الفيروسات الاستوائية قادرة على ضرب وسط إيطاليا

بتأثير الاحتباس الحراري والعولمة

TT

عم الرعب في اغسطس (اب) الماضي في هذه القرية التي يبلغ عدد سكانها ألفي نسمة، ذلك ان الناس كانوا يتساقطون مرضى واحدا تلو الآخر خلال أسابيع، من الحمى العالية والاجهاد وآلام العظام، بينما كانت معظم مناطق ايطاليا تستمتع بالعطلة الصيفية الأكثر أهمية. وقال انتونيو سيانو (62 عاما) وهو متقاعد أنيق «في لحظة ما لم أستطع ببساطة الخروج من السيارة.. سقطت. وفكرت مع نفسي ان ساعتي قد دنت، وانني سأموت. كان الأمر على هذا المستوى من الدراماتيكية».

وبحلول منتصف الشهر واجه ما يزيد على 100 من الناس المرض نفسه. وعلى الرغم من أن أسوأ الأعراض ظهرت بعد اسبوعين، الا أن الأطباء لم يتمكنوا من معرفة ما الذي كان يجري.

وألقى الناس باللوم على التلوث في النهر، وأدانوا الحكومة، ولكنهم أدانوا في الغالب المهاجرين الجدد القادمين من أفريقيا الاستوائية لجلبهم الداء الى بيوتهم المستقرة في هذا الهدوء.

وتساءلت رينا فنتورا، التي تمتلك محلا لبيع الأحذية وحافظات النقود «لماذا المهاجرون؟ واصلت التفكير بهذه الأمراض المهلكة التي ترونها على التلفزيون مثل الملاريا. كنا مرتعبين، ذلك انه لم يكن هناك تشخيص وعلاج».

ومن الغرابة في مكان أن القرويين كانوا على صواب وخطأ. فبعد شهر من التحقيق اكتشف مسؤولو الصحة العامة الايطاليون ان أهالي كاستليون دي سيرفيا كانوا في الواقع، يعانون من وباء استوائي اسمه تشيكونغونيا، وهو قريب من مرض حمى الضنك الموجود عادة في منطقة المحيط الهندي. ولكن المهاجرين الذين نشروا الداء لم يكونوا من البشر وانما حشرات، هي بعوض النمور، التي يمكن أن تنتشر في أوروبا الدافئة. وتتميز كاستليون دي سيرفيا، ارتباطا بتأثير الاحتباس الحراري والعولمة، بأن تكون مكانا لأول داء ينتشر في أوروبا الحديثة، كان في السابق لا يوجد الا في المناطق الاستوائية. وقالت الدكتورة رافائيلا انجليني، مديرة قسم الصحة العامة في رافينا، انه «بحلول الوقت الذي استعدنا فيه اسم الفيروس كان انتشاره قد انتهى. وعندما أخبرونا بانه تشيكونغونيا لم يعد مشكلة بالنسبة لرافينا. ولكنني فكرت: هذه مشكلة كبرى بالنسبة لأوروبا».

وبرهن الوباء على أن الفيروسات الاستوائية قادرة الان على الانتشار في مناطق جديدة، في الشمال الأقصى من مداها السابق. وينتشر بعوض النمور، الذي وصل الى رافينا اول مرة قبل ثلاث سنوات، عبر جنوب أوروبا، بل حتى في فرنسا وسويسرا.

واذا كان بوسع تشيكونغونيا ان يصل وينتشر في كاستليون، فانه ليس هناك من مبرر لعدم وصوله وانتشاره في قرى ايطالية اخرى. وليس هناك من سبب لعدم انتشار حمى الضنك، وهو مرض استوائي مهلك، في هذه المناطق ايضا.

وقال الدكتور روبرتو بيرتوليني، مدير برنامج الصحة والبيئة في منظمة الصحة العالمية، ان «هذه هي اول حالة لانتشار وباء استوائي في بلد اوروبي متطور. ان تغير المناخ يخلق ظروفا تجعل من السهل على هذا البعوض أن يعيش، ويفتح الباب لأمراض لم تكن موجودة هنا في السابق».

