الوداع الأخير لزعيمة حزب الشعب .. بكاء وغضب ولطم رؤوس

23 قتيلا في مظاهرات احتجاج على اغتيال بوتو والحكومة مصرة على إجراء الانتخابات في موعدها

أنصار بوتو يتابعون مراسم تشييع جنازتها في مسقط رأسها أمس (أ.ف.ب)
TT

بالبكاء ولطم الرؤوس ودّع الباكستانيون امس زعيمة «الشعب» بي نظير بوتو. ورافق النعش عشرات الآلاف من المناصرين الذين امتزجت مشاعرهم بالحزن والغضب الى مقابر عائلة بوتو في لاركانا. وبعد 28 عاما من الفراق عادت بي نظير وانضمت أمس الى والدها الذي سبقها الى الموت، ورقدت بينه وبين شقيقيها مرتضى وشاه نواز اللذين سبقاها الى مقابر العائلة أيضا.

واصطف الآلاف في مقبرة عائلة بوتو في مقاطعة لاركانا في اقليم السند جنوبي البلاد، لأداء صلاة الجنازة لراحة نفس بوتو التي قتلت رميا بالرصاص عقب إلقاء كلمة في مهرجان انتخابي في مدينة روالبندي الشمالية.

وجرى آلاف آخرين من الباكين والمؤيدين الناحبين بجانب سيارة الاسعاف التي تحمل النعش لمسافة خمسة كيلومترات انطلاقا من مقر عائلتها الى المقبرة في قرية جارهي خودا باكش. وحملت امواج من الأيدي نعش رئيسة الوزارء السابقة ملفوفا بعلم حزب الشعب الذي ترأسه، بألوانه الاسود والاخضر والاحمر، من سيارة الإسعاف الى مدخل المقبرة لأداء صلاة الجنازة.

وبعد ذلك نقل مؤيدو بوتو النعش الى داخل المقبرة من أجل دفنها بالقرب من والدها رئيس الوزراء السابق ذو الفقار علي بوتو الذي أطيح به على يد الجيش الباكستاني في 1977 وأعدم بعد ذلك بعامين.

وتوفيت بوتو، البالغة من العمر 54 عاما، بتفجير انتحاري قتل معها 22 شخصا آخرين. وتسببت واقعة الاغتيال في اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق ومظاهرات ضد الحكومة الليلة الماضية بمختلف انحاء البلاد ما اسفر عن مقتل ما لا يقل عن 32 شخصا أغلبهم في اقليم السن معقل حزب الشعب.

وانتحب زوجها آصف علي زرداري، وهو يصطحب الكفن الى مقبرة العائلة في قرية جارهي خودا بخش، وصلى في المقبرة مع ابنه بلوال، 19 عاما، وابنته بختاوار، 17 عاما، واصفة، 14 عاما. وحث علي زرداري مؤيديها على ضبط النفس، وقال قبل الجنازة: «إنكم أشقاء أخت شجاعة... أظهروا بعض الصبر وامنحوني الشجاعة لتحمل هذه الخسارة». وقدر عدد الذين توافدوا على قرية لاركانا سيرا على الاقدام أو على متن الدراجات البخارية وعدد آخر من وسائل المواصلات والنقل لإلقاء نظرة الوداع على مؤيدة الديمقراطية، قبل أن تدفن، قرابة 100 ألف شخص. وردد المشيعون شعارات مناهضة للحكومة وأخرى مناهضة لاقليم بنجاب المجاور، وهو الاقليم الاكثر غنى في باكستان والذي يعد موطنا تقليديا للصفوة السياسية والعسكرية والمدنية للبلاد، ورددوا هتافات مثل: «العار على مشرف القاتل والعار على أميركا القاتلة». وفي اقليم السند حيث تتمتع بوتو بشعبية كبيرة ولا سيما بين القرويين الفقراء، قتل 23 شخصا على الاقل بينهم اربعة من أفراد الشرطة خلال احتجاجات. وأصدرت السلطات أوامر باطلاق النار على المحتجين الذين يلجأون للعنف على الفور. وأحرقت مئات السيارات والشاحنات والحافلات في الاقليم ووضع حشود من الرجال حواجز على الطرق ورددوا شعارات مناهضة لمشرف.

وشهدت مدينة حيدر آباد الاضطرابات الاسوأ حيث جرى استدعاء قوات الجيش لاستعادة الهدوء بعد فشل أمر للشرطة باطلاق النار على المحتجين الذين يلجأون للعنف في كبح الاضطرابات.

