهم من الحضور. وهناك موقع للمركز الثقافي الاسلامي بلندن على الانترنت http://www.iccuk.org/ يعرض فيه معلومات عن الاسلام والخدمات التي يقدمها المركز الاسلامي مثل مواقيت الصلاة، ومواقيت صلاة الجمعة صيفا وشتاء، بالاضافة الى حلقات لتجويد القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية. ويتولى المركز الثقافي أيضا نشرة مجلة «ذي اسلاميك كوارترلي»(أي المجلة الإسلامية الفصلية) ذات العمق العلمي، بالإضافة إلى كتيبات إعلامية ونشرة شهرية. كما يرحب المركز الإسلامي الثقافي أيضا بالزوار والطلاب من غير المسلمين، حيث يستخدم عدد كبير منهم مكتبته الكبيرة. كما يزور المركز في كل سنة أكثر من 30.000 تلميذ بريطاني أدرجت في برنامجهم المدرسي دراسة ديانات العالم. ويقوم إمام المركز الاسلامي بزيارات دورية للسجون البريطانية للتعرف على احوال السجناء المسلمين ورعايتهم روحيا وتقديم الخدمات لهم وتيسير أمورهم الخاصة وحل مشاكلهم، وخلال شهر رمضان يحرص الائمة على زيارة السجون التي بها مسلمون وتقديم وجبة افطار لهم، والصلاة وتناول الافطار معهم، كما ان المركز الاسلامي يقدم خلال شهر رمضان افطارا لما يزيد على الف وجبة يومية لأبناء الجالية المسلمة تزيد خلال عطلة نهاية الاسبوع. ويقدم المركز ايضا معلومات اضافية لمن يرغب من ابناء الجالية المسلمة فيما يتعلق بحالات الوفاة والدفن ومساعدتهم في معرفة المدافن المخصصة للمسلمين وكذلك تغسيل الموتى، وعمليات الختان للذكور من ابناء الجالية المسلمة. وتسعى معظم السلطات المحلية التي يقيم فيها مسلمون إلى تأمين المتطلبات الخاصة بمراسم دفن الموتى بموجب الشعائر الإسلامية في المدافن التابعة لمجالس البلدية. ومن هذه المتطلبات، إجراء الدفن خلال الأربع والعشرين ساعة التي تلي الوفاة، وقد خصص عدد من هذه السلطات أماكن محددة لمدافن المسلمين. ويتضمن كتيب «دفن الموتى المسلمين» الذي نشرته لجنة المساواة العرقية إرشادات حول كيفية تلبية حاجات الجاليات الإسلامية. ويقدر عدد المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا بأكثر من مليون شخص. قدم عدد كبير منهم إلى هذه البلاد خلال فترة الهجرة الكبيرة التي عرفتها دول الكومنولث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي حين ازداد حرص بريطانيا على اجتذاب اليد العاملة الأجنبية. فيما بعد، التحق بالذين استقروا في بريطانيا بعض أفراد أسرهم. كما ان معظم المسلمين في بريطانيا من أصل باكستاني أو بنغلاديشي، ناهيك من مجموعات كبيرة أتت من الهند والشرق الأوسط وأفريقيا وقبرص وماليزيا أيضا. أما اليوم، فإن نسبة متزايدة منهم أصبحت بريطانية المولد، ولا يزيد عمر أكثر من نصف المسلمين البريطانيين حاليا على الثلاثين عاما، وهم أغلبيتهم متحدرون من أبوين مهاجرين بالإضافة إلى عدد من المهتدين إلى الإسلام من غير المهاجرين. وبالرغم من أن المسلمين في بريطانيا متحدرون من مجموعات عرقية وحضارية مختلفة، فانهم بدأوا اليوم ينتمون أكثر فأكثر إلى هوية جديدة هي هوية المسلم البريطاني ينتمي غالبيتهم إلى أهل السنة. ومن المعروف أن المسلمين يعيشون عادة في المدن ونجد معظمهم في لندن وفي الجنوب الشرقي وجنوب ويلز وفي مدن اسكتلندا ومقاطعات الميدلاندز والشمال، بما فيها برمنغهام وبرادفورد ومانشستر وليدز وليستر. ويعيش بعضهم داخل مجتمعات أصغر، في مدينة ستورنواي مثلا في جزر هبريديز الخارجية. وطبع المسلمون بطابعهم ميادين الاقتصاد البريطاني كافة. فمهما اختلفت مهنهم وتنوعت، من أصحاب متاجر إلى معلمين إلى أطباء وأطباء أسنان ومحامين ومذيعين وعمال مصانع ومهندسين وعلماء فجميعهم يساهم مساهمة كبرى في الأعمال التجارية والخدمات العامة والمهن على أنواعها. كما أن مشاركتهم في العمل السياسي في البلاد تزداد تدريجيا، خاصة في البلديات المحلية وداخل الهيئات الاستشارية الرسمية.