واكد استبيان علمي ما اعتبره سكان كاستيليون أمرا مزعجا أكثر منه تهديدا مميتا.

وقال رينو ريتشي أحد عمال الطرق الذي وقع مريضا: «خلال السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة لم يكن ممكنا بالنسبة لك أن تعيش في هذه الشوارع لأن البعوض سيئ جدا. نحن اعتدنا على الاستمتاع بالحديقة من خلال الجلوس فيها وتناول العشاء، لكنك لا تستطيع القيام بذلك الآن. فأنت ستتعرض للأكل حيا».

وقالت الدكتورة انجليني: «إنهم يتعاملون مع البعوض باعتباره أمرا مزعجا فقط، لكنهم يعرفون أن البعوض قادر على نشر أمراض استوائية لكنهم مطمئنون لفكرة أن ذلك لا يمكن أن يحدث في إيطاليا».

وبدأت رافينا حملة لقتل البعوض أملا باحتواء الوباء. وبدأ العمال ينشرون مواد قاتلة للحشرات وذهبوا إلى كل حديقة عائلية، حيث أفرغوا حاويات الزهور والنافورات وبراميل جمع مياه الامطار لإزالة مناطق تكاثر البعوض.

ولم تبق هناك أي حالة مرضية عند حلول سبتمبر (ايلول) الماضي، لكن ظلت هناك حالات وباء مصغرة في المنطقة، نجمت عن بعوض النمور وكل واحد منها تمت السيطرة عليه بالطريقة نفسها.

قالت الدكتورة انجليني: «أدركنا أننا كنا نشاهد نسخة من انتشار سريع في رونين» وهي جزيرة فرنسية تقع في المحيط الهندي، حيث أصيب ما يقرب من 10 آلاف شخص بوباء التشيكونغونيا وما يقرب من 300 إيطالي تم تشخيص اصابتهم بهذا المرض.

وينتشر مرض التشيكونغونيا بعد أن يمتص بعوض النمور الدم من شخص مصاب ثم ينقل الفيروس حينما يلسع شخصا آخر. وجاء بعوض النمور أولا إلى جنوب إيطاليا مع شحنات الإطارات من ألبانيا قبل ما يقرب من عقد تقريبا، لكن أماكن وجوده انتشرت بشكل متواصل مع تزايد درجات الحرارة.

واكتشف المحققون أخير ان كاستيليون دي تشيرفيا الشخص الأول الذي سقط بالمرض في كاستيليون كان قد زار قريبا مصابا بحمى في أوائل يوليو (تموز). والقريب هو إيطالي سبق له أن سافر قبل فترة قصيرة إلى كيرالا الهندية. وفي دمه سافر مرض التشيكونغونيا الاستوائي إلى إيطاليا، لكن الشروط المناخية الآن أصبحت مناسبة كي يجد هذا المرض مقرا له هنا.

والآن مع حلول الشتاء وبلوغ درجات الحرارة حد التجمد في كاستيليون ما عاد هناك أي بعوض فيها. لكن عشرات من سكانها يعانون من آلام المفاصل وهي أحد أعراض مرض التشيكونغونيا الاستوائي.

لكن التساؤل المحير هو هل سيظهر هذا الوباء ثانية في الصيف المقبل هنا. وفي المناطق الاستوائية يظل هذا المرض قائما طوال السنة، لأن البعوض يتكاثر بشكل مستمر. لكن الفيروس يتمكن من البقاء في بيض البعوض أيضا ولا أحد يعلم إن كانت هناك احتياطيات من البيض النائم في بركة ماء في إيطاليا. مع تغير المناخ، سيعود مرض التشيكونغوليا إلى مكان ما في أوروبا حسب قول الدكتور برتوليني.

* خدمة «نيويورك تايمز»