وقال غلام محترم وزير الداخلية بالاقليم: «يجري نشر قوات الجيش بالمدينة لكن لا يوجد قرار بخصوص فرض حظر للتجول».

وخلت شوارع كراتشي، اكبر مدينة في باكستان، ومركزها التجاري من المارة الى حد كبير امس واغلقت معظم المتاجر ابوابها فيما تقوم قوات الامن والشرطة بدوريات في المدينة. وفي شرق المدينة هاجم أكثر من الفي شخص مركزا للشرطة وأضرموا فيه النار. وقالت الشرطة انهم سرقوا بعض الاسلحة وأحرقوا سيارات خارج المركز.

وذكرت الشرطة ان أعمال عنف اندلعت في أقاليم باكستانية أخرى وقتل شخص في مدينة لاهور الشرقية. وقال شهود انه في مدينة بيشاور في (شمال غربي البلاد) تم احراق مكتبين تابعين لحزبين سياسيين مواليين لمشرف.

وفي وادي سوات حيث يقاتل الجيش متشددين موالين لطالبان قالت الشرطة ان انفجارا وقع في تجمع انتخابي لحزب الرابطة الاسلامية الباكستانية ـ جناح القائد الاعظم الموالي لمشرف ـ أسفر عن مقتل ستة أشخاص منهم مرشح عن الحزب في الانتخابات المقبلة.

وعلى الرغم من تحذير رئيس الوزراء السابق المعارض نواز شريف من ان اجراء الانتخابات في موعدها المحدد في الثامن من يناير (كانون الثاني) المقبل سيؤدي الى «دمار» باكستان، فان الحكومة الباكستانية أعلنت الاستمرار في اجراء الانتخابات في موعدها المحدد بعد أن حثتها الادارة الاميركية على اجراء ذلك. وتصر الولايات المتحدة على تنظيم الانتخابات الباكستانية في 8 يناير رغم اغتيال بوتو إلا ان عددا من الخبراء في واشنطن يشككون في امكانية تنظيمها في الموعد المعلن ويخشون من تصعيد للعنف يحول الانتخابات الى «مهزلة». وكان الرئيس الاميركي قد دعا الباكستانيين الى احترام ذكرى بوتو و«مواصلة العملية الديمقراطية التي وهبت بوتو حياتها بشجاعة من اجلها».

وقال شريف للصحافيين: «اذا بقيت الحكومة متمسكة بموعد اجراء الانتخابات فذلك سيؤدي بنا الى طريق التدمير الذاتي الذي لن يؤدي فقط الى تدمير الحكومة وانما ايضا الى تدمير البلاد». وطالب الرئيس الباكستاني بالتنحي عن منصبه متهما اياه بشكل مبطن بانه مسؤول عن اغتيال بوتو، معتبرا ان هذه العملية تشكل «دليلا» على عدم وجود اي رغبة لديه في اجراء انتخابات «حرة وعادلة».

وكان شريف قد أعلن بعد ساعات من مقتل بوتو أن حزبه سيقاطع الانتخابات التشريعية والاقليمية. وكان شريف الذي يرئس ثاني اكبر حزب في المعارضة، بعد حزب بوتو، قد وعد قبل ساعات الباكستانيين امام المستشفى الذي توفيت فيه رئيسة الوزراء السابقة «بخوض حربهم» ضد سلطة مشرف.

إلا ان الحكومة لم تعر تحذيرات شريف اهتماما، وأكد رئيس الوزراء المؤقت محمد ميان سومرو ان موعد الانتخابات سيظل كما أعلن. لكن محللين يقولون ان اغتيال بوتو الذي جاء في أعقاب سلسلة من الهجمات الانتحارية وتنامي أنشطة المتشددين الاسلاميين قد يجعل ذلك مستحيلا.

الى ذلك، اتصلت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بخليفة بوتو على رأس حزب الشعب الباكستاني امين فهيم لحثه على المشاركة في الانتخابات في موعدها. واعلن المتحدث باسم الخارجية توم كايسي ان «المتطرفين الذين نفذوا الهجوم سيكونون المنتصرين اذا نجحوا في تأجيل او تأخير» الانتخابات.

لكن براين كاتوليس من المركز الاميركي للتقدم يرى ان «تأجيل الانتخابات لا يفسح المجال فحسب امام تهدئة الوضع وانما كذلك يعطي الفرصة لتنظيمها في ظروف افضل» كما يمكن ان يسهم التأجيل في تحسين صورة الولايات المتحدة لدى الباكستانيين، وفق الخبير في الشؤون الاسيوية العائد لتوه من زيارة استمرت اسبوعين لباكستان.

وقال كاتوليس لوكالة الصحافة الفرنسية أن «الباكستانيين لا يكنون الكثير من الحب للولايات المتحدة. اذا اصرت الولايات المتحدة بطريقة غير مدروسة على تنظيم الانتخابات، فان الشكوك الكثيرة المحيطة بهذه الانتخابات (..) ستؤدي الى تعميق الشقاق». وأضاف «إن تمسكنا بالانتخابات لا يساعدنا في شيء"، مبديا خشيته من ان تشهد التجمعات الانتخابية الجديدة مزيدا من اعمال العنف.

وكانت التقديرات تشير الى فوز بوتو في الانتخابات. وعملت الولايات المتحدة لفترة طويلة من اجل اقامة تحالف بين مشرف وبوتو التي كانت مرشحة لتولي رئاسة الحكومة في عهده.

* أسرار الاتصالات التي أدت لعودة بوتو إلى باكستان

* واشنطن أكدت لمشرف دعمها له مقابل إعادة زعيمة حزب الشعب

* واشنطن: روبن رايت وغلين كسلر* كان قرار العودة إلى باكستان بالنسبة لبي نظير بوتو قد تحدد خلال مكالمة هاتفية جاءتها من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية قبل أسبوع واحد من عودة بوتو إلى باكستان في أكتوبر الماضي. وجاءت المكالمة تتويجا لجهود دبلوماسية سرية، وهي لم تجر إلا بعد تشكل قناعة عميقة بأن ابنة السلالة السياسية الأقوى في باكستان هي الوحيدة القادرة على دعم الحليف الأساسي لواشنطن في حربها ضد الإرهاب.

كانت نقطة تحول هائلة بالنسبة لبوتو، رئيس الوزراء السابقة التي أجبرت على التخلي عن السلطة عام 1996 وسط تهم بالفساد. وهي فجأة راحت تستقبل مسؤولين كبارا في وزارة الخارجية الأميركية أو تتناول العشاء مع سفير الولايات المتحدة للأمم المتحدة زلماي خليل زاد وتجتمع بأعضاء من مجلس الأمن القومي الأميركي. ومع بدء اهتزاز موقع الرئيس المقبل لباكستان برويز مشرف، أصبحت بوتو السياسية الوحيدة التي قد تساعده على البقاء في السلطة.

قال مارك سيغل، الذي شارك في حملة ضغط لصالح بوتو في واشنطن والذي شهد الكثير من الاتصالات وراء الكواليس: «وصلت الولايات المتحدة إلى قناعة أن بوتو لا تشكل تهديدا للاستقرار، بل هي طريق محتمل يمكن أن يضمن الاستقرار وإبقاء استمرارية رئاسة مشرف من دون أي ضرر».

لكن الدبلوماسية التي انتهت بطريقة حادة ومفاجئة مع اغتيال بوتو أول من أمس كانت دائما مقامرة كبيرة حسبما قال أعضاء كونغرس في الولايات المتحدة وبعض مسؤولي الاستخبارات ومحللون مستقلون. فعن طريق الدخول إلى «اللعبة الكبرى» الأسطورية لجنوب آسيا، جعلت الولايات المتحدة من أهدافها ومن حلفائها أكثر عرضة للأذى وأكثر ضعفا في بلد يقف أكثر من 70% من سكانه ضد الولايات المتحدة.

وترك اغتيال بوتو مستقبل باكستان ومشرف على كف عفريت، حسبما قال بعض الخبراء. واكد بارنيت روبن من جامعة نيويورك: «سياسة الولايات المتحدة في حالة تمزق. كانت إدارة بوش تعتمد عل مشاركة بي نظير بوتو في الانتخابات لمنح مشرف سلطة مستمرة كرئيس. والآن مشرف انتهى».

ويعكس اغتيال بوتو القوة المتزايدة وحجم التغلغل للقوى المعادية للحكومة في باكستان وهذه تفرض تهديدا وجوديا على البلد، حسبما قال الكسندر تيير المسؤول الأميركي السابق في الامم المتحدة. واضاف: «الخليط الخطير من قوى عدم الاستقرار الموجودة في باكستان: طالبان والطائفية والنزعات القومية الاثنية، قابلة لأن تتفاعل بطرائق غير متوقعة لزعزعة وضع باكستان أكثر مما هو عليه الوضع حاليا».

كانت عودة بوتو السياسية في طور التشكل خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة. ففي منتصف عام 2006 بدأت بوتو ومشرف بالتواصل عبر وسطاء حول الكيفية التي قد يتعاونان وفقها. وكان مساعد وزير الخارجية ريتشارد بوتشر غالبا الوسيط ، حيث راح يسافر بانتظام إلى اسلام آباد للتحدث مع مشرف ثم يذهب إلى لندن ودبي للقاء بوتو.

وفي كتاب عن سيرته الذاتية صدر عام 2006: «على خط النار» كتب مشرف أن بوتو «حوكمت مرتين، وجرى تجريبها وفشلت ويجب عدم منحها فرصة ثالثة. بي نظير أصبحت رئيسة حزبها لمدى الحياة، ضمن تقاليد قديمة خاصة بالديكتاتوريين الأفارقة».

وشكلت نقطة حاسمة تلك الزيارة التي قامت بها بوتو الى الولايات المتحدة في اغسطس الماضي والتي دامت ثلاثة اسابيع، عندما تحدثت مرة أخرى الى بوشر وخليلزاد، وهو صديق قديم. وكان خليلزاد، السفير الأميركي السابق في افغانستان، متشككا منذ زمن بعيد بشان مشرف، وعندما كان في كابل اختلف مع وزير الخارجية في حينه كولن باول حول ما اذا كان الزعيم الباكستاني مساعدا في القتال ضد طالبان. كما حذر من أن الاستخبارات الباكستانية تسمح لطالبان باعادة ترتيب اوضاعها في مناطق الحدود، وفقا لما قاله مسؤولون أميركيون.

وعندما عادت بوتو الى الولايات المتحدة في سبتمبر طلب خليلزاد أن يستقل معها طائرتها ليتوجها من نيويورك الى أسبن بكولورادو حيث القى الاثنان خطابين. وقضيا كثيرا من رحلة الساعات الخمس بالطائرة وهما يبحثان في القضايا الاستراتيجية. وقال اصدقاء ان بوتو طلبت مساعدة أميركية. وقال بيتر غالبريث، السفير الأميركي السابق وصديق بوتو من ايام الدراسة بهارفارد، انها «أوصلت الفكرة الى ادارة بوش. لقد كانت رئيسة وزراء مرتين ولم تكن قادرة على تحقيق انجازات كثيرة لأنها لم تمتلك السلطة على معظم المؤسسات الأكثر اهمية في باكستان، وهي الاستخبارات والجيش والمؤسسة النووية».

وقال غالبريث انه «بدون السيطرة على هذه المؤسسات لم تكن قادرة على تحقيق السلام مع الهند، وملاحقة المتطرفين او نقل اموال من الجيش الى البرامج الاجتماعية. وقد كان التعايش مع مشرف مهما لأنه يسيطر على المؤسسات الثلاث. وكان ذلك السبيل الوحيد لانجاز شيء ما وخلق مركز «معتدل».

وكانت النقطة الحاسمة التي اثرت على مشرف هي الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية جون نغروبونتي الى اسلام آباد في سبتمبر. وقال بروس ريدل الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية والعضو في مجلس الأمن القومي، والذي يعمل حاليا في مركز سابان لشؤون الشرق الأوسط السياسية في معهد بروكنغز، قال «انه سلم رسالة الى مشرف تقول اننا سنقف الى جانبه ولكنه بحاجة الى وجه ديمقراطي للحكومة، ونعتقد أن بي نظير هي الخيار السليم لذلك الوجه».وكان كثير من مسؤولي السياسة الخارجية متشككين بالخطة الأميركية. وقال ريدل انه «كان هناك كثيرون داخل الادارة وفي وزارتي الخارجية والدفاع والمخابرات ممن يعتقدون ان هذه فكرة سيئة من البداية لأن آفاق عمل الاثنين سوية لادارة البلاد كانت صفرا من الناحية العملية».

واتصلت رايس، التي باتت معنية بالمراحل الأخيرة من التوصل الى اتفاق، ببوتو في دبي وتعهدت بأن تتابع واشنطن العملية. وبعد اسبوع من ذلك وفي يوم 18 أكتوبر عادت بوتو. وبعد عشرة اسابيع قتلت.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»